داود أوغلو في دمشق وطهران: من «الرهانات القاتلة» الفاشلة إلى الحد من الخسائر
وصل إلى طهران امس وربما غدا الثلاثاء إلى دمشق وزير الخارجية التركية احمد داود اوغلو في زيارتين تكتسبان أهمية لمسار العلاقات الثنائية بين تركيا وكل من إيران وسوريا بعد الفتور والتوتر اللذين سادا بين هذه الدول، ولا سيما بين أنقرة ودمشق.
زيارة ترميم العلاقات كما وصفت في بعض وسائل الإعلام، لا تشبه سابقاتها. آخر زيارة لداود اوغلو لدمشق كانت في بداية الاضطرابات السورية، واشتهرت بجلسة الساعات الثلاث مع الرئيس السوري بشار الأسد وكانت بداية «المحاضرات» التركية للسوريين حول كيفية الخروج من الأزمة.
على امتداد تلك الفترة سار الأتراك في خطين متوازيين. في مرحلة أولى كانت النصائح للتغيير بقيادة الأسد طريقا للاستقرار. ومن ثم بدأت مرحلة الانتقال من النصائح إلى البدائل عبر سيناريو متعدد الجوانب يستهدف الضغط الشديد على سوريا.
أولا، عبر الرعاية التركية للمعارضة السورية، مرة عبر مؤتمر صحافي لمراقب «الإخوان المسلمين» في اسطنبول، ثم ثلاثة مؤتمرات للمعارضة السورية، اثنان في اسطنبول وثالث في انتاليا.
ثانيا، عبر استدراج فتح ملف ضاغط إنسانيا على دمشق، هو مخيمات اللاجئين على الحدود مع سوريا في منطقة الاسكندرون. واستخدمت أنقرة من وسائل إعلام ومبعوثين دوليين ومن جانب داود اوغلو نفسه هذه القضية لتشويه صورة النظام السوري والتشهير به.
ثالثا، عبر التهديد بتدويل الأزمة السورية من خلال القول انه إذا استمر تدفق اللاجئين السوريين فإن قضيتهم لن تبقى تركية الطابع، بل ستأخذ طابعا دوليا.
رابعا، عبر التهديد بتأييد أي قرار تتخذه الأمم المتحدة من خلال تصريحات رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان بأن استمرار «الفظاعات» السورية ضد المعارضين ستجعل من الصعب على أنقرة أن تعارض قرارات دولية ضد سوريا.
خامسا، عبر التهديد باستخدام القوة العسكرية منفردة أو بالشراكة مع «المجتمع الدولي» ضد سوريا، عبر تصريح للرئيس التركي عبد الله غول بأن بلاده اتخذت الاستعدادات الكاملة المدنية والعسكرية لأسوأ السيناريوهات. وقد واكبت ذلك «شائعات» عن احتمال إقامة الجيش التركي منطقة عسكرية عازلة داخل الأراضي السورية. ومع أن بعض الكتّاب لا يعكسون الموقف الرسمي، لكن العديد من الكتّاب الإسلاميين في الإعلام التركي دعوا أنقرة إلى التحرك عسكريا ضد النظام السوري.
ربط البعض بعض هذه المواقف بالانتخابات التركية ورغبة اردوغان في نيل حفنة أصوات إضافية. لكن ذلك كان غير واقعي، إذ إن اردوغان أطلق بعد انتصاره شعار أن تركيا هي نموذج ديموقراطي لبيروت ودمشق وغيرهما، في إعلان عن رغبة في رعاية خريطة جديدة للمشرق العربي بدعم غربي. واستمر اردوغان في كلام ثقيل ضد دمشق.وكان الإعلان عن عدم مشاركة سفينة «مرمرة» وأي سفينة تركية أخرى، أو أي ناشط تركي في «أسطول الحرية ـ 2»، الذي جاء بعد الانتخابات، مؤشرا على أن البوصلة التركية الرسمية أعادت تموضع إبرتها في اتجاه التركيز على الوضع السوري دون غيره، مع إرسال رسائل ايجابية إلى تل أبيب.
لكن بعد أيام على كل هذه التطورات، بدأت نبرة الخطاب الرسمي التركي تشهد بعض الانخفاض بالنسبة للعلاقة مع سوريا، وانتهت إلى الإعلان عن زيارة لداود اوغلو لدمشق، بعد أسابيع من موجات التسونامي اللاذعة للنظام السوري.
ليس من الموضوعية وضع الزيارة في إطار ترميم العلاقات بين دمشق وأنقرة، بل ربما الأكثر عقلانية وضعها في إطار تخفيض الخسائر التركية إلى الحد الأدنى الممكن، وإذا أمكن «تصفير الخسائر».
لا مراء في أن تركيا التي اتبعت في عهد داود اوغلو سياسة «تصفير المشاكل» قد ارتكبت خطأ استراتيجيا في طريقة تعاطيها مع الوضع في سوريا، وما تمثله دمشق من محور في المنطقة، دولا وقوى. وانتهت سياسة «تصفير المشاكل» مع سوريا وغيرها إلى «تصفير الثقة» المتبادلة، وهو اخطر من تصفير المشاكل. وكان وزير الخارجية السوري وليد المعلم واضحا في هذه النقطة عندما لمّح إلى أن «الصديق» التركي لم يكن موجودا «وقت الضيق».
من المستبعد أن يكرر داود اوغلو في زيارته دمشق نصائحه السابقة، ولا اعتقد أن السوريين سيصغون كثيرا إلى ما يمكن أن يطرحه من مقاربة تركية للوضع. ذلك أن التطورات قد تجاوزت تلك الكليشيهات التي أصبحت تنتمي إلى مرحلة ماضية كانت السياسة التركية تمارس فيها مقامرة خطيرة، تراهن على قلب النظام وإعادة رسم خريطة شرق أوسطية جديدة، تضعف محور ما يسمى بدول وقوى «الممانعة»، ويعاد فيها إحياء أفكار عثمانية لاحت جديا في الأفق خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، وهي أفكار لم تمر لحظة في خاطر ولا في ممارسات النخب العسكرية والعلمانية التركية منذ عهد مصطفى كمال أتاتورك حتى العام 2002.
الشرط الأساسي لهذا السيناريو كان إما إسقاط النظام السوري بسرعة على غرار ما جرى في تونس ومصر، وإما تكرار السيناريو الليبي عبر قرارات من مجلس الأمن تنتهي بإسقاط النظام بعد فترة. وفي هذه السياقات جاءت تصريحات ومواقف وخطوات تركيا تجاه الأزمة السورية.
لم يسقط النظام في سوريا، وهذا لا يعني بالطبع أن الأزمة انتهت، لكن الرهانات التركية بدأت تنهار خطوة خطوة. معسكرات اللاجئين في الاسكندرون تحوّلت من ورقة للتشهير بالنظام السوري إلى بؤرة تهديد أمنية لتركيا، بعد الحديث عن متسللين أكراد بين اللاجئين وتزايد عمليات حزب العمال الكردستاني في منطقة الاسكندرون باعتراف وزارة الخارجية التركية. وبدلا من استدراج المزيد من اللاجئين بدأت الأوضاع تسوء داخل المخيمات، في خطوة لدفع اللاجئين للعودة تمهيدا لإغلاق المخيمات نهائيا.
ولم تنفع ورقة احتضان المعارضة السورية تركيا. فلم تنجح تلك المؤتمرات في جمع شمل كل المعارضين، ولم تعد تلك المؤتمرات تفي بالغرض، مع انكشاف علاقة بعض المعارضة السورية بالقوى المؤيدة لإسرائيل، كما في مؤتمر باريس الأخير. كذلك كان لبدء المعارضة المستقلة في الداخل السوري حراكها وبدء مؤتمر الحوار الوطني أمس واليوم، دور مهم جدا في «تنفيس» الرعاية التركية للمعارضة السورية.
أيضا كان لنجاح سوريا في ضبط الوضع الأمني، ولا سيما في جسر الشغور وخربة الجوز وغيرهما من المناطق المتاخمة للحدود التركية دور أساسي أيضا في إفشال مخططات التدخل العسكري الخارجي، كما إقامة منطقة عازلة على الحدود السورية، بل في داخلها. وكانت لتلك العمليات العسكرية للجيش السوري هناك رمزية كبيرة، ورسالة في غاية الأهمية «لمن يعنيهم الأمر» على المقلب الآخر من الحدود.
وكان الموقف الروسي، ومعه الصيني، عاملا حاسما في منع تكرار السيناريو الليبي في سوريا. وبذلك انهارت رهانات الإسقاط السريع للنظام، أو الإسقاط المتوسط المدى على النمط الليبي.
مع ذلك، امتازت السياسة التركية في السنوات الأخيرة بواقعية شديدة في اللحظات الحرجة. ولم تكن تتردد في الانقلاب على مواقف ومبدئيات إذا اقتضى الأمر.
داود اوغلو نفسه، الذي صرح أثناء استقبال لوزير خارجية دولة الإمارات في مطلع الأزمة الليبية، أن تركيا ليست على استعداد للمشاركة في حملة عسكرية وصفها وزير الداخلية الفرنسي بالصليبية، وبعدما كان اردوغان يعارض بشدة تدخل حلف شمال الأطلسي هناك، ما لبثت تركيا أن أيدت التدخل وشاركت فيه، وانتقلت من تأييد «الأخ معمر» القذافي إلى مطالبته بالتنحي والاعتراف بالمعارضة. وكان داود اوغلو نفسه يقف في الثالث من تموز الحالي في بنغازي محييا بطل المقاومة الليبية ضد الاستعمار الايطالي عمر المختار، في حين أن تركيا هي شريك في عمليات عسكرية أطلسية أحادية الجانب، لم يفرضها قرار مجلس الأمن على ليبيا، ووصفها الفرنسيون بأنها حرب صليبية.
يأتي داود اوغلو إلى طهران ومن ثم إلى دمشق مستكشفا. فحمل الرسائل بعد انهيار الثقة بين الجانبين لا محل له من الإعراب. تركيا أخطأت في رهاناتها تجاه سوريا ومن معها، وكانت رهانات خطيرة جدا. وانتهت هذه الرهانات إلى فشل.
لا يعني كل هذا أن العلاقات انتهت بين تركيا وسوريا ومن معها، بل على العكس الجميع يحتاج للآخر، ولكلّ مصلحة أكيدة في التعاون مع الآخر. لكن تقديم العواطف والمشاعر في العلاقة مع تركيا ما عاد مجديا، والثقة وحدها لم تعد كافية لإنجاح تطوير العلاقات. ولم ينجح شعار وحدة المصير والمستقبل في ظل رهانات قاتلة من تحت الطاولة.
نعم لعلاقات عربية تركية ممتازة، لكن على قاعدة الاحترام المتبادل لخيارات كل بلد وعدم التدخل في شؤونه الداخلية وعلى قاعدة المصالح الوطنية الصلبة خارج أي شعارات عثمانية أو إسلامية أو قومية أو شرق أوسطية أو متوسطية، وما إلى ذلك من شعارات مضللة ومشبوهة.
محمد نور الدين
المصدر: السفير
التعليقات
تركية ,المغول, تركية الروم ,
فعلا ضربة معلم
سورية رقم صعب
سوريا بخير
عما تبحث تركيا ؟
إضافة تعليق جديد