هيربرت ماركيوز الفيلسوف الذي صالح الماركسيّة والفرويديّة
من الاعتناء بالخيول في الجيش الألماني خلال الحرب العالمية الأولى والمشاركة في الثورة بقيادة روزا لوكسمبورغ في ألمانيا عام 1919، إلى العمل مع الاستخبارات الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية... حياة حافلة بالتناقضات عاشها هيربرت ماركيوز، إيماناً منه بأنّه يحارب النازية والرجعية بكل الوسائل المتاحة.
أخيراً، استعاد أصدقاء الفيلسوف الألماني وتلامذته تركته الفكرية خلال مؤتمر «ماركيوز ومدرسة فرانكفورت لجيل جديد» الذي نظمته «جمعية هيربرت ماركيوز» العالمية في «جامعة يورك» في تورونتو (كندا) بالتعاون مع «جامعة كنتاكي».
بقي هيربرت ماركيوز (1898ـــــ 1979) ماركسياً معارضاً لِما تمثله أميركا، من داخل النظام الرأسمالي الأميركي الذي انتقده في أبحاثه وكتبه بعد خروجه منه. مع ماركيوز، كانت الغاية تبرر الوسيلة في عمله مع الأميركيين لدحر النازية. في الرابعة والعشرين من العمر، أنهى أطروحة الدكتوراه في «جامعة فرايبورغ» وتركّزت على الرواية الألمانية. بعد ذلك، انتقل إلى برلين حيث عمل في مجال النشر حتى 1929 تاريخ عودته إلى فرايبورغ (جنوب ألمانيا). وفي 1933 انضم إلى «مؤسسة فرانكفورت للأبحاث الاجتماعية» ليصبح من أهم منظّري «مدرسة فرانكفورت»، ثم هاجر في العام نفسه إلى سويسرا ثم الولايات المتحدة بعدما بدأت القيود على عمله الأكاديمي من قبل الرايخ الثالث الصاعد إلى السلطة في ألمانيا.
نال ماركيوز الجنسية الأميركية في عام 1940، ما فتح أمامه المجال للانخراط في السلك الحكومي. هكذا عمل في «المكتب الأميركي للمعلومات الحربية» خلال الحرب العالمية الثانية، ضمن مشاريع بروباغاندا معادية للنازية. وفي 1943، انتقل إلى «مكتب الخدمات الاستراتيجية»، وهو الجهاز الذي سبق إنشاء مكتب الاستخبارات الأميركية (سي. آي. إيه). كان يتمحور عمل صاحب «الماركسية السوفياتية» (1958) حول إجراء أبحاث عن النازية واستنباط مشاريع لمحاربتها. إثر انتهاء الحرب وإقفال المكتب عام 1945، انتقل ماركيوز إلى وزارة الخارجية الأميركية حيث عيّن رئيساً لقسم أوروبا الوسطى، واستمر في منصبه حتى تقاعد عام 1951. هكذا قضى عشر سنوات في العمل الاستخباري، لم ينتج خلالها أعمالاً تذكر سوى «العقل والثورة» (1941) الذي يعالج فيه ديالكتيكية هيغيل وماركس.
بعد فترة انقطاع طويلة، كتب عام 1955 عمله الأشهر «إيروس والحضارة» الذي حلّل فيه أعمال كارل ماركس وفرويد وجمع بينهما لينتج فلسفة جديدة، ويقدّم رؤيته لمجتمع غير قمعي اعتماداً على أفكار الاثنين. وبذلك، استبق في كتابه هذا مفاهيم الستينيات التي أطلقتها الحركات الاجتماعية.
رأى ماركيوز في كتابه الذي صنف بأنّه «ماركس الإيروتيكي»، أنّ الرأسمالية تمنع الإنسان من بلوغ المجتمع غير القمعي الذي يرتكز على تجربة مختلفة من العيش، وعلى علاقة مختلفة بين الإنسان والطبيعة وعلاقات وجودية مختلفة. ورأى أنّ اقتناع فرويد بأنّ القمع ضرورة لاستمرار الحضارة يرتكز على أسس خاطئة. هكذا غاص ماركيوز في كتاب فرويد «الحضارة وسخطها» ليصل إلى أنّ التطوّر يعقلن النظام السائد، إذ يُضحّى بسعادة الأفراد في الحاضر من أجل استمرار النظام. ورأى ماركيوز أنّ التعارض ليس بين العمل ومفهوم اللذة، لكن بين الرغبة والعمالة المستلبة، إذ يُسمح للرأسماليين ـــــ وهم «الأفضل» ـــــ بالجنس متى شاؤوا، فيما يُسمح للعمال بذلك حين لا يتعارض الأمر مع قدرتهم على أداء عملهم.
في 1964، صدر كتابه «الرجل ذو البعد الواحد» الذي انتقد الرأسمالية المعاصرة والشيوعية في نسختها السوفياتية. هنا، قارنَ ماركيوز بين النظامين من خلال رصد انتشار أنواع جديدة من القمع الاجتماعي، على المستويين الشخصي والعام، إلى جانب تدهور فرص بروز أي ثورة في الغرب. وناقش ماركيوز كيف أنّ النظام الذي نعيش فيه استبدادي إلى أقصى درجة، رغم أنّه يبدو ديموقراطياً. وقلّة هم الأشخاص الذين يملون علينا مفاهيم الحرية، عدا الحرية في الشراء من أجل تحقيق السعادة، خالصاً إلى أنّ الاستهلاك هو نوع من التحكم الاجتماعي.
من جملة التناقضات أو العلاقات المركّبة التي اتسمت بها حياته، كانت علاقته بالفيلسوف هايدغر ـــــ رغم ارتباط هذا الأخير بالنازية ـــــ تعود إلى عشرينيات القرن الماضي، حين التقيا في فرايبورغ وكتبا معاً بحث «أنطولوجيا هيغيل ونظرية التاريخانية» الذي نشر عام 1932 رغم معارضة مارتن هايدغر له لاحقاً. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، زار ماركيوز ألمانيا مجدداً والتقى صاحب «الوجود والزمان» (1927) في منزله في منطقة الغابات السوداء. ولدى عودته إلى أميركا، تبادل معه عدداً من الرسائل، لا تخلو من نبرة الود والاحترام. في رسالة مؤرّخة في 28 آب (أغسطس) 1947، كتب ماركيوز متسائلاً عن سبب عدم هروب هايدغر من ألمانيا بعد 1934. «كان بإمكانك أن تجد وظيفة في أي مكان تريده». ويبدو من الرسالة أنّ الفيلسوف الذي ترك بصماته على أهم المدارس الفلسفية في القرن (من الوجوديّة إلى التفكيكيّة) أخبر ماركيوز خلال الزيارة أنّه ابتعد عن النازية تماماً منذ 1934. وسأله ماركيوز عن سبب عدم تراجعه عن كل ما كتبه وقاله في مدح النظام بعد زواله عام 1945: «لم تدن علناً أياً من أفعال أو إيديولوجيات النظام. لهذه الأسباب، لا تزال مصنفاً مع النظام النازي. العديد منّا انتظر طويلاً تصريحاً منك يحررك من هذا التصنيف». ويضيف ماركيوز أنّه مع العديد من زملائه تعلموا الكثير من هايدغر، لكنّهم لا يستطيعون فصل الفيلسوف عن الإنسان، لأنّ ذلك يناقض فلسفة هايدغر نفسها.
قبل أسابيع، احتفل العالم بالذكرى الثلاثين لرحيل الفيلسوف الألماني الإشكالي الذي لم تمنعه ماركسيّته من العمل مع أميركا لمواجهة النازيّة، والذي عُدّ ملهماً للحركات الثوريّة العنيفة في السبعينيات. صديق هايدغر، وأحد أهم منظّري «مدرسة فرانكفورت»، عاش حياة حافلة بالتناقضات، وميراثه الفكري كان أخيراً محور ندوة عالميّة
مع الرسالة، وصلت إلى هايدغر مجموعة من الكتب من ماركيوز فوزَّعها على بعض طلابه السابقين الذين لم يكونوا على علاقة بالنظام، كما يوضح الفيلسوف البارز في ردّه على ماركيوز في 20 كانون الأول (ديسمبر) 1948. في ذلك الرد، حاول هايدغر أن يوضح سبب وقوفه إلى جانب النازية التي عدّها تجديداً روحياً للحياة كلها: «كنت أتوقع منها إنقاذنا من مخاطر الشيوعية». ويضيف أنّه أدرك خطأه في 1934، واستقال من رئاسة الجامعة. يعترف هايدغر في رسالته هذه بأنّه لم يستطع إيصال وجهة نظره هذه إلى الجمهور، لأنّ ذلك كان سيعني نهايته هو وعائلته. أما بعد عام 1945، فقد «رأيت كيف انقلب مناصرو النازية على اقتناعاتهم السابقة انقلاباً مقيتاً، وأنا لا أشبههم البتة». ويؤكد أنّه يصعب الحديث عن الوضع الداخلي في ألمانيا بعد 1933 مع أشخاص كانوا خارجها مذاك، ويحكمون على حركة الاشتراكية الوطنية من نهايتها! خلال إحدى آخر رحلاته إلى ألمانيا، توقف ماركيوز في 12 آب (أغسطس) 1976 في «مكتبة فريتز فيرنر» المشهورة، التي كان هايدغر من زبائنها الأوفياء. وقبل أن يغادر كتب في سجلّ الزوّار: «في ذكرى الكرامة المثيرة للإعجاب التي أنهى بها هايدغر أيامه، أتمنّى أن نملك القدرة على أن نشيخ بكرامة، وصفاء وسكينة».
أب اليسار الجديد
أثرّ ماركيوز في مفكرين يساريين وراديكاليين أمثال أنجيلا دايفيس ويورغان هابرماس. أسهم مع «مدرسة فرانكفورت» في تحديد مصير العقل والمنطق في العصر الحديث مستخدماً أسلوب تحليل التغيرات البنيوية في مسار العمل في الرأسمالية. وُصف بأنّه المنظّر الأول لنشوء اليسار الجديد، فاتحاً المجال لتناول موضوعات جديدة من وجهة نظر اليسار كما فعل في «ثورة مضادة وتمرد» (1972) حين عالج وضع الفنون والطبيعة خلال الثورات.
ديما شريف
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد