موقع «تاريخ سورية» أوّل متحف إلكتروني توثيقي
تظهر الكاتبة الروائية أغاتا كريستي في صورة فوتوغرافية التُقِطَت لها، أثناء زيارتها سورية عام 1935، جالسةً على الأرض، مبتسمةً، بينما توضح صورة عامّة أُخرى، حركتها وهي تحزم أمتعتها أمام السيارة التي تُقِلّها، في لحظة نادرة. الصورة التوثيقية عرضها موقع «تاريخ سورية»، إلى جانب العديد من الوثائق والصور والطوابع ومقاطع الفيديو والمعلومات التي تنتمي إلى فترة مهمة في تاريخ سورية. ويربط الموقع بين شخصيات سوريّة عريقة وأحداث كبرى رسمت التاريخ الحديث للبلاد.
وعلى رغم أن التأريخ والتوثيق السياسيّ يغلبان على المتحف الإلكتروني الأول في سورية، فإن أهمية محتواه ثقافيةٌ أولاً، وتكمن في أن مضمونه نادر وغير متوافر على أيّ مواقع إلكترونية أخرى، خصوصاً مع انتشار كمٍّ هائلٍ من الصور الفوتوغرافية القديمة (أبيض أسود) على شبكة الإنترنت، والتي التُقِطت لأهم المناطق في مدن سورية عدّة، على رأسها العاصمة دمشق.
بين الفينة والأخرى، نقع في الموقع على وثائق توضح أهمية سورية بوصفها مكاناً إنسانياً وحضارياً في الدرجة الأولى، وهذا ما يجعل الموقع مجالاً للبحث والقراءة المتأنية في ملامح التاريخ السوري السياسي، والإنساني، والثقافي المعرفي.
«حفلة تمثيلية غنائية موسيقية رائعة، لم تشهد المصايف السورية لها مثيلاً»، الكلمات السابقة ليست سوى إعلان ترويجيّ لـ «الفرقة السورية للتمثيل والموسيقى»، وهو مُؤرَّخ بدقّة (يوم الأحد 5 أيلول - سبتمبر 1948)، ويُعَدّ الإعلان اليومَ وثيقةً مهمة، تُسلِّط الضوء على النشاطات الفنية التي أقيمت آنذاك، وتحديداً في حديقة (سان جورج في بلودان قرب دمشق)، وبطل هذا الإعلان هو الممثل السوري أنور البابا، الذي كان يتنكّر مُجسِّداً شخصية امرأة شعبية هي أمّ كامل، في سلسلة فكاهية، تلك المرأة التي بقيت حاضرةً دائماً في الذاكرة السورية التمثيلية.
نشر الموقع إعلاناً آخرَ لـ «فرقة المسرح الحُرّ»، صُمِّم من أجل البرنامج الفني لمعرض دمشق الدولي الخامس، في العام 1960، وقد أسندت البطولة إلى النجم عبد اللطيف فتحي، الذي يظهر في صورة أُخرى بين ممثلي المسلسل الكوميدي الشهير («صح النوم» عام 1971)، ونجد لقطة أخرى لصباح قباني (أحد مؤسسي إذاعة دمشق وأول مدير للتلفزيون السوري عام 1960).
وُلِدت فكرة موقع «تاريخ سورية» إثْر لقاء جمع مُؤسِّسَه المؤرخ سامي مبيض، مع صديقه سحبان عبد ربه (واحد من الأوائل في تصميم المواقع الإلكترونية وإنشائها على الإنترنت، كما يصفه مبيض في مقدمة الموقع التعريفية). يقول مبيض إن موقع «تاريخ سورية» متخصص في توثيق التاريخ السوري الحديث منذ العام 1900، إلى العام 2000. ويكتب: «كان المنطق وراء المشروع بسيطاً ومباشراً، وهو أنه ما من أحدٍ قد سبق وقام بعملٍ كهذا من قبل. أمّا أنا، فكنت أمتلك أكبر أرشيف مُصوَّر لسورية، وامتلك سحبان الخبرة التقنية والمعرفية لجعل هذا الموقع واقعاً ملموساً».
إحدى الصُّوَر التي انتشرت في بعض مواقع الإنترنت، والتي كُتِب تحتها أنها لـ «أطباء يقومون بعملية في مشفى في الحميدية»، ينشرها الموقع ضمن سياقها التاريخي الصحيح، وقد كُتب توضيح إلى جانبها: «طلاب كلية الطب في الجامعة السورية في العشرينات».
لا يسهو المؤرخ مبيض عن شرح التفاصيل التاريخية التي تضيف إلى الوثيقة قيمتَها الحقيقية. وقد قُسم الموقع على النحو الآتي: «الصور، الطوابع، الوثائق، مقاطع الفيديو، الصوتيات، العلم السوري»، إضافةً إلى طريقة شائقة لاستعراض المعلومات حسب «الحقبة، الموضوع، البلد، الأشخاص». كل هذا متاح أمام الزائر برشاقة ومصداقية. وعلى سبيل المثال، يعرض قسم الفيديو مقطعاً مُصوَّراً للفنان السوري سلامة الأغواني في العام 1955، إلى جانب مقاطع أخرى، منها خطاب الرئيس جمال عبد الناصر يوم إعلان الوحدة في شباط (فبراير) 1958.
بينما تُغنِّي فيروز في مقطع صوتيّ «سائليني يا شآم» (ألحان الأخوين رحباني وتأليف الشاعر سعيد عقل)، ويُشرَح تحت التسجيل أنها غنّتْه على أرض معرض دمشق الدولي. كما يوضع في القسم ذاته (الصوتيات)، تسجيلٌ نادر لنشيد «بلاد العرب أوطاني» بصوت الفنان السوري صباح فخري، وقد ألّف فخري البارودي النشيد عام 1930، ولحنه الأخوان فليفل، وأدّاه صباح فخري الذي لقّب نفسه (كما يوضح الموقع) بـ «فخري» إكراماً لفخري البارودي الذي رعاه وتبنّاه فنياً.
يُحدِّث الموقع محتواه كل فترة، ويضيف إلى أرشيفه كُلَّ جديد مهم. وفي قسم الطوابع، نلمح طابعاً بريدياً لم يُكتَب عليه مقدار تعرفته المالية، ولم يُشَر إلى العام الذي استُخدِم فيه، وقد لُوِّن باللون النهديّ، وكُتِب عليه «جبل الدروز- قنوات»، بينما رُسِمت داخل مستطيله أعمدة أثرية. تجمع صورةٌ فوتوغرافية الشاعرين نزار قباني وأدونيس، مع الرسام الفلسطيني ناجي العلي (في لندن عام 1986)، ويُنشَر على الموقع أيضاً، مخطوط للنسخة الأولى من أول ديوان لقباني («قالت لي السمراء»، دمشق 1947)، يهديه الشاعر بخطِّ يده إلى والدَيْه.
والموقع مُتاح باللغتين العربية والإنكليزية، وهو يُمكِّن الزائر من رؤية التاريخ السوري بصرياً، ومن جهةٍ لا تُوفِّرها الكُتب والدراسات النظرية، إذ إن الوثيقة والصورة تجمعان بين عاطفة المكان وأهمية الشخصيات والحدث التاريخيّ.
رنا زيد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد