«فانية وتتبدّد» لنجدت إسماعيل أنزور: زالت «الدولة» وبقي «أميرها»
«الالتزام بالنقاب لطفلة لم تتجاوز الحادية عشرة من عمرها «فرض» على كلّ امرأة مسلمة»، تقول الأم (رنا شميس) لابنتها الصغيرة نور (إيمي فرح)، في بداية فيلم «فانية وتتبدّد» (135 د. ـ إنتاج «مؤسّسة السينما»)، فتردّ الطفلة عليها: «لكنكِ تفعلين ذلك خوفاً من داعش». فتعقّب الأم: «لا. حتى لو لم يكن «داعش» هنا، لفعلتُ ذلك»، مستشهدة بسورة من آية «النور».
ما الذي تغيّر في المواجهة بين أُمٍّ مُدرِّسة لغة عربية، والأمير الداعشي أبو الوليد (فايز قزق)، في فيلم يُخرجه نجدت إسماعيل أنزور عن سيناريو لديانا كمال الدين مرتكز على فكرة للينا دياب؟ ما الذي تبقى من مجابهة بين العلم والدين في أعتى صوره ظلامية ورجعية، حين تقوم معلّمة المدرسة في فرض النقاب على ابنتها الطفلة، التي سيُعجب أمير التنظيم بقدميها حين يلمحها مع أمها في طريق عودتهما إلى البيت، فيخطفها ويتزوّجها على «سُنَّة الله ورسوله»؟ لاحقاً، نرى المعلّمة، التي لم نعرف شيئاً عن زوجها: لماذا تعيش وحدها مع طفلتها في منطقة خطرة خاضعة لـ «داعش»؟ أين زوجُها؟ هل هو ميت، أو مُعتقل؟ الطفلة لا تذكر شيئاً عن ذلك الأب المشطوب من حسابات السيناريو. نعرف فقط أن للمعلّمة ابناً يُدعى مازن (علي بوشناق)، يقاتل في صفوف الجيش السوري، ويُعدّ لمهمة مع رفاقه لتحرير مدينته من سيطرة التنظيم.
لا دروس هنا سوى دروس دينية تلقيها المعلّمة على تلميذاتها المنقّبات، عن «مكانة المرأة في الإسلام». درس ديني يقابله درس لمعلمة أشد تزمتاً هي الشيخة أم ياسين (هناء نصور)، التي تروي لتلميذاتها الصغيرات حديثاً منسوباً للنبيّ، عن عذاب المرأة الكافرة يوم القيامة، وعن نساء فاجرات معلّقات من أثدائهن، ومن شعورهن وأقدامهن، سُلِّطت عليهن الحيّات والعقارب.
تغريب النساء
لا يذهب «فانية وتتبدّد» إلى نقد جذري لممارسات التطرّف وبيئاته القابلة لاحتضانه، بل يكتفي بمفاضلة سياسية بين عادات وتقاليد دين معتدل أمام ممارسات دين متطرّف. فنساء «باب الحارة» التلفزيوني لم يقلن أكثر مما تقوله مُدرِّسة اللغة العربية في الفيلم لطفلتها الصغيرة، عن ضرورة النقاب والحشمة. اللحم النسائي المعروض أمام كاميرا نجدت أنزور يحتجب خلف أقمشة سوداء، تصير أعلاماً ورايات يرفعها أفراد التنظيم، كما يرفعون لحم سباياهم على كلابات وخطاطيف وآلات تعذيب في سجن خاص بالنساء، المكان القروسطي الذي يوظّفه المخرج لكشف ما هو أقسى وأكثر صدماً لمشاعر المُشاهد، حيث تشرف أم حسين (رباب مرهج)، مديرة سجن «الكتيبة النسائية»، على تعذيب نساء أخريات. نساءٌ يعذّبن نساءً في لقطات متتابعة لأجساد تتمزّق على آلات عقص الصدور، وشبح الجسد النسائي وتقطيع أوصاله وإهانته واغتصابه. يحدث كلّ ذلك على إيقاع أنين وصراخ طفلة أزيدية (9 أعوام)، يغتصبها 10 رجال من مقاتلي التنظيم الدموي في العراق، قبل أن يأتوا بها إلى إحدى المدن السورية الخاضعة لسلطتهم، فتُترك وحيدة في قبو مظلم تعاني ويلات المخاض بجنين حبلت به من آباء عديدين، ولا سبيل لوضعه، كون العمليات القيصرية ممنوعة في شرع «دولة الخلافة».
تبدو المقاربة السينمائية واخزة وسادية، من حيث استعراض البيئة التي افتعلها التنظيم داخل بلدة سورية، مسيطراً فيها على كلّ مناحي الحياة، من التعليم إلى دفع رواتب الموظفين وتوزيع الغذاء والدواء وطباعة الكتب، وصولاً إلى فرض الجزية على سكّانها المسيحيين (أسرة مسيحية يشهر الأب إسلامه لإعفائه من دفع الجزية صاغراً)، بالإضافة إلى استعراض تجنيد الأطفال وتدريبهم على السلاح، وإعداد العمليات الانتحارية عبر تفجير الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة، وإحراق الكتب ذات الطابع العلماني، كـ «سورية أرض الحضارات»، الذي أخذته الكاميرا في لقطة مقرّبة لمحرقة الكتب التي يقيمها رجال التنظيم بين مئات العناوين ذات الطابع الإسلامي المعتدل، ككتاب «الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد ابن حنبل»، في محاولة تمييز بين تيارات ومذاهب دينية، يكون التيار الأقل راديكالية بينها «علمانيّ كافر».
الإنقاذ
على خلاف الافتتاحية التي يوردها أنزور، عن قتل «تنظيم الدولة» فناناً تشكيلياً (عروة العربي) وصلبه في ساحة البلدة، وإعدام المعلّم نضال شنقاً على عمود كرة السلة في باحة المدرس،؛ بعد رفضه توقيع تعهّد بتدريس المناهج الخاصة بالتنظيم؛ كدنا ننسى تقريباً البُعد المدني للسوريين وطرائق عيشهم وقيمهم الحضارية، التي يعيشونها قبل آذار 2011، في محاولة لتصوير الأزمة على أنها خلاف عقائدي بين مذاهب الإسلام نفسه، ومَن هو الصحيح والأكثر التزاماً في تطبيق الشريعة، متجاهلاً بذلك أن المجتمع السوري أكثر تعقيداً وتنوّعاً في شرائحه الاجتماعية، التي تميل في معظمها إلى قيم المدينة، وإعلاء شأن العلم والعمل على غيرهما من الممارسات والشعائر الدينية، التي تبدو كـ «تحصيل حاصل» في الحياة السورية المعاصرة، لا كأسلوب يومي يطغى على كل عادات السوريين وطرائق عيشهم المشترك.
تدفعُ الحبكةُ الأحداثَ إلى نهاية سريعة ومفاجئة، من دون مراعاة التسلسل الزمني لها، إذ تنجح قوات الجيش السوري بالدخول إلى المدينة، بعد تمكّن جندي من تخليص شقيقته الصغيرة بالتعاون مع صديق له كان في صفوف التنظيم (أبو دجانة، مجد فضة)، كاتم أسرار الأمير وخادمه الوفي، الذي ينقلب سريعاً هو الآخر على بيعة أميره، على خلفية زواج الأخير بابنة مدرّسته السابقة، مُدبّراً خطة مع رجال «جبهة النصرة» لإنقاذ الأم وابنتها من براثن أمير «داعش» ومطاوعته النسائية، بإدخالهم إلى عقر معسكر «الدولة» في شاحنة كبيرة، على أنها سيارة لنقل الذخيرة، في حين أنها تحمل عشرات من مقاتلي الجبهة، ما يُسهّل اقتحام الجيش السوري المعسكر، وتحرير المدينة من التنظيمات الإرهابية. هذا كلّه في توليفة بصرية لافتة، نفّذها المخرج مع سينوغرافيا للفنان بديع جحجاح، مُتكئاً على أجواء رمادية وغبارية تهيم شخصيات الشريط في سديمها الدموي، على وقع موسيقى فراس هزيم كتعليقٍ على الأحداث، لا كنصٍ تصويريٍّ لمذابح تتوالى أمام الكاميرا في مباشرة فنية صارخة.
يبقى فرار أمير التنظيم في المشهد الأخير، بعد تمكّنه من خداع الجميع، وتنكّره في ثياب نسائية، مصطحباً معه جوازات سفر مزوّرة ومجوهرات وحليّ مسروقة. هذا كلّه منافٍ لعنوان الفيلم نفسه: إذا قال الفيلم للمشاهدين، من العتبة الأولى، بأن «دولة الخلافة» المزعومة إلى زوال، فما الذي يبرّر هروب أميره ومرجعيته الأصلية، في إشارة إلى إقامته إمارة جديدة في بلاد الله الواسعة؟
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد