الترف يبعث حياً في المطاعم بعد تقشف اشتراكي طويل
الجمل ـ خاص ـ سعاد جروس : "دعينا نتعرف على هذه الخيلة" بهذه الجملة أراد ان يقنع زوجته بتلبية دعوة تلقاها لتناول العشاء في فندق الفور سيزنز المفتتح مؤخراً في دمشق، فقد سمع أساطير عن فخامته، التي رفعت أسعار المطاعم والفنادق بمجرد افتتاحه من أشهر قليلة.
بدا كل شيء فخماً، من البناء إلى الأثاث. في المطعم، المفارش الثمينة صفت عليها بعناية ثلاث مجموعات من الأدوات الفضية والكؤوس، مع الشموع والزهور. همس في أذن زوجته: "مطعم خمسة نجوم بجد وليس مزاحاً"
سرعان ما انقلب الانبهار الى استغراب، مع خروج رتل من النادلين والنادلات يحملون أطباقا ذات أشكال مبتكرة، وبانضباط عسكري صارم مع ابتسامة مرسومة بدقة يوزعون أطباق توحي أنها تحمل مقبلات صينية، إذ استلهمت زينتها من تنسيق الزهور الياباني، لتعطي للمتبل والحمص والبامية شكل المقبلات البحرية، ولا يكاد المدعو يتعرف على محتويات الطبق، حتى يأتي رتل من العاملين ليرفعه مفسحاً الطريق أمام تقدم الرتل التالي وأطباق أخرى، لتختتم مرحلة المقبلات بملعقة آيس كريم، يبدأ بعدها تقديم الوجبة الرئيسية. وكان لافتاً أن عدداً غير قليل من المدعوين غادروا المكان بعد تناولهم الآيس كريم ظناً منهم أن العشاء الغريب والطريف قد انتهى.
البذخ المبهر لم يعوض متعة الأكل التي ذهب برونقها المبالغة الجادة بالاتيكيت، وكأنه حفل استعراض لكيفية تقديم أصناف الطعام المتنوعة، ضمن طقوس خمسة نجوم لطبقة من خمسة نجوم، في تمظهر جديد لثقافة الترف، راحت تبعث حية في سوريا بعد عقود من التخفي لصالح تعميم ثقافة التقشف الاشتراكي. تقول الباحثة سليمى محجوب في تقديمها لكتاب "الوصلة إلى الحبيب" لأبن العديم: "الغذاء وسيلة للكشف عن أخلاق الأمم، فطعام الأمم المجبولة على التقشف والحياة البسيطة التي لا تعرف التعقيد، غير طعام الأمم المسرفة في الترف، المعقدة في حياتها المتأنقة في كافة مناحيها".
والتقشف بمعناه الثقافي هو التخلي عن القشور الظاهرة لصالح الاقتراب من الجوهر، وهذا ما يجعل منظر المثقفين في المقاهي والمطاعم الشعبية، يمثل الصورة الأكثر منطقية للمثقف الزاهد في مباهج الغرائز ، إلا أن هذه الصورة بدأت تتغير اليوم والمثقف الذي يحمل في جيبه مالاً كافياً لقضاء سهرة راقصة في أرقى المحلات الدمشقية لن يدخرها، كرمى لعين الحفاظ على طهرانية صورته المتقشفة، بل أن للمثقفين اليوم كما لغيرهم أماكن مترفة، يحلون عليها أما ضيوفاً أو مضيفين. النأي عن المظاهر لم يعد يميز المثقف عن غيره، بل بات نوع من التخلف عن الالتحاق بحركة التغيير الاجتماعية التي يعبر عنها بشكل غير مباشر ما تشهده العلاقة مع الطعام من تحولات ، متمثلة في المطاعم، التي راحت تنتشر سريعاً في العاصمة ليتجاوز عددها في دمشق القديمة فقط 80 مطعماً، وقد أخذ يؤمها الناس من مختلف المستويات الاجتماعية والأعمار، وراحت تفرض نمطاً جديداً للحياة، تجلى في عودة الحياة لأمسيات الخميس والسبت، وازدهار السهرات الراقصة في الأماكن العامة، لتأخذ حيزاً في حياة الشباب على نطاق واسع، مع عودة الروح للقطاع الخاص. فالشباب الذين يمضون الأسبوع في عمل طويل وشاق، لابد لهم من يوم إجازة يغيرون فيه طعامهم المألوف، بمأكولات المطاعم الجديدة. كما لم يعد يوم الإجازة بصحبة العائلة حول مناقل المشاوي ممتعاً، بالقدر الذي تكون عليه صحبة الأصدقاء في سهرة خارج الروتين اليومي، البهجة فيه ليس بتناول ما لذ وطاب بقدر ما هو كسر لإيقاع يومي ثقيل.
هذا النمط من الحياة، بدأ يلقي بظلاله على العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة، التي راحت بداعي التغيير تعزز توجهها نحو الفردية، وتجريب أنماط جديدة من الثقافة الوافدة عبر صحون الطعام وتقول البحثة سليمى محجوب : " وقلما اختلفت الأمم قديماً وحديثاً في شيء اختلافها في شرابها وطعامها" ، ففي المطعم الصيني، ستخضع لطرائق الأكل الصينية بما تحتويه من معاني موروثة، ولن تضع عيدان الطعام في الطبق بشكل قائم، لأن ذلك يعني موت صاحب الدعوة، وفق المعتقدات الصينية. وسوف تضطر للاتكال على المضيف لنزع حسك السمك، لأن نزعه باليد مباشرة يحمل معاني سيئة.. ربما وحده المطبخ الأمريكي السريع، يتيح حيزاً من الحرية باستخدام الطريقة الأسهل لالتهام الطعام دون حرج من جهل بعادات الأمريكيين، إذ لا عادات لهم ولا موروث مقدس، وإنما ثقافة معولمة قابلة للتوطين في أية رقعة من العالم. وهذا ما جعل المأكولات الأمريكي السريع قابلة للتعميم، وهو ما ساهم في خلق ذائقة معولمة بدأت تأخذ مكان الذائقة المحلية المبنية أساساً على تراكم ثقافي تاريخي له علاقة بالبيئة والجغرافية، فذائقة أبن الساحل غير ذائقة أن البادية، فمن يعشق التبولة لا يستهويه السريد . نديم (48 عام) تاجر يزعجه أن أولاده يحبذون الـ fast food على طبخ والدتهم، ويرد ذلك الى الاعتياد، زوجته من طرفها تحاول مسايرة رغبات أولاد واستبدلت المقلوبة بالبيتزا.
ثقافة المطبخ الشرقي رغم انحسارها التدريجي في حياتنا الاجتماعية، لا زالت العامود الفقري في علاقة الأم بأسرتها، فالمرأة الشرقية التقليدية المتوارية خلف جدران منزلها أمضت عقوداً طويلة منصرفة الى تجويد على ما ورثته من مخزون ثقافي يعنى بالتفاصيل الحياتية الكثيرة، التي تعكس هوية المرأة وتذوقها الجمالي للحياة من حولها، وتسعى لزرعه في نفوس أولادها، عبر نقل خبراتها ومعارفها لبناتها، من مفاتيح وأسرار ووصفات تعطي لـ(ربة المنزل) دورها الحقيقي، تشهد عليها الفاعلية مع اللمسة والنكهة والإيثار؛ العلامات الفارقة للأم والزوجة في مجتمع مهما بدا لنا فيه المنزل صغيراً أو هامشياً فهو موئل الزوج والأولاد، ففي الطبخ وتحضير الطعام يتبدى الحيز الإبداعي المثير للمرأة، وبقدر ما تحمل من خبرات حياتية ومنزلية متوارثة تتمكن من استيعاب المتغيرات واحتوائها والتغلب عليها، وهو ما يؤهلها لتكريس ذائقتها وفرضها على أولادها تحديداً، بتربية ذوقهم وفق مقاييس ذائقة متطلبة، بحيث تصبح أي أكلة غير أصيلة، إذا كانت لا تشبه صنائع يدي الأم، بمعنى: "الطبخ نفس"، كدلالة على الخصوصية الشديدة للطبخ. ولعل ذلك سبب أساسي في عدم الإقبال على الأكلات المحلية في الأماكن العامة، فعدا عن ارتباطها بالمنزل والأم والزوجة، تفتقر حتماً لتلك الأسرار المتنوعة والمختلفة بين امرأة وأخرى.
تتحدث السيدة رهلات (60 عام) بشغف عن طرق تحريك اللبن في أكلات الكبة اللبنية أو الشيشبرك أو الشاكرية، ولها فلسفتها في رفض الإضافات التي تجعل قوام اللبن متجانساً كالطحين أو النشاء أو البيض وتعتبرها قلة خبرة أو دليلاً على كسل المرأة، وتؤكد أنه إذا لم يُحرك اللبن على نار هادئة باستمرار، قبل أن يصل إلى مرحلة الغليان... يفرط، لأن تحريك اللبن "معلّمية"!!. كلام ينطبق على أي صنعة أخرى، لأن الصنعة في النهاية هي التمثيل الواقعي لثقافة الصانع. وكما الأمر في صوغ سوار من الذهب كذلك في صياغة قطعة من النثر أو الشعر .. بما فيها من تفاصيل وأسرار تظهر تمايز الرؤى والأفكار.
وفي الطبخ ألا تنم التفاصيل الصغيرة عن صنعة أصيلة وتفنن متناقل ومتوارث لا يخلو من ابتكار ولا يقل مهارة عن غيره في المجالات الحياتية الأخرى، التي تميز مبدعاً عن آخر، وعلى أساسها تقاس قدرات المرأة وتفوقها الأنثوي؟ فعندما كانت المرأة تحرص على أسرار طبخها ومطبخها تقوم بالحقيقة بحماية ما نالته من امتيازات، بكد عقلها وجبينها وإحساسها، مما يجعلها سيدة بيتها دون منازع من ضرة أو كنة. أليس هناك الكثير من الأزواج ممن يعيّرون زوجاتهم بطبخ أمهاتهم؟ لنكتشف أنه لم يكن عبثاً تمضية السيدة الشرقية نصف نهارها في إعداد أكلات صعبة ومعقدة مثل (القشة) و(السجقات) و(المقادم) أو مختلف أنواع (الكبب).
اهتمام المرأة بالطعام خولها الاستئثار بموقع القيادة داخل الأسرة، إذ الطعام عنصر اجتماعي وداعم أسري قوي يعمل على لمِّ الشمل. وعندما تحرص الأم على العناية بتربية وتغذية أبنائها، تكون في الوقت نفسه تعمل على نيل ولائهم لها ولمجموعة القيم والمفاهيم الأمومية التي تمدهم بها، وبالتالي وضعهم تحت جناحها. ومن الطريف أن المرأة الشامية التي تهتم بالطعام، تحرص بفعل تربيتها على تكوين صورة مثالية لها أقرب للملائكية من حيث التعفف عن مقاربة الطعام. ومن هنا يمكن فهم مقولة العامة: "إذا أردت أن تتزوج زيجة هنية فعليك بالمرأة الشامية"، مع الانتباه إلى أن هذه المرأة تضارع شهرتها بالطبخ، شهرتها بإحكام سيطرتها على الرجل على قاعدة: "أقرب طريق إلى قلب الرجل معدته" كسلوك لا يمكن تجاهل مدى انتشاره في مجتمعنا.
وإذا حاولنا البحث عن جذور تاريخية لهذه الفرضية، يلاحظ أن كثيراً من العادات وألوان الأطعمة الفارسية والرومية انتقلت الى المجتمع العربي في العصرين الأموي والعباسي من خلال الجواري، كما لا يمكن إغفال تسلل الجواري الى البلاط ليصبحن زوجات لخلفاء وولاة، مما مكنهن من لعب أدوار مثيرة في دسائس القصور وفي تغيير مجرى الكثير من الأحداث التاريخية.
وإذا ما بدأت المرأة الشرقية بالتخلي عن ورقة الطبخ كوسيلة لتعزيز مكانتها في الحيز الخاص، فذلك نتيجة لأفكار التحرر والتحولات في سوق عمل لم يعد تميز كثيراً بين المرأة والرجل، وهكذا لم يعد طبخ الأم أو الزوجة القطبة المخفية في المؤسسة الأسرية، جراء تغير ثقافة مجتمع العمل وبزوغ سلوك للاستهلاك فرض نفسه مع مد غربي غزا مجتمعاتنا على مدى القرن العشرين، ليتوج بثقافة الوجبات السريعة الأمريكية، متمثلاً في الانتشار الواسع لمطاعم الـ take away التي باتت ملازمة لأماكن تجمع الشباب في المدارس والجامعات والنوادي، الأماكن التي تبرز فيها ملامح الالتحاق بمظاهر نمط الحياة الأمريكية السريعة، وفي المقابل انحبست مطاعم الأكلات المحلية الشعبية كالفلافل والمسبحة والفول والسجقات في مكانين، أما الأحياء الشعبية وتبذل بأسعار رخيصة، أو في المطاعم الفخمة حيث تقدم بحلة فاخرة كتحفة أثرية، يتضاعف سعرها الى حد مدهش، فيقبل عليها الأثرياء لاستعادة نكهة الماضي والبيت السعيد، كذلك السياح للتعرف على هوية البلد الحضارية. أما عامة الناس، فيتناولون في المطاعم الدمشقية الحديثة أطعمة لا هوية لها عدا اسمها المستورد، لتبقى الطبخات المعقدة أسيرة مطبخ ست البيت التقليدية مثل "زنود البنات"، و"الطباخ روحو"، و"أبو شلهوب"، و"أبو بسطي" والمحاشي بأنواعها وأكثرها أكلات غير معروفة إلا في دمشق، أصبحت جزءاً من فلكلور تتجاهله سوق السياحة، لما تستهلكه من وقت طويل في إعدادها. كما أهملها المؤرخون خلا قلة من أبناء دمشق ممن كتبوا عن الحياة الاجتماعية من باب الحنين للأمس والتمسك بالذاكرة أكثر منها مقاربة تاريخية أكاديمية تحفظ ذلك الموروث من الزوال، فتعرضت للتهميش والاندثار، مع ما تحمله من ثقافة محلية خاصة، كما هو حال ثقافتنا الحياتية التي ابتدعتها المرأة (ربة البيت) في أروقة المنازل وحول المواقد، على الضد من دعوات التحديث التي تجتاح مجتمعاتنا بعشوائية لا تتيح تعويضها ببدائل حقيقية تنسجم مع روحها.
الجمل
التعليقات
مع احترامي
إضافة تعليق جديد