هجرة «ماكيافيللي» من بلاد الرافدين
لا يستطيع «كينيث بولاك» أن يستوعب الرد المضاد «الافتراضي» الصادر من «ماكيافيللي» حول الأمور القائمة الآن، وبعد عقد تقريباً من الاحتلال الاميركي للعراق. ذلك لأن «الأمـير الحـديث» في العراق، وبعد قرن تقريباً من ظهور «دولته» الحديـثة، قد برز بصـيغة «الاحتلال الاميركي» وبكل تفاصيل ظواهره المختلفة وفي شتى الميادين. لكن، واعتماداً على «تاريخية» النص، يمكن إنعاش ذاكرة هذا المحلل المتآمر ببعض مفردات «ماكيافيللي» حين قال: «لقد قدمت درساً للأمراء بنية أن أبين لهم ضجرنا من سياستهم واستبدادهم، فإما يندفع الناس نتيجة فقـدان الأمل نحو التمرد والعصيان، وإما ينتظرون قدرة الإله المخـلصة المعاقبة لهؤلاء الزنادقة»! فهل يدرك «بولاك» مأثرة وعظ السلطان وهو الذي يسبّح بحمد الامبراطورية ليل نهار؟
إن «بولاك» في كتابته الأخيرة في «انترناشونال انتريست»، تشرين الثاني ـ كانون الأول 2012، قراءة ماكيافيللي في بلاد الرافدين، ينكر كلياً في منهجه السطحي هذا «السياق الانغلوسكسوني الذي ولدت فيه وتطورت الذرائعية الاوروبية، التي ارتبطت باسم ماكيافيللي، والتي وصلت في تجربتها الملموسة إلى الذروة في الفكر السياسي الاميركي المركنتيلي المعاصر. بهذا، فهي معارضة جداً للتصورات التي يمكن أن تنجم عن الفكر الديني «الكاثوليكي» التقليدي أو في التشريع «الإسلامي» الخاص والعام، والذي ينكر ويفتقد كلياً إلى الاهتمام «بالقانون الدستوري» الذي نشأ وترعرع في الحضارة الرومانية الغنية. لذلك نقرأ أن «بولاك»، وهو يعي جيداً أن «المالكي» هو القائد الرسمي لحزب «الدعوة»، يخاطبه بالنيابة عن «ماكيافيللي» بالقول: «تصرف كما لو كان تصرفك سيصبح قاعدة لسلوك كل الناس في الظروف المماثلة»! لكنه فجأة، ومن دون شرح، يستدير في مناقشة، ثقيلة الظل، للعلاقة بين «المالكي» ونخب «القوى الأخرى»، الموالية والمعارضة، ويسرع إلى إسداء نصيحة رخيصة: «يجب أن لا تفي بوعدك إلا إذا كان مهماً»! وهي مقولة متحذلقة للأب الروحي للمحافظين الجدد، ومنهم بولاك، الفيلسوف الملتبس «ليو شتراوس»، التي التزم بها «جورج بوش الصغير» حين قاد الاختطاف التاريخي للمؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة!
لكن «بولاك» الحريص جداً، رغم البكاء والنحيب، على نجاح التجربة الاحتلالية في العراق، وقد نظر لها في كتابه «العاصفة المهددة» ـ حالة غزو العراق - في العام 2002، ما زال يعتنق نفس الفكرة بخصوص «الحرب والغزو والاحتلال» ضمن خط «التطابق المدهش» الذي أشار إليه «جاك لاكان» في ثلاثيته المبدعة: الرمزي، المتخيل، والواقعي. فالكاتب «بولاك» يضطر، من خلال خيبته، إلى تفسير الحدث الاحتلالي على ضوء المصالح «المقبلة» للامبراطورية الاميركية لا الأطماع «المباشرة» لها. بهذا المعنى يحاول «بولاك» التنصل من فشل العثور على «أسلحة الدمار الشامل والعلاقة مع القاعدة» ـ بالرغم من أن هذا العنصر «المتخيل» قد تحول عملياً إلى جيوش مقاتلة بقيادة شركة «اكسون موبيل» في سعيها للاستحواذ على العراق لا النفط فقط. وفي النهاية يعثر «بولاك» على لقيته الثمينة في الإمساك بالعنصر «الواقعي» للاحتلال، وهو الأمن والاستقرار للعراق وللشرق الأوسط.
لكن «بولاك» في محاججته الساذجة، يدير ظهره كلياً للإشكالية المعروفة حول طريقة قراءة، وزمن قراءة، نصوص «ماكيافيللي» وتحديداً كتاب «الأمير». إن أهدافه عدوانية دائماً للإساءة إلى «روح» العراق ومكانته التاريخية الاستثنائية. ولأنه يتصور بنمطية هزيلة بأن التلاقح بين «الذرائعية» الاميركية المحتلة والذرائعية المبتذلة والمسكونة في مكونات «بول بريمر» العراقية، قمين بحل كل التناقضات الراسخة في السياق الاحتلالي، يتمنى الآن بأن تعيد هذه «النخب» أفكارها حول التجربة الديموقراطية الاحتلالية والإقرار بأنها كانت هي بالأساس المسؤولة عن «أخطاء» الاحتلال وقيادته في واشنطن!
ليست الخطورة في المقارنة التاريخية «المتعسفة» عند «بولاك» فقط. حين يقرر الآن بأن «العراق» مع محيطه المتنوع يشبه حالة «فلورنسا» في أوقات «ماكيافيللي» السياسية التاريخية والحالة المتصارعة لجمهوريات ايطاليا التجارية المبعثرة! إن «مقررات بولاك» حول الأوضاع الراهنة هي تهديدات جدية بأن يكون مصير العراق ومحيطه متشابه مع حالة ايطاليا «ماكيافيللي» السابقة. لأن العراق «المبعثر» والفوضى فيه، إنه يتحدث باستمرار عن حكومة لا عن دولة، ومكوناته المتصارعة دموياً ومحيطه المتنوع، العربي فقط، الذي يعاني من الهشاشة والتفتت والفساد والعصبيات القبلية والمذهبية، كلها جديرة بأن تؤدي بالعراق إلى أن يسير على سكة «ماكيافيللي» وخريطة الطريق التي رسمها في حينه.
بيد أن «بولاك» ينسى، ويتناسى، بأن أطروحته «الجيوسياسية»، المتكلفة هذه، هي مزيج من التهافت والتزوير مع سبق الإصرار والترصد. فقد كانت «اوروبا» في القرن الخامس عشر تتشكل من «1500 وحدة سياسية» تقريباً واختزلت بفعل «التطور الرأسمالي» إلى حوالي «300 وحدة سياسية» في عام 1648 ـ سنة معاهدة «ويستفاليا»، لتصل الآن إلى «50» وحدة سياسية مستقلة. ولكن بعد! توقيع اتفاقية «مالطة» بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.
إن «بولاك» في هذيانه هذا في التزييف «الجيوسياسي» للعراق ومحيطه لا يبرر فقط «الحرب والغزو والاحتلال» وإنما يسجل بكل رعونة أهمية عودة «الاحتلال» مرة ثانية إلى العراق. من أجل استكمال «المرحلة الانتقالية» التي أصابها العطب نتيجة القرار «المتسرع» لرئيسه «اوباما» في الخروج في نهاية السنة المنصرمة. وهو هنا يجهر «بأمانة» بخصوص العلاقة المباشرة، ولكن بشكل معكوس، بين أهمية بناء «الحكومة ـ لا الدولة» وبين الحفاظ على الاستقرار والأمن في العراق والشرق الأوسط ـ دائماً طبعاً «إسرائيل».
لكننا يجب أن نحدد بوضوح وصرامة بأن النقد السياسي للدول «الامبراطورية»، وبغض النظر عن الرأي السقيم القائل بكونها امبريالية أو لا، لا يصح أبداً إلا في مجرى المناقشة الجدلية للعلاقة «التكتونية» بين «الامبريالية» كمفهوم سياسي ـ اقتصادي، في مرحلة تاريخية معينة، وبين «الجغرافية السياسية»، كمفهوم سياسي ـ تاريخي طويل المدى، يضم بين جناحيه العلاقة الملتبسة لحياة الشعوب والأمم والدول في الصلات الشائكة والمعقدة بين مركزها «الجغرافي» ومسارها التطوري «التاريخي». من هنا فإن «بولاك» يتحايل على «التحليل» بوضع «النتيجة» قبل «السبب» من أجل تسويغ كل العقابيل التي حصلت، وما تزال، بفضل «الحرب والغزو والاحتلال»!! من هنا فإنه يلجأ أيضاً وبسردية «مضادة» لدور «الاستبداد» في تاريخ العراق الحديث، حيث هو امتداد لتاريخه التقليدي، وإشادته المباشرة «للوصفة السحرية» التي يجترحها لمعالجة الحالة القائمة وكأنها أيضاً استمرار للتقاليد السابقة وليس للاحتلال دوره الخاص والحيوي في إشعالها، على أفضل التقديرات، والعمل من أجل استثمارها لتحقيق الأجندة السياسية التاريخية للولايات المتحدة.
إن بيان «التحليل» النخبوي الذي يطرحه في سطور مداخلته يتضمن، حسب المفهوم الشائع لدى «ليو شتراوس»، تحولاً نوعياً إلى مسـطرة فكريـة جديدة لبناء الشخصية «الكاريزمية» المطلوبة للأزمة في العراق أو حتى في المنطقة، وهو يتجاهل بامتعاض أحمق العوامل المضادة «للكاريزما» المفتعلة، وحتى في معاييرها «الفيبرية» المستهلكة! ذلك لأن الأزمة ببساطة: «إذا لم تجد هذا الحل العضوي، الكاريزما، فهذا يعني وجود توازن «استاتيكي» فاسد يعـرقل عملياً المسيرة في الاتجاهين المتضادين: التقدمي الفعلي لنقل العراق إلى حالة سوية عليا، أو الرجعي المتخلف الذي يعود بالعراق القهقرى إلى العصور المـظلمة. ويلاحظ هنا أن الحبور هو الشعور الملازم للمحـلل «بولاك» حين يفحص مريضه الخاص ويكتب له وصفته المميتة.
وفي هذه المواجهة «الباردة» والقراءة الاستفزازية يتذرع «بولاك» بثلاثية جديدة مزروعة في التربة العراقية، كما في أقطار المحيط العربي، التي خضعت لنفس الناموس الاميركي! إنها ثلاثية « الدين، الحزب، والدولة، وهو يعتنق فكرة رديئة بأن تقويض «الدولة» أو تأسيسها لا يختلف تاريخياً عن تقويـض «حزب» أو فكرة «دينية» محددة! وهذه تبدو ضمن النقد العلمي آراء انهزامية عفنة، فالعناصر الثـلاثة مترابـطة عضوياً ويقود كل منها إلى الآخر في كل عملية سياسية تاريخية صحيحة وخالصة! لكنه في عناده «الفلسفي» التجاري يحاول أن يسوق «وصفته» بشكل ملموس، نعثر عليه في دكاكين الطب الشعبي أكثر من الصيدليات اليومية! إن ثلاثية: الدين، الحزب، والدولة تجد ضالتها في ثلاثية «مسرحية» أخرى: الحكيم، السوقي، والسيد المطاع. فالحكيم هو الذي يحب الحقيقة المتسامية والسوقي هو الذي يعشق الثروة والمتعة، أما السيد المطاع فهو المدمن على المجد والشرف! وهم في حسناتهم وسيئاتهم يحملون مسحة إلهية، إقرأ امبراطورية، في عقلياتهم وتصرفاتهم التي تفضي إلى الهاوية دوماً، والتي تعتبر من قبلهم، والمنظر بولاك، خارج إطار حتى «الحقيقة المطلقة». أليست هذه الشخصيات هي فعلياً انعكاسات مباشرة لمرايا الفكر الامبريالي وأجنداته في تقويض «الدول والأحزاب والأديان» وإعادة البناء على ضوء «مصالحها» المقبلة لا أطماعها المباشرة؟
إن «بولاك»، المحلل السابق في المخابرات المركزية الاميركية، حين يشير بنزق إلى أن الخوف هو الحليف الأساسي للطغيان، يفكر بصوت عال وبهلع بأن الخوف من التغيير الحقيقي في العراق والمنطقة هو الحليف الأساسي أيضاً لطغيان «الحرب والغزو والاحتلال»، وأفكار المنظرين من نمط «بولاك» وأعوانه في الليبرالية الاحتلالية العراقية والعربية، ومساندتهم غير المشروطة للأحزاب الطوائفية والعرقية التي تقود فعلياً «العملية السياسية» في البلاد.
يلوح العراق الآن، ومن خلال التشخيص السريري للمحلل «كينيث بولاك» وكتابته لوصفته السحرية الكاذبة، لا يختلف عن «القندس» في الأسطورة المعروفة عنه. فقد قطع «القندس» خصيته لينقذ حياته من صائديه الذين يطاردونه لأنهم يريدون خصيته التي تستخلص منها العقاقير!! التي كتبها «كينيث بولاك» في وصفته الجديدة الزائفة.
طارق الدليمي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد