يوسف عبدلكي يطلق النار على خالد سماوي
ترددت كثيراً في كتابة هذا الرد، أولاً لاعتقادي أن صاحب صالة «أيام» أدى دوراً إيجابياُ فاعلاً في الحياة التشكيلية السورية في السنوات الثلاث الماضية ولا يُنقص من قيمة هذا الدور أنه كان مثار خلافات، وتقييمات متباينة، بل واتهامات.
وثانياً لأنه أظهر كفاءةً لا تخفى على أحد في التسويق وثالثاً لأن الرجل لم يضع نفسه في أي يوم موضع المنظر أوالمثقف، بل كان يقول دائماً إن عمله الأساس هوالتسويق.
غير أنّ ما جعلني أحسم أمر الرد عليه لم يكن ردود الفعل الكثيرة على تصريحاته الصحافيّة التي كانت سمتها العامة الاعتراض عليها بل واستهجانها، والصادرة عن مختلف المثقفين والعاملين في الحقل التشكيلي، بل كان شفوية تلك الردود، وعدم إقدام أي معترض على الكتابة عن ذلك.
وكان المجتمع الثقافي السوري استمرأ على مدى عقود ثقافة النميمة على حساب ثقافة الحوار الواسع والعلني لقضاياه! محاكياُ في ذلك الثقافة السياسية المحكومة بشروط الاستبداد المعروفة على هذا المستوى.
ينقل السيد خالد سماوي صاحب صالة أيام في دمشق ودبي وبيروت تصريحاته (يوميات ثقافية – شباط 2010 ) من دور المسوّق إلى دور المنظّر الثقافي في حقل يشوبه الاجتهاد والنظر المتعدد والشك، غير أنه يدلي بأقواله بلهجة العارف الواثق، تلك الثقة التي ليست في المحصلة الأخيرة إلا الوجه الآخر للجهل. أقواله لا يشوبها إلاّ الإقدام والهجوم، والحل والعقد، والمنع والمنح كأي صاحب سلطة!ّ ... علماً أن هذه التصريحات تُطلق في بلد يشكو– وبحق – من فائض السلطة الذي يقبع كالغراب فوق رأس كل مواطن!
السمة العامة للقاء هي سيطرة المال عليه، حتى لتخال نفسك تقرأ لقاءً مع مدير بورصة، وليس مع صاحب صالة عرض تهتم بلوحات وتماثيل وصور لفنانين! فاللوحة مال! والمنحوتة مال! والثقافة برمّتها مال! لا شيء سوى المال! لا توجد كلمة واحدة عن أسلوب هذا الفنان! أوعن اللون عند ذاك! أوعن عمق الرؤية لدى هذا النحّات! أوعن مدى تواشج هذا المصوّر مع ثقافة بلده أو ثقافة العالم وتياراته! ... لا شيء، لا شيء من ذلك البتّة! الحديث كله مال، مال، مال! تخرج من قراءة اللقاء وليس لديك أي حماس أو فضول لمشاهدة معرض، أو معاينة لوحة، أو إعادة زيارة متحف! كل ما يدفعك إليه اللقاء هو أن تدس يدك في جيبك وتعد فلوسك لتطمئن إلى كونك لا زلت ... إنساناً ... بحسب معايير اللقاء طبعاً! لا حياة لدى السيد سماوي إلا بالبيع والشراء، ليس لهذا المنتج النبيل أي قيمة ثقافية،أوإبداعيّة،أوجماليّة، أواجتماعيّة، أوروحيّة!!
أسأل إذا كان ذلك كذلك فلماذا لم يستثمر الرجل أمواله في التجارة أوالصناعة أوالنفط أواستيراد المواد الغذائيّة أوالبورصات؟ ما الذي يدفع رجلاً هاجسه المال إلى اقتحام مجال ليس له فيه لا ناقة ولا جمل؟ أسأل ليس من باب الاستهجان، بل – بصدق - من باب البحث عن جواب.
ـ2ـ
في الحيثيّات يقول السيد سماوي: «إن كل فنان بالتاريخ كان الحظ هوأهم عامل من عوامل نجاحه وشهرته»، هكذا بجملة واحدة يلغي أي قيمة إبداعية لدى آلاف الفنّانين على مدى التاريخ، ويجعل الأمر كله منوّطاً بالحظ، فلا قيمة لأعمال ميكل انجلو أو روفائيل او دافنشي أو روبنز أو رامبرانت أو هوكوساي أو الواسطي، او غويا أو دوغا أو مونيه أو ماتيس أو جياكوميتي او بيكاسوأو ريفيرا إلاّ بالحظ!
ولو آتى الحظ غيرهم لما سمعنا بهم! فلوحة الموناليزا أو سقف السيكستين أو خطف هيلين أو الموجه أو رسوم مقامات الحريري أو الإعدام أو دورية الليل او الغذاء على العشب أو الغورنيكا كلها، كلها لا قيمة لها لولا ... حظ أصحابها!! .
ينسى السيد سماوي أن عشرات الفنانين ممن لم يكونوا محظوظين أبداً في حياتهم تمّ اكتشافهم واكتشاف أعمالهم وقيمتها الإبداعية بعد عشرات وأحياناً مئات السنين. تمّ ذلك ليس لأن أصحابها «نقش حظّهم» بعد عقود من موتهم بل فقط، وفقط لأنّ أعمالهم تملك من القوّة الفنيّة والعمق والتجديد والفرديّة (وكلّها أمور لا يبدو أنها تدخل في حسابات السيّد سماوي) ما يجعلها جديرة بإعادة الاكتشاف ولتتبوّأ لذلك المكانة لتي تستحقّها في المتاحف وكتب التاريخ أو لدى المقتنين.
وعندما يسأله الصحافي عن الفرق بين لوحة بمليون دولار وأخرى بألف؟ يقول له وبثقة العارف: «الفرق أولاً بالحظ وثانياً بالترويج وثالثاً بالغاليري»، وينسى السيد سماوي أن السادة «الحظ والترويج والغاليري» لا يساوون فردة حذاء إذا لم ينتج الفنان لوحة هامّة. غير أنّ الفنان وسويته الفنية ليست حتى آخر ما يخطر على باله عند تقييم العمل الفني! ولنا أن نسأله والحال على ما هي عليه من السخف، لماذا لا تبيع صالات العالم مخزونها من ملايين اللوحات بسعر / 106 / ملايين دولار كما حدث ذلك منذ أيام مع لوحة لبيكاسو، أو بسعر /104 / ملايين دولار مثلما بيع تمثال لجياكوميتي طالما الأمر يتوقف على «الترويج والحظ والغاليري» ... وكلها عناصر «ما شاء الله» متوافرة لآلاف الفنانين! بالطبع لا يخطر ببال السيد سماوي أن السبب لا يكمن إلاّ في عمل بيكاسو أو جياكوميتي نفسه في أهمّيته وعمقه وتجديده، معطوفاً على أهميّة مسيرتهما الإبداعيّة ككل طبعاً. ومن دون التقليل هنا من دور صالات العرض لكنه دور مرهون أولاً وأخيراً بأهمّية الفنان وقوّة إبداعه.
ـ3ـ
للسيد سماوي خبرة لا يستهان بها في المجال المالي والمصرفي بحكم عمله السابق، غير أن الذين يعرفونه يعرفون أنّ خبرته في تاريخ الفن وعلم الجمال تقارب الصفر، لذا ليس مستغرباً عندما يسأله الصحافي مهند جزماتي عن معيار انتقائه للأعمال الفنيّة أن يجيبه: «كل لوحة تشبه صاحبها، الفنان الغليظ لوحته غليظة، والفنان الحلو لوحته حلوة» لا يكاد الإنسان يصدّق ما يقرأ! وهو يتذكّر منطق الأطفال التبسيطي الذي يقسم العالم إلى «حبّابين وأشرار»!، وهنا لا داعي للتذكير بأن ما يجري الخلط بينهما هما أمران من حقلين مختلفتين: الدماثة الأخلاقية، والإبداع الفنّي، كما لا داعي للتذكير بأن فنانين من امثال فرنسيس بيكون، وبيكمان ودافيد وغوغان وبيكاسولم يكونوا أبداً أشخاصاً «حلوين»، بل إنّ في سلوكهم شيئاً أقرب إلى الغلطة، فماذا نفعل بهم يا أستاذ خالد؟ نطردهم من تاريخ الفن؟ أم نحرق أعمالهم؟
ـ4ـ
في فقرة أخرى لا تخفي إصرارها على تأكيد قيمة صالات العرض على حساب قيمة الفنانين يقول عن الفنانين المعروفين الذي بدأ عمل أيام معهم: «في الحقيقة لم يكونوا معروفين» هكذا بخمس كلمات يشطب تاريخ العديد من الفنانين على مدى عقود! هكذا يصبح أسعد عرابي وسامية حلبي وعبد الله مراد ومنذر كم نقش، والذين بدأوا بعرض أعمالهم في معارض خاصّة ومشتركة وفي مختلف بلدان العالم قبل أربعين عاماً من تأسيس صالة أيّام، يصبحون «غير معروفين»! لا داعي لتذكير السيّد سماوي أنّ كل صالات العالم تعتز بالتاريخ الإبداعي لفنانيها، ولا تعمل على تقصيف أجنحتهم وسمعتهم! فالصالات تكبر بفنانيها الكبار... وتصغر بفنانيها الصغار.
ـ5ـ
في محاولة لتزكية أعمال الفنانين الشباب لأسباب ماليّة معروفة، لا يتردد في القول عند الاستفسار عن أكثر المدارس والاتجاهات التي أثّرت فيه: «إنّها مدرسة الفنانين الشباب الذين يعملون في العالم العربي»، غافلاً عن أن «الشباب» هم فئة عمريّة وليسوا اتّجاهاً أو تيّاراً فنّيّاً! لذا فإن فئة «الشباب» هذه تضمّ كل الاتجاهات والتيارات والمستويات! ففيهم الواقعيّون والتجريديّون والتعبيريّون والسرياليّون والتعبيريّون المحدثون والحروفيّون والذين هم خارج التصنيفات، ومنهم أيضاً العاملون على فن الفيديوأوالتجهيزات، ومنهم من هوعميق الموهبة ومنهم المتوسط، ومنهم الضعيف السقيم ... فعن أي «شباب» من هؤلاء يتحدّث؟ لا تسأل!
لا يكفّ المال عن السيطرة على تصريحات السيّد سماوي، كما أنّه لا يتحمّل أن يتحدّث أحد عن دور لغيره في الحياة التشكيليّة في بلدنا، وهكذا يعتبر أن مجرّد إنفاقه المال على المعارض الخارجية هو بحدّ ذاته شطب لكل العاملين في الحقل التشكيلي، لذا يسارع للقول: «نحن ندفع حوالى مليون دولار سنويّاً للاشتراك فقط في تلك المعارض، وأعتقد بأنه لم يعد مهمّاً الآن الحديث عن لاعبين آخرين».
شكراً لإيضاحك لنا بأن العمل في الحقل التشكيلي هو لعب، وليس ثقافة ومسؤولية ووجهة نظر! وشكراً لإيضاحك لنا بأن نموذج صدام حسين (الذي لم يستحلِ شيئاً قدر استحلائه إلغائه الآخرين) ليس نموذجاً في حقل السياسة فقط!
ـ6ـ
لأن المال هو كل شيء، فهو كذلك ليس في المجال التشكيلي فقط بل في المجال الاجتماعي أيضاً، وهو يحدّد السويّة الثقافيّة، وربّما يمكن اعتباره مقياساً للذكاء أيضاً! من يدري. يقول السيّد سماوي: «آن الأوان للتوقف عن الاعتقاد بأن المثقّف هو الذي لا يملك المال ولكنّه الأكثر فهماً، بل على العكس، فالّذي لديه المال هو الذي أتيحت له الفرص ليجول العالم ويطّلع أكثر وليدرس أكثر وبالتالي تكبر وتتنوع خبراته اكثر من الذي يقضي جلّ وقته في المقاهي ويقوم بالتنظير فقط».
المثقّفون على مدى التاريخ منهم الأثرياء ومنهم الفقراء، والنماذج أكثر من أن تحصر، ولكنه النظر الخطاطي الذي يربط المال بالسفر وبالاطلاع والخبرة حكماً! وينسى أن هناك آلاف الأثرياء عند سفرهم الميمون لا يهتمون إلا بأعمالهم ولا تعنيهم الثقافة في كثير أو في قليل، والكثير من هؤلاء الكثر بعد يوم العمل يقضون وقتهم في المطاعم، والملاهي والولائم، فما المقصود من هذا الربط الميكانيكي بين السفر والثقافة!
الجوهريّ لدى السيّد سماوي هو محاولة القول، إنّ الذي لم يقرأ كتاباً، (والسماوي يعرف الكثير من هؤلاء) ولكن جيوبه ملأى بالفلوس، هو أكثر ثقافة من الذي أفنى حياته في البحث والتنقيب والتثقف، أي أن أي تاجر خردة سيارات يستورد من ألمانيا مثلاً هو بالضرورة –لأنه يسافر- أكثر ثقافة من عابد الجابري وحسين مروّه وجبرا وإبراهيم جبرا، ولويس عوض، وثروت عكاشة، وجورج قرم .. إلخ.
ثم هناك في كل بلد مثقفون جدّيون منتجون موهوبون .. إلخ، وهناك على أطراف الحياة الثقافية هامشيّون يستحلون الجلوس في المقاهي و.. «التنظير» لا هؤلاء مثقفون حقيقيون ولا الأولون هامشيون ثرثارون فلما الخلط بينهما! ثم لماذا هذه الحساسيّة من «التنظير» في المقاهي! فالثرثرة الاستعراضية هي نفسها إن مُورِسَت في مقهى أو من وراء مكتب فخم ... أم أن للثرثرة أيضاً بعد طبقي ونحن غافلون عنه!!
ـ 7 ـ
في النهاية يضرب السيد سماوي ضربته النجلاء ويعلن: «أغلبيّة الأغنياء لا يعرفون كيف يعيشون وأغلبيّة الفقراء يعيشون احلى حياة»، يا سلاااااااااام، «لم يكن ينقص الدست إلا هذه الباذنجانة»، نحن لا نقرأ في الحقيقة لقاءً صحافيّاً في القرن الحادي والعشرين، بل نرى فيلماً عربيّا ساذجاً من أربعينيات القرن الماضي! يا رجل ارحم عقلك إن لم تشأ أن ترحم عقول القرّاء.
ما الذي يمنعك ويمنع آلاف الأثرياء – وكل البشر يبحثون عن السعادة – من التبرّع بثرواتهم للجمعيّات الخيريّة، والعودة إلى خانة الفقراء والتمتّع «بأحلى حياة»! لن أتحدّاك بالطّبع وأقول افعلها إن كنت رجلاً، لأنّك لن تفعل أي شيء من هذا لا أنت ولا ملايين الأثرياء الذين يراكمون الثروات ولا يتلفّظون بترّهات...
ـ 8ـ
بدايات الفن الحديث في سوريا تعود إلى بدايات القرن العشرين، راكمت الحياة التشكيليّة منذاك خبرات كثيرة وكبيرة لا يستهان بها، أبرزت أسماء تشكّل علامات في التشكيل السوري والعربي ـ منذ توفيق طارق وميشيل كرشه إلى ياسر صافي وهبة عقّاد مروراً بمحمود وحمّاد وأدهم اسماعيل ونصير شورى وممدوح قشلان وفاتح مدرس وفتحي محمد وعدنان صباجيني ووصفي شاكوش ومروان قصّاب باشي ونذير نبعه والياس زيات ولؤي كيّالي ونعيم اسماعيل وخزيمه علواني، وسعيد مخلوف وخالد المز ونشأت الزعبي وغسان سباعي وأسعد عرّابي وغياث الأخرس وفائق دحدوح وليلى نصير وعبد الله مراد ونذير اسماعيل ولبيب رسلان وأحمد مادون وسعد يكن وسعيد الطه وعبد الرحمن موقّت وغسان نعنع وإدوار شهدا وغسان صباغ وأحمد معلاّ وعاصم الباشا وماهر بارودي وعبد القادر عزوز وزياد دلول وبشار عيسى ومنير الشعراني وعون الدروبي وباسم دحدوح وفؤاد دحدوح وفادي يازجي وسارة شمّا وناصر حسين ونسيم الياس وبهرم حاجو ونصوح زغلوله وأحمد يازجي وعبد الكريم فرج وعمر حمدي ومحمد شاهين وخليل عكاري وسهيل معتوق وجورج بيلونه ويوسف عقيل وشكيب شقاق وصفوان داحول وعدنان حميده وصفاء الست وزافين يوسف وإيمان حاصباني ومحمد علي ونسرين بخاري وأسامة هابيل وقيس عمران وبشرى مصطفى ونور عسليّة.... وغيرهم كثيرون... ففي هذا السياق البعيد والغني تُبرز لنا الحياة شخصاً طموحاً يحضر إلى سوريا، ولكنه للأسف يعتبرها، كأي مستشرق، صحراء خالية! ويعتبر أنه يستطيع أن «يفلح» فيها كما يشاء، ناسياً أن آلاف المثقفين والفنانين على مدى قرن يملكون حضوراً وأفكاراً وحساً نقدياً، وهم يعاينون الظواهر في الثقافة والمجتمع والسياسة، يقيمونها، يمحصونها، بل و«يفصفصونها» ولا تغيب عنهم شاردة ولا واردة، بل يضيفون عليها من خيالهم ما شاء لهم الهوى! أحياناً يستخدمون الرأفة في النقد وأخرى القسوة وفي أغلب الأحيان السخرية .
وهم ليسوا جهلة ولا تبعٌ لأحد، ومرّ عليهم وعلى من سبقهم الآلاف «أشكال ألوان» من جديين وأنصاف جديين واستعراضيين وجهلة... بعد كل ذلك عندما يأتي من يعتقد أنه يحضر إلى بلد خام، وأنه يستطع أن «يأكل برؤوسهم حلاوة» فهولا يفعل شيئاً سوى استغفال نفسه، وجعلها مطيّة لتندّراتهم، لذا على من ينيطون بأنفسهم أدواراً في هذه الحياة الثقافية أن يتعبوا على أنفسهم قليلاً، وأن يثقفوا أنفسهم ولو قليلاً، ليتمكّنوا من ممارسة الدور الذي يتمنونه لأنفسهم، لا ان يرسبوا في أول امتحان... متخبّطين بين حب المال وقصور النظر.
ـ9ـ
معروف أن البرجوازية الأوروبية بدأت اثر انتصارها السياسي في نهاية القرن الثامن عشر بتحويل المنتجات المادية إلى سلع, واستطاعت خلال عقود من تسليع كل شيء، حتى الإنتاج الثقافي. ومعروف أيضاً انها خلال استعمارها لبلدان العالم نقلت اليه نمط انتاجها وعيشها وتفكيرها, وهكذا راح المهزوم يقلد المنتصر.. صحافةً, وبرلماناً, وأحزاباً، ومدارس, وأسواقاً, وعمارةً, وثقافةً.... الخ.
وما نراه اليوم في بلادنا من إنتاج فني ومن طرق تسويق له هو انعكاس في كثير من جوانبه للتجربة الأوروبية في ذلك. وهنا لا بد من ملاحظة أن احتدام المنافسة هناك يجبر العاملين في كل حقل على تملك كل جوانب أي مشروع, فإن كان مشروعهم ثقافياً عليهم الإحاطة به تاريخاً, وتقنيةً, ودلالةًًً، وجمالاً الخ... ليتمكنوا من المنافسة في سوق لا يرحم, أي تصبح المعرفة جزءاً أساسيأ من بنية المشروع برمته.
إن الكثير من الطامحين في بلادنا يتصرفون بخفة, فيكفي أن تقع عينهم على حقل ثقافي مربح حتى يعتقدون إن ضخ المال فيه وجني الأرباح مباشرة هو كل شيء, كأي سلعة مبتذلة! فيملأون العالم ضجيجاً اليوم, ويختفون غداً!
ـ10ـ
في ختام هذا الرد لا بد من التأكيد على ما يفترض أن يكون بدهيّاً في أن عمل صالة العرض هو ثانياً مشروع ربحي ويترتّب عليه حسابات ماليّة دقيقة وحصيفة، ولكنّه اولاً مشروع ثقافي وهو وجهة نظر جمالية، وإذا نزعنا عنه بُعدُه الثقافي فإنه يتحوّل إلى مشروع تجاري بحت، أي يتحوّل إلى شيء أبعد ما يكون عن طبيعته الحقيقية.
ثم إن أهميّة أي صالة عرض هي من اهميّة فنانيها وعلو إبداعاتهم، والعكس ليس صحيحاً، فقيمة أي فنان تتأتى من قيمة إبداعه هو، ولا تتأتى من أهميّة الصالة أو مهاراتها في التسويق، وكل صالات العالم لا تستطيع أن «تفبرك» على المدى الطّويل فنّاناً واحداً إذا كانت لوحته هابطة، كما أنّ كل صالات العالم لا تستطيع ان تهبط بأهميّة فنان واحد مبدع من طراز فرانسيس بيكون أو مارينوماريني أو لوسيان فرويد، ولا يغيب هنا عن البال أن الصالات تستطيع أن تتلاعب بقيمة فنان ضعيف الإبداع، وهي تتمكن من فعل ذلك مع المقتنين الجهلة الذين لا يهوون الفن بل الاستثمار فيه، ولكن ذلك لا يمكن أن ينطلي لا على الفنانين ولا على المثقفين ولا على المقتنين الحقيقيين، بل إنه على المدى البعيد لا ينطلي حتّى على المقتنين الجهلة أنفسهم لأنهم عاجلاً أم آجلاً سيكتشفون أنهم كانوا ضحيّة عملية غش وأنّهم رموا اموالهم في البحر.
لذا عندما ينشر ككلام السيّد سماوي فإنّه يصيب الإنسان بالحزن فعلاً، لأنّه يعطي الانطباع بأن الجهل بالحياة الثقافية، والجهل بالحياة التشكيليّة هو سيّد الأفكار والمواقف، وهوأمر مؤسف حقّاً لأنّ للأفراد وطموحاتهم دوراً أساسياً في البلدان المتخلّفة، ويقوم أحياناً مقام المؤسسات في البلدان المتقدّمة... لكنّ أوّل شروط هذا الدور – إضافة للطموح أو حبّ المال – هو الفهم، فهم المكان، وفهم الزمان، وفهم الدور وحدوده.
قديماً قيل «إعقل وتوكّل»، ولكن يبدو أنه في عصر تمدد المال إلى كل مناحي الثقافة سنشهد العديد العديد ممن يتوكلون كثيراً، ولا يعقلون أبداً.
يوسف عبدلكي
المصدر: السفير
عصام درويش يتحدث عن لعبة تسويق اللوحة في سورية
التعليقات
بطل من ورق
كل الشكر
شكرا ...وأخيرا
إخص
إضافة تعليق جديد