«نحن مو هيك».. نساء يتخبطن في اللجوء السوري
على اختلاف كل شيء، سجّل وثائقيّ المخرجة اللبنانية كارول منصور «نحن مو هيك» (2013) بداية تجلّي معالم جامعة للشخصية السورية اللاجئة في لبنان. خمس نساء تصدّين للمهمة، فالنساء يشكّلن الفئة الأشد تضرّراً في الصراعات واللجوء. أحطن بالمشهد وخضن في أصعب المواضيع بأوضح الكلمات، فهنّ المسؤولات عن صوغ هذه الحياة كما سابقاتها. لقد قبض الفيلم على طعم الوقت المستقطع، الوقت المعلّق، هنا والآن. حكين عنه، كلٌّ في سياقها وبلغتها، وليس وحده ما يجمع بينهن، وإنما الإحساس بانعدام الوجود أيضاً. «حاسة حالي مش موجودة». منهن من تتعامل مع هذا الإحساس بليونة وإدراك، ومنهن من تتشاجر معه، ومنهن من تعتبره عقدةً غير قابلة للتفكيك راهناً. وهو على الأرجح كذلك.
في ظرف سنتين، وجد السوريون أنفسهم رابع أكبر كتلة لجوء في العالم، فتغيّر كل شيء. عائلةٌ يشكّلها الأصدقاء باتت تستبدل العائلة البيولوجية. مفاهيم يكرّسها اللجوء باتت تقوى على تلك التقليدية. فتشارك الفتاة بيتاً مع شاب وثلاث فتيات. الظرف هو الحاكم الآن، والصداقات تبنى بسرعة على أساس الجنسية والموقت. التنقّل هو الثابت الوحيد. شنطة تدق باباً تلو الآخر. الإحساس الدائم بالحراك الجغرافي، يترافق مع صعوبة في تحديد موقع الذات من الجماعة والظرف، فسعي إلى التأقلم مع كل دقيقةٍ من الوقت. التأقلم ضمن المؤقت، الإستقرار في المعلّق، نفسياً وجسدياً ومادياً. فيتحرّك الحاضر على كتفٍ، بينما يستقر على الكتف الآخر حملٌ مثلج آتٍ من الماضي المباشر القريب جداً، كعائلةٍ تعود من مخيم اليرموك بملابس الأب الدامية، تدفنها في شتلة ورد على شرفة اللجوء، لتكون بديل العائلة من قبرٍ يؤلَف، يُزار. وها هي الأم تقفز فوق الشاحنات تساعد في توزيع المساعدات على اللاجئين، هي اللاجئة التي لفظها حواري مخيم شاتيلا وقد ظنت أنهم شركاء في اللجوء فنظروا إليها كوافدٍ دخيل. وجدت الفلسطينية عذرهم في ثقل ما عاشوه، وكذلك فعلت السوريات مع أسباب بعض اللبنانيين في العدائية. فرض عليهن الظرف قوّة جبّارة فامتلكنها من دون أن يلغين لأجلها قدرةً عجائبية على تفهّم الآخر، ولو في معرض الإدانة.
معظم الجمل الآتية على ألسنة النساء في توصيف الحال يستأهل أن يكون «قولاً مأثوراً» عن اللجوء بشكل عام، وعن لجوء السوريين إلى لبنان خصوصاً. فهنّ لا يقفن عند حدود المرئي والمكرّر من الكلام، وإنما يذهبن برفقة أسئلة الوثائقي نحو التفصيل، من الماضي إلى الآن، ويحكين بسهولة من اعتاد أو احتاج الكلام، ويشرّحن حيواتهن كأنهن يتجوّلن في نواحي الدار.
الفيلم، برفقة بطلاته، يجيب عن الأسئلة الصعبة التي يطردها المرء من رأسه كي لا توجعه الإجابات. لكن الأسئلة لا تختصر الإنسان، ولا الإجابات وظيفتها الإيلام. فهي لا تحب لبنان، ولا تمارس الحب مع زوجها إلا اضطراراً. تعجز عن شرح الجنس لمراهقةٍ ستتزوج، وتعيش خللاً في آلية اتخاذ القرار. العلاقات، تعجز عن جعلها سويّة. الوطن، ها هو يتحوّل إلى حلمٍ مرتجى. ترتجف يدها، أو تضحك. تهرم، أو تصارع الأمل. وتغني. وهنّ لسن امرأة واحدة، لكنهن امرأةً كثيرة، شديدة.
الوثائقيّ فكّك لغم اللجوء الملقى في كل حضن، ومدّ عنقه نحو الوجه الكامن خلف الأرقام والآراء والعرائض. لم يعلّقهن في ظرف مثلما يعلّقهن الزمن، وإنما بحث عن موقع اللجوء في قصة كل منهن مع الحياة. ولكل منهن قصةٌ مختلفة مع الحياة، غنّتها المرأة في الفيلم مرتين: عفراء وأغنية «الخريف» (فيروز وزياد)، سمر وأغنية «الورد» (أسمهان وفريد). فصلان يستدعيان الفرح والكآبة، وضّبتهما المرأة إلى جانب حياتها داخل نفسها، هكذا بسرعة كيفما اتفق، وحملتها على ظهرها هاربةً إلى طرفٍ من الأرض يستحيل تخيّل غده.
سحر مندور
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد