أبناء الرقة.. معاناة الداخل والخارج
في بداية العام 2013 كانت تتوالى أخبار فصائل «أحرار الشام، كتائب القادسية، صقور السنة، كتائب الفاروق ... إلخ» وهم يبسطون سيطرتهم على الرقة ويخرجون الدولة السورية منها، لتكون بذلك أول محافظة سورية تخضع لسيطرة فصائل معارضة.
حظي هذا الانتصار باهتمام إعلامي كبير آنذاك ووصف على أنه خلاص الرقة التي بدأت بذلك مرحلة جديدة لم تدم لأكثر من بضعة أشهر بعدها انسحبت الفصائل آنفة الذكر من المحافظة لمصلحة تنظيم «داعش»، ويترك الأهالي بذلك لملاقاة مصيرهم الأسود.
مع سيطرة الفصائل على الرقة نزح بعض الأهالي منها إلى أن سيطرت «داعش» وباتت نسبة النازحين أضعافاً مضاعفة، حتى أن أكثر جملة تسمعها من أبناء الرقة النازحين هي (لعن الله من كان السبب) وعندما تسأل بعضهم لمنّ يحمّلون المسؤولية يقولون «أولئك الذين أخرجوا الدولة السورية وتركونا لمواجهة دولة الخلافة»!!
معاناة أهالي الرقة مع واقعهم الجديد أصبح عمرها أكثر من عامين، شهدت خلالهما المدينة تغييراً ديموغرافياً وجنوناً معيشياً حيث اضطر الكثير من أهلها الى المغادرة وارتفعت الأسعار بشكل كبير حتى وصلت قيمة كيس السماد مثلاً إلى 150 ألف ليرة بعدما كانت 6 آلاف في نهاية العام 2012، وقفز سعر صفيحة الزيت من 2500 إلى قرابة 30 ألف ليرة.
بعد سيطرته عليها، طبّق «داعش» نظاماً حياتياً خاصا ًعلى السكان، حيث فرض عليهم اللباس الشرعي الشبيه بالزي الافغاني، ومنع التعامل مع الدولة السورية نهائياً. ويقول مصطفى، وهو من سكان الرقة أن «الأب الذي لديه ولد في الجامعة يخفي ذلك عن أقرب الناس إليه، حتى لا تتم معاقبته بتهمة التعامل مع النظام، فالتعليم في الجامعات الحكومية بالنسبة لهم يعتبر تخابراً مع النظام».
في الرقة لا يمكنك أن تتبرأ من ابنك لكي تنجو من العقوبة يقول مصطفى، ويضيف: لا شيء يشفع لك، لا البراءة منه ولا لعنه، العقوبة مفروضة لايمكن التهرب منها.
إقصاء الدولة السورية جعل التعليم في الرقة من الماضي، حيث لا مدارس ولا مدرسين هناك، بينما يعمل الأهالي غير المؤمين بـ «داعش»على ابقاء أطفالهم في المنزل حتى لا يتم تجنيدهم، حيث يعتمد التنظيم الإرهابي أسلوباً في جذب الأطفال عبر سيارات تجول في الشوارع ورسم عليها بعض الألعاب، بينما يصيح شخص عبر المكبر عن ألعاب وهدايا للأطفال ومسابقات، وهي ألعاب مبتكرة لجذب الأطفال ومن خلالها تتم استمالتهم لكي يصبحوا ضمن أشبال الخلافة الذين هم نواة معظم العمليات الانتحارية بحسب مصطفى الذي التقيناه في «حماه» وسط سوريا بعد يوم واحد من خروجه خارج الرقة في ايلول الماضي.
ويضيف مصطفى ان الأهالي لا يمكنهم فعل شيء في حال التحق طفلهم بالتنظيم، حيث يمنع عليهم زيارته أو التواصل معه، مشيرا الى ان آخر سيدة لاحقت ابنها لإعادته وذهبت الى المعسكر الذي تم وضعها فيه، قام داعش بجلدها بتهمة عدم القناعة بنظام الدولة الاسلامية.
ضاقت الحياة كثيراً على سكان الرقة بسبب ظروفهم الطارئة التي فرضها «داعش». ويقول حمود، وهو نازح أيضاً:إنه كان يملك قطعة أرض مساحتها 30 دونماً كلما أراد حراثتها عليه أن يحصل على موافقة خطية من ديوان الزراعة ودفع الزكاة ومخصصات الري والتحصيل المالي قبل أن يدخل الجرار إليها، وهو لايملك المبلغ الكافي، ما دفعه الى هجرة أرضه والذهاب للعيش في حماه.
يتميز التنظيم بـ «العدالة»، يقول حمود ساخراً ويضيف: كل المواطنين متساوون بالظلم، فالجميع يعاقبون، ويدفعون الضريبة، وينكّل بهم، وتنتهك خصوصيتهم، وحدهم المقاتلون لديهم ميزات عن باقي الناس، فعلى سبيل المثل تباع أسطوانة الغاز للمواطن العادي بقيمة 27 آلف ليرة (50) دولاراً، بينما تباع للمقاتل الداعشي بخمسة آلاف (10 دولارات).
تدور سيارات الحسبة في الشوارع العامة والفرعية وتراقب سلوك الأهالي باحثة عن أي مخالفة شرعية، بعض المخالفات تستدعي العقوبة القاسية وبعضها الآخر يستدعي إجبار المخالف (ذكر، أنثى) على القيام بدورة شرعية، وبعض المخالفات تستدعي السجن، وكل سجين يعتقل أكثر من تسعة أشهر يصبح في عداد المفقودين أو المذبوحين.
في داخل الرقة توقفت معظم المهن عن العمل سواء المهن اليدوية كالبناء، أو العلمية كالمحاماة على سبيل المثال لا الحصر. ويقول أمين وهو محام إن أكثر من 1100 زميل له في المهنة فقدوا عملهم بعد سيطرت المجموعات المسلحة على الرقة وإغلاقهم للمحاكم، ومن ثم جاء «داعش» وأكمل الإغلاق، ومثل هؤلاء هناك عشرات آلاف أصحاب المهن الأخرى الذين فقدوا أعمالهم وهم معيلون لأسرهم.
واقع الرقة أجبر الناس على النزوح منها على ثلاث دفعات، ما بعد النزوح استمرت معاناة هؤلاء الناس وإن كانت بأشكال مختلفة، في مقدمتها تكاليف إيجارات المنازل التي ارتفعت بشكل جنوني في مناطق الاستضافة وعلى رأسها حماه التي وصل فيها إيجار المنزل إلى مئة ألف ليرة سورية بعدما كان لايتجاوز الثلاثين ألفاً في السابق، واللافت أن المؤجر كل ستة أشهر يخرجهم من المنزل بحجة أنه سيبيعه ليكتشفوا لاحقاً أنه قام بايجاره لعائلة تدفع أكثر.
حتى الخبز يعاني أهالي الرقة من تأمينه، فنظام توزيعه بمدينة حماه التي تستوعب العدد الأكبر من نازحي الرقة، يعتمد طريقة مندوبي الأحياء الذين يوزعون حصة كل عائلة ضمن الحي الذي تسكنه، فلا بيع مباشر للناس من الفرن كما هو الحال في غير محافظات، وهذا المندوب يفضل أهالي حماه على أهالي الرقة الذين يطلب منهم أوراقاً معينة حتى يحصلوا على حصتهم من الخبز، خصوصاً أنهم لا يعيشون في مراكز إيواء وإنما في بيوت هم استأجروها.
بعض المنازل يعيش فيها مجموعة شبان من أبناء المدينة الذين هربوا من تنظيم داعش بينما بقي أهلهم هناك، يمضي هؤلاء وقتهم في الحديث عن الماضي والتغني بالذكريات ويلعنون الحاضر بتفاصيله ومسببيه. حمود تعلم طهو الطعام بعد نزوحه، كان قد طها البامية والأرز في اليوم الذي زرناه فيه، ورغم تغير الظروف إلا أنه حافظ على كرم أهالي الرقة، فلا يجوز للضيف أن يأتي ويغادر من دون أن يأكل.
بلال سليطين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد