«يوميات الحرب» لإنغبورغ باخمان.. رسائـل مـن الطـرف الآخـر

18-01-2012

«يوميات الحرب» لإنغبورغ باخمان.. رسائـل مـن الطـرف الآخـر

يبدو كأن موسم الشاعرة النمساوية إنغبورغ باخمان، يعود ليحضر في العاصمة الفرنسية، عبر صدور العديد من الترجمات المتنوعة لها، وبخاصة لرسائلها المتبادلة مع العديد من الأشخاص الأخرى. ضمن هذا السياق، صدر لها مؤخرا كتاب «يوميات الحرب متبوعا برسائل جاك هاميش إلى انغبورغ باخمان» عن منشورات «أكت سود»، كما كتاب «زمن القلب، رسائل انغبورغ باخمان مع باول تسيلان» (منشورات لوسوي). هنا مقالة معدة بتصرف عن مجلة «باورسيون» عن الكتاب الأول، مؤجلين الحديث عن الثاني لمقالة لاحقة.
في أغلب الأحيان، حين يتمّ ذكر اسمها، يعتبرها الجميع أهمّ شاعرة باللغة الألمانية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. كانت امرأة ملتزمة، حرّة ونسوية، وشكلت جزءا من «مجموعة 47» التي ضمّت، في من ضمتهم في تلك الفترة التي أعقبت الحرب كلا من هينريتش بُل وغونتر غراس. مجموعة أدبية، كان من طموحها أن تنتج «لغة جديدة» في الأدب الألماني، مع الأخذ بعين الاعتبار تاريخ «الكارثة الكبرى»، التي عرفتها ألمانيا، في تحولها النازي، وهزيمتها بعد الحرب. في هذه الأجواء، تعاقبت كتب إنغبورغ باخمان، التي جاءت ما بين المجموعات القصصية والشعرية، لتعرف نجاحا مزدوجا، من قبل النقد كما من قبل القراء، ما جعلها تتبوأ، بسرعة، مركزا في ألمانيا، وفي إيطاليا، حيث قضت الفترة الأخيرة من حياتها، التي توقفت في العام 1973.
تأتي اليوم الترجمة الفرنسية لكتاب باخمان «يوميات الحرب متبوعا برسائل جاك هامش إلى إنغبورغ باخمان»، لتعيد «تذكيرنا» بهذه القامة الأدبية، التي لم تتوقف عن إثارة الأسئلة المتزايدة، مع العلم بأن السؤال الأول الذي يطرح نفسه، هو مدى صوابية هذه الترجمة ونشرها، بمعنى أي فائدة تكمن وراء ترجمة نص كتبته هذه النمساوية الشابة التي كانت تبلغ يومها الثامنة عشرة من عمرها؟ كانت باخمان نمساوية، تنحدر من عائلة نازية مقتنعة تمام الاقتناع «بالأنشلوس»، حيث كان والدها أحد أبرز رجال النازية النمساوية. ولدت في مدينة «كارينثيا» (النمسا)، التي احتلها الجيش البريطاني، في العام 1945، بعد أن حررها، قبل أشهر، من القوات الألمانية. ويذكر بعض كتاب سيرة الشاعرة، أنها تعلقت وأحبت «بشكل خفيف» جنديا شابا من الجيش البريطاني، يدعى جاك هاميش، الذي لم يخف أبدا شغفه بهذه الشابة. إلا أن «المشكلة» التي كمنت بينهما، أن جاك كان «ذا هوية مزدوجة»، وهي هوية، لم تستطع الهرب من مجرى التاريخ: إذ كان يهوديا، ومن أصل نمساوي.
في أي حال، وفي العودة إلى الكتاب، نجد أن يوميات باخمان، «الحقيقية»، تحتل مكانة صغيرة جدا في الكتاب، إذ تقع في 34 صفحة، لا غير، بينما نجد أن الجزء الثاني أي الرسائل التي أرسلها جاك إلى إنغبورغ، بعد رحيله من النمسا هو من يعطي الكتاب هذا الاتساع وهذه المسحة «الملحمية»، الرومنسية، والتاريخية بطبيعة الحال: لقد غادر جاك فيينا العام 1946، كي يلتحق بركب «المنفيين اليهود» في تلك الحقبة. وصلوا، في مرحلة أولى إلى إيطاليا، ومن ثم الرحيل (الاستيطاني) صوب فلسطين، إلى «الأرض الموعودة» حيث تشكلت مصائر الآلاف.

آثار التمرد

ربما، في هذه النقطة، تكمن حقا أهمية هذا الكتاب، أهميته الأدبية والتاريخية، أي في هذه الصفحات التي تصف تشكل دولة إسرائيل، حيث نطل من خلالها حول «نشوء هذه الأمة»، عبر «هوية البناء» (البلد الجديد، اللغة الجديدة، المناخ الطبيعي الجديد، العادات الجديدة....). صفحات تصف لنا أولئك الذين جاءوا من أوروبا الوسطى، الذين «رميوا باتجاه أرض كان عليهم أن يتملكوها بشجاعتهم وبآمالهم». أي أننا أمام، المفهوم اليهودي في تقديم «الحادثة التاريخية» بعيدا عن مفهوم السكان الذين كانوا يعيشون فوق أرضهم والذين طردوا منها، كأن نقرأ مثلا (ص: 79) هذا النص الذي يعبر عن تلك الفكرة «التاريخية»؛ يقول جاك في إحدى رسائله: «مثلما ترين، عزيزتي إنغ، تحيا فلسطين بالرغم من كلّ شيء. في هذا المكان، يلعب اليهود فرصتهم الأخيرة، على الأقل، ما دامت الشعوب الأخرى لن تتحول إلى بغض اليهود. إذ ان هنا، هو المكان الوحيد الذي يمكن لليهود الناجين من أوروبا أن يجدوا فيه ملجأ وحياة جديدة».
بمعنى آخر، نجد في رسائل جاك إلى إنغبورغ باخمان، كم أن هذا الشاب يمثل «رمز هذا الشعب الذي عانى كثيرا» والذي عليه أن يضع أحماله «فوق أرض قُدمت له». وبين ذلك كله، نجد قصة هذا الحب العادي بين شابين، الذي اتخذ اتساعا آخر، اتساعا شبه تاريخي، إذ يأتي عبر سرد لهذا «المصير الإنساني». فعلى ضوء الرسائل التي كتبها جاك من بلاده الجديدة إلى إنغبورغ، نجد أنها تحمل أي الرسائل آثار هذه الثورة وهذا التمرد اللذين جعلا، فيما بعد، من باخمان واحدة من أكثر النساء الملتزمات في عصرها: أي في رفضها المستمر بالموافقة على أفكار عائلتها، وكأنها بذلك كانت تشير إلى تميزها الدائم عن كل شيء. تقول في إحدى رسائلها (ص 32): «هكذا هو الأمر إذاً. يتحدث الجميع عني، وبالطبع كل عائلتي: «تذهب مع اليهودي». ووالدتي بالتأكيد غاضبة جدا بسبب كل هذه الثرثرة، وبالتأكيد لا تستطيع أن تفهم ماذا يعني ذلك كله بالنسبة إليّ».
كتاب يقرأ دفعة واحدة، لا لأنه صغير، بل لأنه يسمح لنا أن نجتاز، برفقة الشاعرة الشابة وبرفقة الجندي اليهودي، كل هذه السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وهي فترة كانت مليئة بالآمال والمآسي. صحيح أننا نقع، في بعض الأحيان، على صيغة قول، نجدنا نقف على الطرف الآخر منها، لكن هي صيغة تستحق أن نطلع عليها، لأنها تتيح لنا، قراءة النسخة الأخرى من مجريات عدة.

إسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...