«تفل قهوة» اللبناني في دمشق.. مشقة الإخوة والحرب
آخر مرة جاء فيها عرض مسرحي من لبنان إلى دمشق كان عام 2008. وقتذاك قدّمت المخرجة نضال الأشقر مسرحيتها «قدام السفارة كان الليل طويلاً» في دار الأوبرا السورية، منعشةً ذاكرة جمهور لطالما تابع عروضها بلهفة منقطعة النظير. فبرغم أن بيروت أقرب عاصمة إلى الشام، إلا أن العروض الزائرة من الأولى نحو مسارح الأخيرة تكاد تكون نادرة أو شحيحة، سواء منها موسيقية أو سينمائية أو مسرحية. العلاقة الفاترة ثقافياً بين المدينتين يُعيدها البعض إلى أسباب سياسية منها ولوجيستية. بالمقابل لا عروض أيضاً من دمشق تزور بيروت، باستثناء ما قدّمه فنانون سوريون لاذوا بمسارح لبنان بعد أن اضطرتهم الحرب إلى مغادرة بلادهم.
هذه المرة فكَّ العرض اللبناني «تفل قهوة» (مسرح القباني من 16 إلى 20 تشرين الأول) هذا الرصد، مقتحماً بممثلته الشجاعة مروة قرعوني فضاء «أبي خليل» بمونودراما كتبها هيثم الطفيلي وأخرجها هشام زين الدين، ليكون الجمهور السوري على موعد مع حكاية من أيام الحرب الأهلية اللبنانية. الزمن الذي أسقطه العرض على راهن السوريين، مستعيراً حالة حصار تعيشها فتاة في حجرتها المنعزلة. بين رصاص الأخوة تنمو صرخات قرعوني التي واجهت بجرأة جمهورها عبر محكية لبنانية صريحة وواضحة، مسمّيةً الأشياء بمسمياتها، بدون تجميل أو محاولة لـ «مكيجة» العنف وما يتركه من آثار كارثية على وعي الإنسان بالزمن والحياة والوجود.
خاضت مروة رويداً رويداً في قصتها، لنتعرّف إلى الشخصية الجامحة التي أدتها كموديل عن امرأة تروي ذكرياتها ومخاوفها، مُحاطةً بقطع ديكور بسيطة: (طاولتان، نافذتان، كرسيان، ساعات حائط، سرير، وثلاثة فساتين عرس)، بالإضافة إلى ستائر بيضاء شفافة سوف تُنهي الممثلة الشابة المسرحية باستخدامها كمشنقة لانتحار جاء طبيعياً وسلساً لصبيّة شاهدت عن قرب فظائع وموتى وأشلاء بشر، بعد أن خسرت حبّها في مواجهة صارخة مع مجتمع جرائم الشرف والتناحر المذهبي والطائفي بين أبناء البلد الواحد؛ مجتمع يستخدم المرأة كمتاع ومتعة، مستجيراً بالسرير كحاكمٍ مطلق لصفقات الجنس والقتل والاغتصاب، بعيداً عن ذلك الحبّ الطفولي الأول الذي كانت قد عاشته فتاةً صغيرةً في بيت أهلها: «فكرة القلب وعاطفة العقل».
المونودراما اللبنانية التي افتتحت موسم المسرح القومي لهذا العام، بدت صادمة من حيث استخدامها مفردات وألفاظ لم يعتد عليها مزاج الرقابة السورية من قبيل: (**أخت البطن اللي حملك، شرام**، شقفة لحم بين رجلينا، خر*») فالعرض وجّه أيضاً اتهامات مباشرة لرجال الدين متهماً إيّاهم بالكذب والرياء، مخاطباً الله على النحو التالي: «سامعني يا الله؟ فكرة الله بلّشت تموت معي لما بدأت سمّي القاتل بطل، ولما صرت خاف من العيب وأعملو بالسر، فكرة الله ما فيك تتعلما لا بجامع ولا بكنيسة». عبارات صريحة بَنَت هي الأخرى مجابهة علنية مع الزيف العام، متكئةً على غضب الشخصية وحِدّة طبقات صوتها الرافض لكلّ ما يحيط بها من كذب ودجل وألعاب خفة، «ففي الحفرة التي خلقنا الله فيها، لا يمكن أن تصير قاضياً، فهنا لا يمكنك أن تكون إلا مُجرماً أو مُتهماً».
«مسرح الحكي» هذا اختار منذ البداية صيغة «المُخاطب الغائب» في عروض الممثل الواحد، ليكون مرةً «الراديو» الذي كفَّ عن بث الأغنيات مكتفياً بأخبار القتلى والجرحى والمخطوفين، ومرات تكون ساعات الحائط التي تطفو في فضاء الخشبة، أو «الدرَكي» و «الصديقة» ليختار كل من كاتب ومخرج العرض طريقة الأديب النمساوي بيتر هاندكه (1942) في مسرحيته «كاسبار» موظّفين أصوات وأغنيات ومؤثرات سمعية حاصرت الشخصية وجعلتها نهباً لأسئلة وتهويمات لا نهاية لها.
أسلوبية لم تحافظ على خط فعل متصل، بقدر ما كشفت المسطرة التي اشتغلت عليها قرعوني منتقلةً بين طبقات صوتية متنافرة، صارخةً حيناً وهامسةً أحياناً أخرى، بدون التمهيد لهذا الانخفاض والعلو في حنجرة رفعت النبرة كيفما اتفق دون أن تُعنى بتدريبها. تماماً كما هو الحال في رقصات «المولوية» التي أدتها الممثلة على أنغام «خمرة الحب اسقنيها» لصباح فخري. الأغنية التي بررها مخرج العرض بأنها قادمة من بيت «هاروت» الجار الأرمني الذي يبدو أنه تمّ تدبره هنا من أجل تمرير الرقص على وصلة قدود حلبية.
«تفل قهوة» عرض جريء وشجاع اجتماعياً على صعيد توجيه سبّابة الاتهام مباشرةً لأمراض اشتهرت بها شعوب العالم الثالث، لكن الفن عموماً ليس «ماذا نقول» بل «كيف نقول». معادلة لم يحرزها كل من الطفيلي وزين الدين بل تركا ممثلتهما شبه عزلاء إلا من قدرتها اللافتة على أداء عفوي وبريء، جاوز سقف المحظورات بدون أن يعثر على حلول فنية مناسبة ومبتكرة تمكّنه من تذليل صعوبات المونودرامية وقسوتها على الممثل في حالة فقدان عنصر الحوار، ما عكس فهماً خاطئاً عن هذه النوعية الصعبة من التجارب، فهم يعتبر المونودراما فناً فردياً صِرفاً قوامه ممثل «يستشيط ساعته على الخشبة»، بينما بالأصل هو فن جماعي يختصر فيه هذا الممثل جهود كلٍ من كاتب العرض ومخرجه ومصمّم السينوغرافيا له بجسدٍ وصوتٍ واحد.
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد