هل تنتحل الكتابة أنساباً صافية؟
كنت شغوفاً بشعر المتنبي الى حين عرفت ان لوثة السرقة مسّته، وأنه مثل سائر الشعراء والأدباء، لم يكن بمنأى عن اختطاف بيت من الشعر، أو شطر، او لفظ، أو معنى، أو شبهة معنى، من الشعراء الذين سبقوه. ترنّحت ثقتي بعبقريته، وحدّت من غلواء تعظيمي لمنزلته الشعرية. كان الشعر أو الأدب أو الإبداع الجمالي في ذهني، عملاً بريئاً وخالصاً، وأصلاً لا أول له، ولا سابق عليه. وهو الموجود على غير مثال. يحاكي نفسه بنفسه، وينتظم تلقائياً، ويتوالد توالداً ذاتياً من دون تلاقح مع سواه. وكل محاولة للتطعيم تطعن في صدقية الكاتب ونزاهته، وتقدح بموهبته وقدراته الإبداعية. لكن اتضح لي بعد سبر وفحص، ان مكونات الأدب لاتخلو من هجانة الأنساب، واختلاط الأصول. وأن تحديد مفهوم السرقة عند النقّاد والباحثين ليس امراً ميسوراً او مفروغاً منه، بل إن مثل هذا التحديد او التعريف غدا اليوم إشكالية غير محلولة، ومكمن صعوبتها في عدم القدرة على التمييز بين حالات ومواطن ملتبسة المعاني، مثل الاستيحاء، أو التأثر، او الاحتذاء، او إعادة التمثّل، أو مواطأة العقول على المشتركات والعموميات والكليات المعرفية بين الناس. وفي عدم الإحاطة بمفهوم العملية الإبداعية بمجملها، بما هي هضم وتحويل وتفتيق لساني ولغوي، ولعب بالصور والخيال.
كان الميزان الأخلاقي الذي توحي به كلمة السرقة هو الحكم، وهو الفيصل في هذا الموضوع. بيد أن كلاماً لرولان بارت قرأته بعد حين، جعلني في ريبة من امر هذا القياس القيمي. فقد نفى هذا الناقد ذو البصيرة النافذة أن يكون ثمة ملكية، أو أبوة مزعومة لأي نص، لأن الكُتّاب والمبدعين يعيدون ما قاله السابقون، بصيغ أخرى متباينة. فالنص الأدبي يتفرّع من شجرة نسب عميقة وممتدة. فهو لا يأتي من فراغ، ولا يُفضي إلى فراغ.
انفصال وجمع
ولعل بارت يتفق مع ما ذهب إليه النقاد العرب الأقدمون، ومنهم ابن طباطبا "ت 366 هـ" الذي قال: "إن الشعراء السابقين غلبوا على المعاني الشعرية، فضاق السبيل أمام المحدثين، ولم يكن من الأخذ بدٌّ" . فظاهرة البناء على ما سلف، لوحظت بدرجات متفاوتة عند النقاد العرب، مثل الأصمعي، وابن سلام، وابن رشيق الذين تحدثوا عن أنواع من السرقة. وقد أحصى النقد القديم اكثر من ثمان وعشرين درجة من درجاتها. تبدأ بالانتحال وتنتهي بالتلميح. لكن نظرة هذا النقد الى العمل الشعري ظلت محكومة بتجزئة النص إلى وحدات مستقلة ومنفصلة، بدل استيعابه بنظرة شمولية موحّدة ومتكاملة، وفي سياق نقدي عام. في حين أن النقد الحديث حينما عالج قضية السرقة المفترضة، وضعها في حيّز الدينامية الإبداعية ومقوماتها وأركانها وعناصرها الأساسية. واجترح أدواتٍ تحليلية تضيء مسار العملية الأدبية والفنية. أدوات هي سليلة العمل على تطبيقات لسانية ونحوية وسيميائية وتفكيكية، وابتكر النقاد ما سمّوه "التناص" الذي اشتغل عليه بداية ميخائيل باختين، تحت مسمى تعددية الأصوات "البوليفونية" أو الحوارية. ثم توسّع فيه جيرار جينيت وجوليا كريستيفا وسواهما. وعُدّ التناص في المذاهب البنيوية وما بعد البنيوية ركيزة العمل الإبداعي الذي يقوم على التفاعل الأسلوبي داخل النص، بضروب من التحويل، والمحاكاة، وإعادة ترتيب العناصر التي يتألف منها النص المذكور. وقد اختصرت جوليا كريستيفا مفهوم التناص، بأنه امتصاص لنصوص أخرى في نص واحد. وإذا كان التناص عملية مركبة ومعقدة بهذا القدر أو ذاك، وتمثّل مكوّناً أساسياً من المكوّنات الحيوية للعمل الإبداعي، فإن السرقة الأدبية المطابقة "plagiat" أي تطابق نص مع نص آخر شكلاً ومضموناً، لا تندرج في هذا الإطار النقدي الذي وصفناه. إنما هي لصوصية صارخة، وسطوٌ على جهود الآخرين، وعلى ثمرة عقولهم. وهي أقرب الى ان تكون عرضاً مرضياً وعُصابياً شبيهاً بـ"kleptomania" لكنه يرمي الى الاستحواذ على أفكار الآخرين بدل مقتنياتهم المادية.
والساحة الأدبية العربية الحديثة لم تخلُ عموماً من التراشق بسهام السرقات المتبادلة، لا سيما حينما ضاعت المعايير الدقيقة، والموازين النقدية الموضوعية التي تميّز بين زائف العملة وصحيحها. ولم يسلم من موجة التشكيك كتاب كبار، امثال نجيب محفوظ او توفيق الحكيم أو عبد الرحمن الشرقاوي او نزار قباني أو أحلام مستغانمي، حيث اتهموا باختلاس مضامين بعض مؤلفاتهم من كتب غيرهم من أدباء الشرق والغرب.
وقد فاقم من خطورة هذه الظاهرة تطور الطباعة والنشر، ومن ثم تشعّب أذرع الشبكة العنكبوتية في كل أنحاء المعمورة. وأفسحت هذه الأذرع وذاك التطور المجال لكثير من الأيدي ان تختلس، أو تستقطع نصوصاً كاملة أو مقاطع أو أسطراً، من دون تمييز او تغيير أو تعديل او ذكر أصحابها، وأن ينتحل السارقون نتاج غيرهم، مدّعين صلتهم به، ناسبين إلى أنفسهم ما ليس لهم فيه فضل الخلق والابتكار. وتعددت خيارات هؤلاء بتعدد المصادر وتدفقها وسيولتها، وسهولة الحصول عليها. فتنوّعت العمليات اللصوصية، من سرقة الكتب، إلى سرقة اللوحات الفنية، والرسوم الكاريكاتورية، والألحان الموسيقية، وكلمات الأغاني والسيناريوهات، وتصميم الأزياء والبوسترات، وتصفيف الشعر، وكوريغرافيا الرقص. وصولاً إلى "look" (الطلة).
تحوير وتزوير
وفرت روابط الشبكة العنكبوتية لهؤلاء برامج فنية تطبيقية لتحوير ما سطوا عليه، وتغييره والإضافة إليه، اوالحذف منه، وسوى ذلك من أدوات الاحتيال والتزوير. وفرّخت عمليات النسخ واللصق، حسب مصطلح الكتابة الافتراضية، وعمليات الالتقاط والتلفيق بين نصوص متنافرة ومتباعدة شعراء وكتّاباً لا يمتلكون أية مواصفات جديرة بهذه الألقاب. وقد اقترح أحد المتصفحين الظرفاء على أحد المواقع، أن يعطي لمن يرغب دروساً في التفنّن بأساليب السطو على النصوص الأدبية، وتعلّم طرائق الانتحال. بيد أن التواصل مع شبكة الإنترنت بقدر ما سهّل عملية الحصول على النتاجات الأدبية المعروضة، فإنه أتاح في الوقت عينه رصد السرقات وفضح أصحابها. وقد دفعني فضولي، وأنا أعدّ مقالي هذا، الى التعرّف على بعض المواقع الإلكترونية المتخصصة بمتابعة لصوص الكلمة، وكيفية كشفها طرائق السطو أو اللصوصية الأدبية التي يمارسها هؤلاء المنتحلون. فوجئت وأنا أبحر في بعض المواقع بقضية احتلت على الشبكة مكانة مميزة في عملية الرصد والمتابعة، وشكّلت ظاهرة لافتة تمثّلت بإلحاف صاحبها على سلوك طريق الإنتحال من دون تردد. هي قضية الداعية السعودي عايض القرني، الذي شغل الأوساط الثقافية السعودية منذ فترة، حينما رفعت عليه الكاتبة سلوى العضيدان، وهي مستشارة أسرية، دعوى قضائية، لأنه سطا في كتابه "لا تيأس" الذي صدر العام المنصرم، على ما لا يقل عن تسعين في المئة من كتابها "هكذا هزموا اليأس" الذي وضعته عام 2007، بما فيه من صياغة لغوية، بل ومن أخطاء طباعية أيضاً. والمثير في هذه القضية الفضائحية، أن الداعية القرني هو صاحب مؤلفات عديدة معروفة في الأسواق، على رأسها كتابه "لا تحزن" الذي لاقى رواجاً منقطع النظير، حيث بيع منه، على ذمة دار النشر، اكثر من مليون نسخة، وكنت أقف إزاء هذا الرقم الكبير لتوزيع كتاب عربي، بشيء من الذهول وعدم التصديق. لكن الشيخ الذي أقرّ مداورةً بأنه اختلس فحوى كتاب المؤلفة العضيدان ونسبه إليه، زعم في إحدى رسائله، أنه وإياها لم يخترعا أفكاراً حصرية، ولم يكتشفا نظريات علمية خاصة بهما. وأن كل ما في الأمر ان "ما كتبناه وما قلناه سبقنا إليه من كان قبلنا". وهذا ادّعاء ينطبق بالفعل على مفهوم العملية الكتابية، لو كان المورد مقتصراً على اقتباس أو تضمين، أو توارد أفكار. وليس المورد، كما هي الحال هنا، قائماً على سرقة كاملة وصريحة.
وزاد الطين بلّة أن الداعية القرني، لم يرتدع عن مد يده إلى نصوص الآخرين. إذ رفع عليه الشاعر المصري سمير فراج شكوى بتهمة السطو على كتابه "شعراء قتلهم شعرهم" مضموناً وعنواناً، فسمى الشيخ كتابه المنحول "قصائد قتلت أصحابها". وفي خط الانتحال ذاته الذي تمرّس به، تبيّن أن برنامجه التلفزيوني الفضائي الذي يقدّمه تحت عنوان "هذه حياتهم" ليس إلا اقتباساً حرفياً من كتاب مؤلف آخر، لعبد الرحمن رأفت باشا هو "صور من حياة الصحابة".
كذلك تداولت المنتديات الالكترونية والصحف العربية في الآونة الأخيرة، قضية سرقات أدبية اقترفها رجل دين مسيحي هو الأب سهيل قاشا، حيث اتهمه عبده وازن بأنه سطا على القسم الأكبر من مؤلفه المُصادر "حديقة الحواس" ونسبه اليه في "أنا والكتابة". كذلك ادّعى عليه رشيد الخيون بأنه انتحل مقدمة كتابه عن معتزلة البصرة وبغداد، وعزاها إلى نفسه عندما وضع "المعتزلة ثورة الفكر الإسلامي الحر".
وتمثّل وضعية رجلي الدين هذين عيّنة نموذجية على ما بلغه النفوذ المعنوي للشخصيات الدينية التي تكتسب حظوتها واحترامها بين الناس، لا من قدراتها وإمكانياتها الذاتية، وإنما من المهابة الروحية المسبوغة عليها، ولو لم تمتلك أدنى صدقية مع النفس ومع الآخرين، تؤهلها لبلوغ ما تبوّأته من مقامات او مراكز او شهرة.
بيد أن أكثر السرقات جسامة، هي على الصعيد الجامعي والأكاديمي، حيث انتُحلت الأطروحات والرسائل الجامعية، ونُسبت إلى غير واضعيها. ومثل هذا الانتحال الخطير يفضي حتماً الى اختلال عميق في مكانة الجامعة، ودورها في تطوّر وسائل البحث. ويؤدي الى تدهور مستوى الأداء التعليمي العالي، والى تردّي نوعية النخب الثقافية والعلمية التي تتخرّج من المعاهد والكليات.
وإذا كان الغربيون قد بتّوا في أمر الملكية الفكرية والأدبية، فإن البلاد العربية والإسلامية لم تتبنَ حتى اليوم موقفاً صريحاً من مسألة الانتحال أو السرقة العلمية أو الأدبية أو الفنية. وخلت كتب الفقهاء والمشرّعين المسلمين في القديم والحديث، من التطرّق إلى هذا الموضوع، ما خلا بعض المتنورين الذين قاربوا المسألة بكثير من التحوّط والحذر. وعليه تبقى هذه المسألة منوطة بالناحية المعنوية، ومقتصرة في بلادنا على معيار التجريح الشخصي والأخلاقي، ولاتُرتّب على المنتحل أو السارق أي أثر جزائي أو قضائي، أو أي انصاف او استحقاق توجبه القوانين لصاحب الأثر المسروق.
أحمد زين الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد