«السبت» لإيان ماكيوان يوم انكليزي استثنائي
يكثّف الروائيّ البريطانيّ إيان ماكيوان (1948)، الكثيرَ من الوقائع والتحليلات والسجالات والمناقشات في روايته «السبت»، (ترجمة علي عبد الأمير صالح، الينابيع، دمشق، 444 صفحة)، حيث تتركّز الأحداث والمجريات في يوم واحد، يختار الكاتب يوم السبت ليكون حاضناً للأحداث، ذلك أنّه يصادف يوم عطلة بطله هنري الذي يعمل جرّاحاً للأعصاب في مشفى في لندن. يتتبّع الروائيّ شخصيّته هنري لحظة بلحظة، منذ الصباح الباكر، حين خروجه من السرير، وحتّى عودته في نهاية الليل إلى سريره، يحاول الإلمام بالكثير من المواقف التي يتعرّض لها أو يتذكّرها.
يحتلّ الزمن البطولة المطلقة في الرواية، ففضلاً عن العنوان الذي يشير إلى يوم السبت كخلفيّة زمانيّة تدور فيها أحداث الرواية، وكبؤرة زمانيّة تنطلق منها الأحداث وتتشظّى الأزمنة المختلفة، تتشعّب وتعاود الرجوع إلى المركز الزمانيّ نفسه، نجد أنّ الكاتب يختار تاريخاً مفصليّاً في تاريخ الشرق والعالم برمّته، يحدّد أحد أيّام السبت في منتصف شهر شباط (فبراير) من عام 2003، أي قبل احتلال العراق بقرابة شهر تقريباً، ليكون ذاك التاريخ الحافل بالوقائع مرتكزه ومنطلقه، ويخصّص مقاطع مطوّلة للحديث عن ملابسات التحضير للاحتلال وحيثيّات المشاركة الإنكليزيّة فيه، ما كان يعتمل في الشارع الإنكليزيّ من مناهضة للمشاركة المؤكّدة للقوّات البريطانيّة في الغزو، وذلك عبر رصد او تصوير التظاهرات الاحتجاجيّة التي كانت تشهدها ساحات لندن رفضاً للحرب، والوقوف على التجاذب الذي كان يجتاح الساحة السياسيّة والثقافيّة إزاء تلك الحرب، التي من شأنها تغيير خريطة المنطقة واستراتيجيّات الدول. كما يذكّر بأحداث أيلول وتداعياتها على الساحة الدوليّة، ويعرّج على سياسات الدول العظمى في البلدان التي تحتلّها، وبعض التفاصيل التي تشهدها مراكز القرار في الغرب، وحول تأثير قوى السلام في تشكيل الرأي العامّ وبلورته.
بكسل لذيذ ومزاج رائق يبدأ هنري يوم عطلته، تمنحه الراحة الجسديّة المنتظرة راحة ذهنيّة، يسترجع مع كلّ بضع دقائق مواقف مرّت به، مواقف كان لها أثرها اللافت في تشكيل وعيه وشخصيّته، وتغيير سلوكيّاته، وتوجيه اهتماماته، وتوسيع مداركه، يجد نفسه رهين ماضيه الذي يسترجعه بدقائقه وتفاصيله، ولا يكتفي بالأحداث التي مرّت به فقط، بل تكون الأحداث العالميّة الكبرى، والأحداث الصغيرة التي وقعت لأسرته وأقاربه محطّ اهتمامه وتركيزه، وموطن مراجعته الدقيقة الشاملة، كأنّما يكون يوم العطلة جسره الزمنيّ الواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين الأمكنة المختلفة أيضاً. يمارس طقوسه على مهَلٍ، يستمتع بكلّ لحظة في منزله الأنيق، يودّع زوجته التي تخرج إلى عملها، يقتفي أثر عطرها ولباسها بخياله الدفّاق، يودّ أن يكون يومه استثنائيّاً متميّزاً ويحلم بذلك.
بعد انتهائه من تحضير نفسه، يخرج هنري إلى النادي ليلاقي زميله الطبيب جي شتراوس، حيث تواعدا ليلعبا مباراة تحدٍّ. وقبل أن يصل إلى النادي، يصطدم بتظاهرة لمناوئي الحرب على العراق تخرج وتقطع الطريق، فيضطرّ إلى تغيير طريقه، وأثناء ذلك، وفي غمرة تخبّطه وتخبّط مَن حوله وخلفه من السائقين، يصدم بسيّارته سيّارة أخرى، وتكاد تنشب بينه وبين سائقها مُعاركة بدأت بمناوشة لكنّها تأجّلت إلى وقت لاحق، كان السائق الآخر باكستر؛ وهو شابّ في منتصف العقد الثاني من عمره، لاحظ عليه الطبيب هنري أعراض مرض عصبيّ، فنبّهه إلى مرضه، وحرف مسار الحديث إليه، محاولاً التخفيف من حدّة توتّره وجنونه، امتصّ بذلك بعضاً من غضبه ونقمته، ما جعله موضع سخرية زميليه في السيّارة، ودفعهما إلى تركه، حينذاك شعر باكستر بالإهانة، لكنّه بيّت الأمر في نفسه.
جاهد هنري لتناسي الموضوع الذي سيكون منعطف يومه الأكثر حدّة وتأثيراً، لكنّه ظلّ يلحّ عليه، وأحدث خللاً طفيفاً في تمضية يومه كما كان قد خطّط له، يقوم بالتسوّق، يزور أمّه القابعة في المشفى، يذهب إلى موعده مع ابنه ثيو الذي يكون في صدد التحضير لحفلات موسيقيّة. يكون بذلك قد طبّق برنامجه كما كان قد خطّط له تقريباً، سوى أنّ تلك الحادثة المروريّة كانت تعكّر مزاجه الرائق، وتنذره بشرّ وشيك، ظنّ ذلك وساوس وتوجّسات غير مبرّرة، لكنّ الأمر اختلف مساء، حين جمعت السهرة في بيته زوجته روزاليند وابنه ثيو، وابنته الشاعرة ديزي، وحماه جون، في جوّ أسريّ حميم، لكنّ باكستر اقتحم عليهم المنزل، وهو يشهر سكّينه ويهدّد ويتوعّد، ضرب الجدّ، عرّى ديزي التي هدّأته بقراءة بعض الأشعار، وأثناء ذلك كان هنري يحاول استعادة حيلته السابقة معه، بتوجيه الحديث نحوه، وتركيزه على حالته المرضيّة، وأفلح في استدراجه إلى الطابق العلويّ بذريعة اطلاعه على نتائج أبحاث جديدة في مرض الأعصاب، حينذاك غامر ثيو وأنقذ الموقف، وأوقع باكستر الذي تدحرج على الدرجات وسقط على الأرض مغشيّاً عليه غارقاً بدمائه.
ذروة الحبكة تتجلّى حين يُستدعَى هنري إلى المشفى، بعد إسعاف باكستر إليها، ليجري عمليّة جراحيّة لباكستر الذي كان ينوي قتله، يقع بين نارين، نار الانتقام لكرامته وأسرته، والوفاء لعمله، لا يتردّد في الذهاب، يُطمئن روزاليند بأنّه لن يمارس أيّ عمل انتقاميّ، ويعدها بأنّه سيؤدّي واجبه المهنيّ كطبيب جرّاح بعيداً من أيّة تأثيرات أخرى، وسيحاول جهده لإنقاذ مريضه، وبالفعل يلتزم بوعده لها ووفائه لمهنته، ويجري العمليّة بنجاح بعد صراع شرس مع ضغائنه.
يقدّم ماكيوان أفكاراً عن الصراع الذي يتجاذب الشخصيّة العلميّة حين التعامل مع أثر أدبيّ، وما قد ينتج من تضادّ بين جانبين مكمّلين لبعضهما بعضاً. يكون هنري وفيّاً لاختصاصه، لكنّه يسقط عمله كجرّاح على الأعمال الأدبيّة التي يطالعها، إذ إنّ نظرته الى عمل الدماغ وآليّاته، وانعكاس ذلك على الجانب الأدبيّ لديه، كانا يقابَلان باستنكار من ديزي التي كانت تحضّه على القراءات الأدبيّة، وتؤكّد له أنّ الخيال عمل عظيم وليس عبارة عن أوعية دمويّة. فيعترف هنري لنفسه بأنّ الآراء هي تدحرج النرد. ويعرف أنّ التجربة السريريّة انتزعت منه الشفقة منذ زمن طويل.
لا يكتفي الروائيّ بسرد الأحداث المتزامنة فقط، بل نجده يستجرّ شخصيّات معاصرة، شخصيّات فاعلة في الشأن السياسيّ، كشخصيّة رئيس الوزراء البريطانيّ حينها، توني بلير الذي يجمع بينه وبين بطله هنري في حفلة عشاء ضمّت عدداً من الشخصيّات المهمة، وتدور أثناء اللقاء محادثة بين هنري وبلير حول السياسات الخارجيّة وأجواء الحرب المحتملة، ويخرج هنري بانطباع مختلف عن بلير الذي لم يستسغ هنري شخصيّته ولا ردود أفعاله. يُدخل بذلك الرواية في سياق الواقع، يلبّسها لبوس الواقع، يوحي بدقّة مجرياتها وصدقيّتها، كأنّه، في كتابته لأحداث يوم وحيد، يدوّن سيرة زمانيّة ومكانيّة شاملة، على طريقة المذكّرات واليوميّات، لكنّ المختلف هو الخلط الروائيّ بين الواقع والتخيّل، اذ يخلق نوعاً من الإرباك حيالها. كما نجده يستشهد بوقائع تاريخيّة، ليزيد من جرعة الواقعيّة التي يسرّبها إلى الفصول الخمسة.
تــثــرى الروايـــــة بالمنـاقــشات الطبّيّة والمعلومات العلميّة حول أمراض الأعصاب، كما أنّها تشتمل على مساجلات شعريّة بين تيّاري الكلاسيكيّين والحداثيّين، علاوة على المساجلات الفكريّة حول الحرب والسلام، حول الاستبداد والطغيان، الأوهام والحقائق، الشرق والغرب، حوار الحضارات، صراعها المحتدم، يفسح الروائيّ المجال لمختلف الرؤى كي تجد متّسعاً لها في الرواية، كلّ يدلي بدلوه على لسان هذه الشخصيّة أو تلك، يشرّح التركيبات القائمة ويفكّك البنى المكوّنة لها، وتكون الرواية خزّان النقاشات الدائرة ومسرحها المكشوف.
حين يختار الروائيّ يوماً بعينه لتكثيف أحداث روايته فيه، فإنّه يولي الأهميّة المطلقة للتكثيف الزمنيّ، يكرّر «إنّ ثانية يمكن أن تكون زمناً طويلاً في الاستبطان». وينطلق من وعيه لأهميّة هذا التاريخ الذي ينطلق منه، حيث السنون الأولى لبدايات قرن جديد، يذكّر بالحروب التي شهدها القرن المنصرم، ويتوقّف عند نذر الحروب التي سيشهدها القرن الجاري، الذي لم تكن بدايته مبشّرة... يكون الزمن نذيره وبشيره معاً.
هيثم حسين
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد