أحمد معلا يمسرح المعري
ليس مهماً اللقب عندما نقول ميرو أو المعري لكننا مع ذلك لا نقول الحالة! نقول المتنبي ويبقى في أذهاننا الشخص أو الشاعر لكننا نادراً ما نقصد الحالة!
أحمد معلا الحالة المختزنة والمكتنزة بميرو والمعري وسعد الله ونوس وغيرهم، هل يبقى أحمد معلا وفي داخله وشوشات اللون والموسيقى وحرية القول والفعل والتجدد كنهر الفرات قبل السد! وكالبحر المتمرد على كل السدود! أحمد معلا هذا المتجدد أو المُجدّد لربيع الأنا رغم يباس المطر! ورغم هذا اليباس إلا أنه يمكن الحفر في الصخر، كما فعل الرومان، وغرس عرائش العنب لتلتف وتلتف خمراً، ويسكر منها جميع عطاش الحياة. أحمد معلا ليس بحاجة للقب أو ثناء، فنحن نتدثر بهذا اللقب حين تمطر لوحته في عيوننا ضوءاً، وما أحوجنا لثناء اللون من لوحته إذ يميل كشجرة عطر الليل ليأرُج فينا من محبته لنا، ولكل هذا العالم.
التقينا أحمد معلا في هذا الحوار وهو بمثابة إطلالة أولى على ثراء روحه وفعله (لوحته).
تأخذ اللوحة لديك بعداً مسرحياً في مشهدياتها بافتراض أشكال أخرى لمفهوم الخشبة التي قد تكون عيون المتلقي! بمعنى أنك تنقل هذا الفيض من الشخوص أو الحشود من داخلك إلى داخل الآخر، فهل كذلك لوحتك وهل يصح توصيفها بالعرض المسرحي؟
متى نقول أن هذه اللوحة مسرح؟! تقول أنني أمسرح، أن أمسرح حدثاً معيناً. يصح هذا التعبير لو كان على الخشبة، في اللوحة لا أعرف إلى أي حد يكون ممسرحاً! ويمكن الحديث بشكل آخر، كأن تكون اللوحة لدي ُتمسرِح الحدث أو التواصل والعلاقة بين الأشخاص، وهذا يتطلب علاقة متحركة بينما في لوحتي الشخوص ثابتة! ولا يمكن أن تحتمل انتقال شخص من مكان إلى آخر! دعنا نتساءل ما هو المسرح المقصود؟ هل هو البنية (الفراغ)؟ ووجود هؤلاء الأشخاص ضمنه؟ وهو سؤال. وكي لا تتحول الكلمة التي تطلق إلى أريحية تعبيرية، بأن يختصر ويقال مسرحة، أو أن اللوحة تشبه المسرح، لا أعرف إن كان هذا ما تقصده بالمعنى التقليدي للكلمة، مسرحة، يعني شخوص وترتيبات معينه لتواجدهم.
ما أقصده أن اللوحة لديك تمسرح الحدث بشخوصه، وإن كان من مفهوم الثبات، لأن الخطوط والأشكال إضافة للون لديك تتمتع بدينامية الحركة ما يوحي وكأن شخوصك تتحرك وهذه الحركة الإيحائية لعرضك تجعلني أقاربها إلى الفعل أو الوصف المسرحي؟
دعني أخبرك بقصة «الصوص الشركسي»- كما يسميها المصريون الذي يبيعه بعض الباعة الطريفون (المحتالون) بمصر، حيث يبيعون الصوص على أنه يرقص على إيقاع أغنية ما، وهكذا يشتري الناس هذه الصيصان، لكنها لا ترقص عندما تصل إلى بيوتهم رغم أنهم يعيدون إسماعه ذات الأغنية، المسألة بسيطة، هي أن البائع كان يضع الصوص على صفيح ساخن أثناء إسماعه الأغنية، فقفزات الصوص تأتي ضمن محاولة تجنب سخونة الصفيح الذي وضع عليه!
المسألة هكذا فيها هذا الالتباس، وهناك الكثيرون كتبوا عن مسرحة هذه الأحداث ولا أعرف إن كانت مسرحية ولا يعنيني إن كان هذا إيجابياً أو سلبياً، فهذا ليس المقصود لدي، ولا أعرف إن كان هذا الاتكاء بالتوصيف مبرراً، وكم هو مسرح أو ليس مسرحاً.
لديك الخبرة الكبيرة بتصميم سينوغرافيات هامة، وبالتالي فهذا المفهوم ليس بعيداً عن آلية تفكيرك، لذا فاللوحة تأتي من المفاهيم التي تتعامل معها، وقد تكون مفردات اللوحة جزءاً من هذه المسرحة بشكل ما، وخصوصاً عرضك «ميرو بثلاثة أبعاد» فهذا الجو مثلاً، كان فضاءً مسرحياً، فهل أصبت التعبير؟
الذي تقصده هو لوحة خوان ميرو«كرنفال آرلوكان»، حيث أعدت صياغة هذه اللوحة لتشكل معرضاً ذا ثلاثة أبعاد ضمن هذا الفراغ الكبير، وكان على الناس ليشاهدوا هذا العرض أن يلبسوا عباءات ملونة معدة مسبقاً، ليلبسوها ثم يدخلوا ويصبحوا جزءاً من اللوحة.
يتضح لي من احتفائك بالأشخاص، مثل المعري، سعد الله ونوس، المتنبي..
المعري ليس شخصاً، فهل تعتبر المعري شخصاً؟! أنا أتحدث عن حالة وليس عن الأشخاص، لا يهمني المعري كشخص، لكن ما أريد قوله، أنه من المعري إلى اليوم لم يتغير شيء، فنحن بنفس البؤس والكارثة والتخلف، ولا تزال نفس الأسئلة والأجوبة والبديهيات، وهذا كله جزء من أزمة الحياة.
لا شيء نهائي، لكن ما أقصده...
يمكنك أن تتحدث بدون مقدمات أو تبريرات، هكذا مباشرة.
ما أريد قوله أنه في الوقت الذي تحتفي فيه بالأشخاص (الحالة) الذين يمثلون حالة فكرية نوعية مشاكسة ومختلفة في سياقاتها الزمنية، كالمعري مثلاً، والذي كان له رأي مخالف آنذاك لبنيوية الفكر التقليدي! وكأنك تحتفي بمن تتقاطع معهم في عملية هدم السائد وأشكال السلطة؟
نعم أنا مع المعري (الحالة)، في رأيه المخالف ولكني أختلف معه بقضية تعليم المرأة، إضافة لقضايا أخرى. ومن الطبيعي كمبدع أن تكون خارج حالة السلطة أياً كانت، سلطة ذهنية أو غيرها، حتى السلطة التي تقود تفكيري أو تسيطر عليه أنا ضدها، حتى الأشياء اليقينية، قد أكون ضدها في إطار عملية الإبداع، فما كان البارحة صحيحاً أكتشف اليوم أنه ليس كذلك، وما هو جيد اليوم قد يصبح غداً غير جيد. من خلال تجربتي الفنية أتعامل مع الأشياء من زوايا مختلفة فالكثير من القضايا أدور من حولها، أو أتلمسها وأواجهها، ويمكن أن تبتلعني أو أبتلعها، أو اهرب منها. هذا كله تجده واضحاً في اللوحة وداخلها كفعل وليس بالضرورة أن يكون الناتج لوحة، وقد يكون مجموع لوحاتي ناتجاً آخر مختلفاً وهذا جزء من صيرورة اللوحة.
اللوحة هي...
لا، لا، تتحدث عن اللوحة، فاللوحة لا تعنيني! هي فعل فني، يمكن أن ُتخرج لوحة أو أي شيء آخر!، اللوحة هي إطار ضيق، لمعلوماتك الشخصية ليست دائماً هي الشكل الذي نكون من خلاله قادرين على تقديم مقترحات أو إبداعات أو أفكار، لصوغ علاقاتنا مع العالم أو الأشياء، فلذلك اللوحة هي الشكل الأبسط لتقديم هذه الرؤى.
ورغم أن هذا الفعل الأبسط (اللوحة)، إلا أنها تبقى تثير الكثير من الحوار الفكري والبصري العالي النبرة ولا تتوقف في حيزها المكاني أو الزماني، وهكذا لوحتك؟
عندما تعمل في اللوحة تقدم ما تريد تقديمه، وليس بالضرورة أن ما تريده يتحقق في اللوحة، فربما يخرج الأمر من يدك و لا تقدم شيئاً! لذلك تراني في اللوحات أذهب في اتجاهات عديدة وقد أقترب من نسيج الرولييف مثلاً، بينما في لوحة أخرى ليس فيها هذا النسيج النافر، بينما في لوحة ثالثة لا أحسم ما أريده بالضبط. ومن هنا تصبح اللوحة مجموعة من الأسئلة وإذا أردت غداً أن أتخلص من الطول والعرض، فأذهب إلى مكان آخر ليس له علاقة باللوحة. مشكلة اللوحة أننا نتعامل مع طول وعرض، مثلاً: «ميرو بثلاثة أبعاد» ليس لوحة بل عبارة عن حالة وعبارة عن طقس، وأنت تدخل إلى هذا الطقس، ومن هنا كان عرض ميرو بثلاثة أبعاد محاولة للخروج من إطار اللوحة، وهذا يعني إدخال الناس إلى عالم الفن، وبتعبير أدق ليكونوا جزءاً من الفعل الفني وهو الأهم. مشكلة اللوحة أنها تنتهي عند حدودها وعند سطحها الفيزيائي شئت أم أبيت، وهناك الكثير من المغفلين بتناولهم لطريقتي الفنية والتعبيرية من واقع اللوحة فقط! وأنا لا أريد اللوحة في النهاية! اللوحة تلويت (تلويث) لوني على مساحة، ومن الطبيعي أنه تنظيم وتركيب ما. إلا أن البعض لديه وصفه جاهزة، أي أنه إن لم يكن هذا التلويث موجوداً، فيعني أنه ليس هناك لوحة! وهذه الوصفة الجاهزة لا تعنيني ولا صاحب هذا الرأي! ومن لديه هذه الوصفة الجاهزة بالنسبة لي ليس له علاقة بالفن.
غويا، دولاكروا، دافنشي. هم أجدادك، كيف؟!
عندما نقول أنني أتكلم اللغة العربية، هذا يعني أنني ابن هذه اللغة وهذه الثقافة، وأن تكون فناناً تشكيلياً، فهذا يعني أنك ابن لغة التشكيل هذه، فيكون بالتالي تاريخك وانتماؤك للأرض التي تقف عليها.
أحمد معلا يمثل حالة من التمرد، على ماذا هذا التمرد؟
أنا متمرد قبل كل شيء على نفسي، وليس على أي أحد آخر. الرغبة بأن أكون حراً هي القضية! فعندما أصبحت محترفاً في الفن، أصبحت هذه قضية أسعى للتمرد عليها، فحريتي تفوق أنني فنان محترف.
هل أفهم منك أن هذه النجومية التي وصلت إليها أضحت تشكل عبئاً عليك أو قيداً تسعى إلى التحرر منه؟
لا، لا، النجومية لم تأت من كوني أصبحت معلماً، النجومية هذه أتت من الناس التي اهتمت بهذا الفن لأنها وجدت له منعكساً في دواخلها، وإلا لماذا تحتشد الناس بأعداد كبيرة أمام معرضك أما لأنها تنتظر منك شيئاً شخصياً، أنا اعمل كثيراً وبسرعة كبيرة، لكني لا أعرض كثيراً، وعندما أقرر أن أعرض يكون لدي مشروع، ولهذا أصبحت الناس تعرف أنني عندما أعرض فإن مشروعاً فكرياً أو مقترحاً ما سيقدم، ولذا ُتحفز لديهم الرغبة بأن يشاهدوا ما أقدم.
بعد أن بلغت هذه الحدود من الفنية والحضور النجومي، أنت تعزف عن التأكيد على هذا، فما هو هذا الشيء الآخر الأكثر أهمية؟
خبرة المهارة والحرفة العالية لم تعد تعني الكثير أمام أن تكون إنسانا! فالأفضل أن تقدم فنك ليس كمهارة عالية بل كإنسان يمتلك هذه المهارة.
معنى هذا أن تقديم اللوحة التي تخرج من الإنسان لتخاطب الآخر الإنسان وليس تقديمك اللوحة التي تحمل مفاجأة الحرفة العالية التي تتحدى عين المتلقي لتحوز على إعجابه على أنواعه، فهل أنا مصيب؟
لا يهمني كل هذا! ما أسعى إليه هو أن أقدم نفسي، فمجموع هذه اللوحات التي أمامك تمثلني بجزئيات زمنية ونفسية، الفكرة هي كالتالي: هناك فرق بين أن تضيع وقتك بأن تكون ماهراً بتقديم اللوحة، أو أن تضيع وقتك على أن تكون بني آدم، فإذا قادتنا المهارة، عندها نقدم الألاباندة (الزعبرة)! أما إذا قدمت نفسك، فأنت تقدم وجعك ووجع الآخرين، فرحهم ومشاكلهم والتي أنت جزء منها.
أنت تقدم نفسك بكل ما تحمله من وجع ومعرفة وفن، لكنك نفسك غير منعزل عن اشتراكك في الآخر، فكيف تكون مجرد نفسك؟
طبيعي ويجوز أن أكون أكثر من حدا (واحد)، دعني أقول لك أمراً لأنهي هذا الإشكال، مثلاً: لتقول عن شيء أنه جميل، أنت بحاجة إلى خبرة، أي مرجعية، في هذه الخبرة ما يجعلك تقول عن هذا الشيء بأنه جميل، وبالتالي وجدتُ أن هذا المفهوم يقود إلى الانحطاط! لأنه أصبح له معيار نكوصي، بمعنى أنه يقتضي العودة إلى الوراء باعتبارنا نقيس على معيار موجود في الخلفية المعرفية، وبالتالي كيف يمكنك أن تهرب من المعيار الذي يرجعك إلى الوراء، وهكذا، المهارة ترجعك إلى الوراء لأنها تقودك من خلال المعيار الذي يحتوي عدداً من المعطيات. أما البني آدم، فهو الذي يعيش التجربة الجديدة وعليها تبنى المعطيات.
هذا يقود إلى حداثوية الفن الذي يعتبر أن اللوحة ليست الحالة بل نتاج الحالة، والمهم هنا هو الحالة أثناء الرسم، معنى هذا أنه كان يجب أن أراقب حالتك أثناء الرسم وليس نتاج الرسم (اللوحة)؟
نعم، هذا فن معاصر، ما كنت أتمناه أن تشاهد حالة اللوحة أثناء المطر، بمعنى أثناء لحظة الرسم، بهذه الحالة ستشاهد لوحة أخرى مختلفة من كل الجوانب عن اللوحة الجافة! هذه ليست هي! ليست لوحة! وما أحاول أن أقوله - وأتمنى أن ُيفهم - أن مجموع هذه اللوحات عبارة عن لوحة، وقد لا تكون اللوحة، لأنك عبر هذا الزمن تخسر أو تربح أو تغير الكثير، وبالتالي هذا المتغير بجزئياته موجود بهذه الجزئيات (اللوحات)، وبالتالي اللوحة ومهما كانت رائعة فهي ليست اللوحة، وإلا لماذا ترسم غيرها؟! من يعمل في هذا المجال الكثيرون يرون فيها اللوحة، ومستسلمون لهذا الخيار، هؤلاء موظفون عند اللوحة، فيعمدون إلى إعادتها وتكرارها.
هذا يعني أنك لست موظفاً عند اللوحة؟
لست موظفاً عند اللوحة، ولا عند أحمد معلا. يهمني شيئان أولهما: لتفترض أنك في غابة ما، قد يصادفك رجل غريب، وبدون أدنى توقع مسبق، تكون أمام هذه المواجهة! فماذا ستفعل؟ أنت تجرب أولاً أن تبدأ بفعل ما تجاهه، بأن تقترب منه، وتسلم عليه أو تحادثه، سلامك عليه هو تلمّس، وأول كلمة تقولها هي مفتاح للتواصل، فلتفترض أنه رد عليك بلغة لا تعرفها، فإما أن تحاول أن تحدس ما قال، أو أن تكمل طريقك، لكن إذا كانت امرأة، فكثير من الأمور قد تحدث لها علاقة بالتوقع والدوافع، وهذا جانب. أما الجانب الثاني: فما هو المعيار الذي تظن من خلاله أن لوحتك انتهت؟! على الأقل، في اللوحة الجزئية المفردة الواحدة، عندما يصير الشكل مكتملاً مثل تفاحة أو سنجاب، وبهذا تكتمل اللوحة!
هل افهم أن لوحتك غير مكتملة؟
اللوحة لدي لا تكون أبداً مكتملة، أما المكتملة فهي تخص المجنون. وإلا لماذا تعيد العمل على اللوحة كثيراً، إذا كانت مكتملة؟! وهذا لبس خطير تقع فيه أنت، ويدخلك في دوامة لن توصلك إلى شيء.
ما أريد قوله في ذات السياق هو مفهومي الخاص بأن اللوحة المفردة تنجز كحالة في إطار زمني خاص بها كمفردة، وبذا تكون حالة مصورة تخص هذا الوقت الذي أنجزت به، بكل فاعلياتها الفكرية والنفسية وتفجراتها الإبداعية الخاصة بهذا المُنجز أو ذاك، فلماذا لا يمكن اعتبارها بجزئيتها حالة مستقلة؟
هذا طبيعي، وأريد أن اعترف لك بأنني أرسم قبل الحدث أو بعده، قبيل الحدث أو بعيده!
أريد أن أسألك هنا، هل الفرق بينهما أن الرسم قبل الحدث فعل تنبؤي، وبعده تقييمي؟
قبيل الحدث أكون مشاركاً به وبعده أكون مشاركاً به، لكني أريد هذه المسافة حتى أعرض الحدث، ولكي تنتبه أنا مشارك به أثناء تحضيرهم له أو بعد ذلك، فأكون خارجه ومراقباً له، لأنه لا يمكن أن تكون في الطابق الثاني وفي الحدث الذي يجري في الشارع، أي أني أكون في الحدث ثم أرسم، أو أراقب الحدث ثم أرسم.
إذاً أنت هذا الشخص الآخر الذي يراقب الحدث (فعل الرسم) في اللوحة، هل افترض هذا؟
نعم. أنا داخل الحدث، خارج وداخل اللوحة، ومن خلال ما أخبره تكون اللوحة هذا الفعل أو امتداداً له، أنا أراقب الحدث وأرسمه، أرسمه كتوقع أو حدس أو رغبة في المشاركة، ما أقصده أنني أثناء فعل الرسم ألغي السيطرة العقلية على اللوحة وأترك لنفسي فرصة أوسع لأتحرك في اللوحة بكل ما لدي من أثقال أو أوجاع أو معيقات جسدية أو غيرها. وهذا كله يشارك في اللوحة، مثلاً: لا يمكن للراقص أن يصعد على المسرح ليؤدي رقصته ورجله مكسورة، أما الفنان في لوحته فيستطيع ذلك، وربما يعطي للوحة فرصة لنتاج مختلف وقد يأتي لمصلحة اللوحة.
هذا الحدث الذي أنت جزء منه، هل نفهمه في اللوحة كنص فكري أو حالة حياتية مختلفة؟
هذا الحدث يمكن فهمه على أنه كل هذا، وإضافة عليه يمكن أن تفهمه على أنه اقتصادي، سياسي، حلم، حب. بالنهاية انتماؤك للآخرين هو الذي يصنع العلاقة، وحدث الآخرين هو حدثك و لا تستطيع الهروب منه.
هل يظهر الآخر كمفردة تشكيلية إلى جانب غيرها، لتؤكد به اللوحة من خلال هذا التوظيف، أم انه ابتلاع لخصوصية الآخر لإبراز فضاء معلا التشكيلي؟
العلاقة تبادلية هنا، ومن الممكن أن يكون ثمة آخر أهم مني، وقد تكون أنت بعد قليل آخر. مثال: أنت أمام الأحمر، اللون على اللوحة غير الأخضر، فاللون يفرض عليك شروطاً ولا يمكنك أن تتخيل كم تكون خاصة! مثال آخر: قبل قليل شاهدت اللوحة التي غلب عليها لون الفوشيا، وأنت تعمل على هذه اللوحة، لا تشاهد عيناك إلا كل شيء بلون الفوشيا، وعندما تحرك عينيك تتغير الألوان من حولك، وهنا تبدأ في التفكير باتخاذ قرار، أي لون سيأتي بعده، وهذا جزء من لعبتك التي يحركها الفنان الموجود فيك، بمعنى آخر هذا يقودك بعد قليل لترى هذا أو ذاك الشخص، أو ذاك العدو، كلون من الألوان، لتعاير معه الألوان الأخرى، لتستطيع التعامل مع الحالة ككل. هكذا تجري الآلية، فقد يقودك شيء ما باتجاه الفرح وقد يقودك آخر لتنزع هذا الفرح (وهنا يقصد اللون)، وبعد قليل يقود آخر لتقضي على الفرح الذي تعيشه أنت، وليس الذي يعيشه هؤلاء الشخوص ضمن اللوحة، وهذا يحدث أثناء عملية الرسم، وقد نتحدث أياماً عن هذه الآلية، لكنها تتم وتصبح جاهزة أثناء فعل الرسم بشكل تلقائي، لكن عندما تكون الأشياء طازجة، أي الألوان طازجة، فستجد أن ثمة من يقول لك: ضعني مكان هذا اللون لأحدث لك انقلاباً في دنيا اللوحة، أو ضعني في النهر وليس على الأرض ...الخ. هذا الحوار الذي يحدث هو ما يؤدي إلى الناتج في النهاية، ويمكن أن تقول كم هي الغربة كبيرة، فبعد أن تجف اللوحة، تصبح أشبه ما يكون بالخروج من عالم والدخول في عالم آخر. بعد أن تجف اللوحة، فإنها لا تعود تنتمي إلى تلك اللوحة قبل أن تجف! وهنا أطلق تسمية اللوحة الحية واللوحة الميتة! فتكون حية وأنا أعمل عليها، أي عندما تكون رطبة تكون الحياة فيها لأن الماء فيها وأكون أنا حياً، لأن اللوحة في هذه الحالة كائن آخر، وبعد أن تنتهي تذهب إلى حالة الموت أو إلى المقبرة! المعرض مقبرة اللوحة.
كأنني أفهم من ما سبق أن ثمة حواراً بصوت عال يحدث بينك وبين شخوص وألوان لوحاتك، إلى أي حد يحتدم هذا الحوار؟
هذا يحدث فعلاً فهم يحادثونني وأحادثهم، نتعارك ونرفع أصواتنا على بعضنا! حتى أنهم يتقاتلون فيما بينهم ويحاولون أن يقدموا لي اقتراحات تفضي إلى تغيير حركية وتعبيرية اللوحة عبر تغيير أماكنهم لمنح حركية الفعل وهجاً أشد ما ينعكس على العمل ككل فتنة وجمالاً. وهذه المحاكمة تلقائية وتتم أثناء العمل وكأنك ضمن هذه الآلية بين شخوص العمل تعمل حسب ثقل تعبيرية الأشخاص وتراتبياتهم المجتمعية أو الفكرية أو الجمالية، فمن يكون في بؤرة العمل يستحق مكانه فعلاً. فأنت تلاحظ في العشاء الأخير الغربي أن المسيح في المنتصف وهذا خطأ لأنه في العشاء الأخير حسب الأيقونة الشرقية فهو على الطرف! لأن كبير القوم خادمهم. وهذه الأيقونة موجودة في معلولا ويمكنك أن تراها هناك.
هل هذا يعني أنك خادم اللوحة؟
هذا بالرغم مني وليس خياراً، ولست أنا المقصود بل أحمد معلا!
ما الفرق بين أنت، وأحمد معلا؟!
مثلاً أنا مريض جداً الآن، أما أحمد معلا فلا. أعطيك مثالاً آخر: أنا الآن أحادثك وبعد قليل سأرسم رغم حالتي الصحية السيئة، لأن أحمد معلا يريد هذا! فلو سألتني أكنت تفضل أن تكون معي أو في الفراش، أنا أفضل أن أكون في الفراش. مثال ثالث: كنت أعمل ليومين متواصلين (48 ساعة) فأحسست بشيء ساخن فوق فمي، وضعت يدي فإذا به دم يخرج من أنفي، فقلت هذا من تأثير الضغط العالي للدم، ويجب أن أرتاح، فطلبت من مساعديّ ترتيب المرسم وإعادة كل شيء إلى مكانه لأنني أنهيت الرسم، وبعد أن وصلت إلى الفراش جاء أحمد معلا ليغويني بإعادة فهم الإشارة وأمرني أن أعاود الرسم حتى لو كان في ذلك موتي، وفعلاً عدت إلى الرسم ورسمت هذا الرعاف وخرجت إحدى أعمالي الهامة.
رأيت هذه اللوحة ولم أكن اعرف ارتباطها بهذه الحادثة، لكنها أثارت لدي الكثير من التساؤلات لما تحتويه من حمولات، فهل يحدث أن تطرح عليك لوحتك المزيد من التساؤل واحتمالات التأويل؟
حتى أنا أحمّل لوحتي مدلولات مختلفة بعد أن تموت. إلا أنها في حالة الخضار(الحياة) تشبه الحالة الرحمية أو الجنين داخل الرحم، وتحتاج إلى شروط وتفاعلات لتخرج، وبعد أن تخرج أكون أنا داخل هذه الأفعال لكني لست مسؤولاً عنها! كيف تخرج وبأي حالة لا يهم، اللوحة تخضع لهذه الدفقة الانفعالية لديّ، وهي تشكل حياة الجنين والمخاض والولادة وكل هذا، وبعد أن تنتهي لا أتدخل لأنها دخلت حالة الموت أو دائرة المقبرة، وكما أخبرتك الحياة مقبرة!
هل أفهم أنك تفصل بين نسيج حياة اللوحة بأبعادها وتفاصيل مفرداتها، بمعنى أنك لست مسؤولاً عن هذه التفاصيل؟
وهل أنت مسؤول عن هذا الشيء؟! هذه الكهرباء في داخلك هي التي تقود بمعنى كم أنت قادر على الارتعاش بسرعة معينة لترى تلك الحالات أمام عينيك أو في داخلك! وإلا كيف يقودك لون لتفعل شيئاً محدداً. وحين تحاول تقليده من جديد تفشل!؟ هذا يطرح السؤال!
بما أنك وصلت إلى اللون، نعرف أن الأبيض فيه كل الألوان وكذلك الأسود باختلاف بين نوعي اللونين. لكن عندما نقول لون أحمر أو أخضر فهل هذا يعني أنك تستدرج معانيها ودلالاتها إلى داخل اللوحة وتعمل وفق هذا الإيقاع التأثيري الخاص بكل لون؟
أي معنى للون هو بلا معنى! فاللون يأخذ معناه من اللحظة الأولى التي يجاور فيها لوناً آخر، ما عدا ذلك فهو بلا معنى. إلا معنى الخواص الأولى، اللون بحالته الأولى داخل العصارة يبقى مجرد لون شفاف أو كتيم، حار أو بارد وهذا ليس شيئاً إذا لم تضعه على سطح اللوحة، وعندما يصل إلى السطح تتدخل آليات جديدة، فهو يختلف بكونه سميكاً أو رقيقاً، خشناً أو ناعماً، إذا جاور نقيضه، ليس مثل إذا جاوره مكمله. وبهذه الآلية تبدأ التفاعلات، ومن هنا تجد البعض يعمل على التدرج وأنا أعتبره تزييفاً وضعفاً واتكاءً سهلاً. وهنا لدي ملاحظات على الوسط التشكيلي الذي يقصي فنانوه مجموعة كبيرة من الألوان.
تقصد الفنانين..!
أنا لا أسميهم فنانين، ممكن أنهم يشتغلوا بالرسم لكن بالفن لا!
بعد هذا الحديث عن اللون لا زلت أحب أن أسألك، هل يحمل اللون بالنسبة لك مدلولاً تراثياً أو ثقافياًً؟
طبعاًً. سأريك الآن لوحة، الأزرق فيها أزرق شرقي، ولست أنا من يقرر شرقية اللون أو غربيته، الحضارة تفعل هذا، فسمرقند بنيت على الأزرق مثلاً. إلا أن كل الألوان في النهاية ملكنا فهل يمنعنا أحد من ذلك؟! اللون في النهاية هو فرصة وملك للجميع ليعمل عليه ويبدع من خلاله.
بالعودة إلى كلمة فنانين، أتذكّر الآن برناردشو في كتابه «الإنسان المطلق» حيث يعتبر فيه أن الإنسان الكامل هو الفنان. كيف يقدم لنا أحمد معلا وجهة نظره حول هذه الكلمة؟
بطبيعتنا كبشر نحاول أن نخفف عن أنفسنا العبء. فالقداحة مثلاً يبقى اسمها قداحة حتى لو كانت فارغة من الغاز، وبدون وجود الغاز فهي لا تملك أي من مقومات القداحة، مع ذلك يصرون على تسميها قداحة! ونحن أمام نفس المشكلة، إذ تطلق التسمية (فنان) على أي إنسان له علاقة بأي جانب من جوانب الفن، فالفن بدايةً ليس مهنة وليس هناك مهنة اسمها فنان وهذا يجب أن يعاد النظر به، والإعلام يجب أن يأخذ دوره في هذا المجال، فهل يعني أن ألبس كنزة عليها الرقم عشرة وشورت، أنني أصبحت لاعب كرة قدم.
هذا يضعني أمام السؤال الحقيقي، من هو الفنان؟
الفنان هو صاحب مشروع، شخص يبحث طوال الوقت من خلال عالمه، مادته، أو تجربته، وتستطيع أن تتلمس شكل هذا المشروع وهو ينمو ويتطور، وكيف يستنبط ويحلل ويتورط، وهذا كله جزء من مشروعه الخاص.
كل هذا ليغني بمشروعه مجتمعه..
يغني أو لا يغني هذا يتعلق بالآخرين. نحن نقول عن فلان أنه ينظم الشعر، لكنه ليس بشاعر، ونقول عن آخر شاعر، يمكنك أن تأخذ من المتنبي الشاعر - مع الألف واللام- موقفاً سلبياً، إنما مع شعره يختلف الأمر وهو موضوع آخر.
الفنان برأيي هو من يمتلك الخيال والذي من خلاله يستشرف المستقبل، ليمنحه لأمته، وأمة بلا خيال - في ذات السياق - هي أمة بلا مستقبل، ومن هنا يكون الفنان..
هذا إذا توفرت الفرص! ويجوز إضافةً لذلك أن لا يكون للأمة حلم، والفنان هو أحد الذين يشتغلون على الحلم.
هذه الشروط تتحقق لديك فهل يمكننا اعتبار أحمد معلا فناناً؟
هذا أتركه للآخرين، فانا لا أحب أن أوصم بما لست فيه. مثلاً تجد بمتحف عمّان لوحة منسوخة عن لوحتي بينما لا تجد لي لوحة، وأنا لست مسؤولاً عن ثقافة الفن هناك.
كثيرون يقرؤون في لوحتك مشهد المطهر أو الجحيم لدانتي، والبعض يرى فيها المخلّص الذي يقود شعبه إلى نعيم الحلم إن جاز التعبير، وأشياء أخرى كثيرة، كيف توافق على هذا أو ترفضه؟
لا أستطيع إلا أن أوافق، فنحن نرى بأعيننا، وبالتالي من خلال وعينا وإدراكنا وخبراتنا وحياتنا، وأنا أؤكد لك أن أدونيس مثلاً لديه القدرة على الحديث عن لوحتي أفضل مني بسبب ثقافته الكبيرة، بينما هناك من لا يفهم بالفن ويقولون ذلك، وهم يحاولون أن يفهموا، لكنهم قد يقولون ما يضرهم أكثر، إلا أن آخرين يقولون أنهم لا يفهمون بالفن، لكنهم يقولون أشياء مهمة عن العمل الفني، ما يجعلك تقف باحترام لهم. وقد تجد أناساً لا يفهمون بتاريخ الفن إلا أنهم قادرون على تذوق اللوحة. مشكلتنا أنه ليس لدى الناس الوقت ليجلسوا أويتأملوا اللوحة لتخلق علاقة أولى معهم، وبمجرد أن تخلق هذه العلاقة الأولى مع أي لوحة، وبتراكم هذه العلاقات من لوحة إلى أخرى ستتشكل أرضية لقراءة اللوحة. والمقصود بالعلاقة الأولى أن يبدأ المتلقي بتشكيل علاقة مع اللوحة في ذاكرته وُيجري حواراً أو أي تساؤل، وهذا يقود إلى طرح تساؤل آخر أمام لوحة أخرى عن الفرق بينهما، ويستطيع أن يجد بنفسه مفردات تخصه. المسألة بسيطة، فعندما يبدأ بالحديث عن طول اللوحة أو عرضها، عاموديتها أو أفقيتها، توازنها أو ...الخ. إلا أن هذا التساؤل غائب عن مجتمعنا، والمادة البصرية عموماً غائبة في حياتنا العامة أو في تدريسنا أو وظائفنا، نحن نعاني تخلفاً هائلاً في هذا المجال.
هل تقول أنه لدينا أمية بصرية؟
لدينا أمية بصرية، كما أنه لدينا أمية في الكثير من المجالات. كي لا يزعل أحد من أنه لدينا فقط أمية بصرية. لكن هذا لا يعني أننا لا نفهم بالفن، لأنه برأيي، أي أم تضيف زينة ما أو لوناً إلى طبق الطعام فهي تمتلك علاقة جمالية مع الأشياء المحيطة بها. نحن شعب بدون معرفة بتاريخ الفن لكننا نتذوق الفن. الإعلام لعب دوراً سلبياً بالتعريف بالفن، فنحن نعرف قصص الفنانين، كقصة فان كوخ عندما قطع أذنه، لكن لا يعرفون أن فان كوخ رسم الشجرة وكأنها شعلة نار مثلاً. يعرفون طرائف عن حياة الفنانين ولا يعرفون عن خصوصيات لوحاتهم.
أحمد معلا أيضاً ليس بعيداً عن مفهوم هذه الطرائف، فالناس تنسج لك بعضاً منها..
الآخرون يصنعون لك أساطير صغيرة، حولك أو حول عملك، لكنك في النهاية لست معنياً بهذا، إن ما يقوله الناس أو ينسجونه يعود إلى انه جزء من بنية الناس وعلاقتهم مع الأشياء.
لا أجد حرجاً في أن أقول: أنه إضافة إلى هذه الأساطير الصغيرة، ينسج أيضاً أنك مصاب بالغرور؟
هل لاحظت اليوم كم أنا مغرور! هل أضحكك؟ لا أملك وقتاً للغرور أو للزيف، وإذ تلاحظ هذا الكم الكبير من الأعمال، ستعرف كم أمضي من الوقت في العمل، فأنا لا أخرج من المرسم، يعني على من الغرور! هل تعرف قصة الدجاجة وذاك الشخص الذي ظن نفسه حبة قمح، كيف ستقنع هذا بأنني لست مغروراً.
يتكرر كثيراً عند الحديث عن أعمالك مفهوم الحشدية، لدرجة أن هذه الصورة تتلون كثيراً وتأخذ العديد من الأبعاد، كيف تقارب هذا لنكون أكثر قدرة على التواصل مع لوحتك؟
الحشد جزء مني، من علاقتي مع العالم، فأنا أقول على الدوام أن النجاة ليست شخصية، فأنت مع الجماعة وتنجو معها أو لا. والحشد ليس هذا فقط، فقد يكون أحياناً مجرد قطيع، وقد يكون مدمراً، كالعلاقة بين حشد قطيعي وبين فرد نبي أو مبدع أو شهيد. كهذه اللوحة التي تراها أمامك، في هذا الحشد الزراعي الذي تعصف به الريح وكأنه حقل شعير! الحشد ليس دائماً سلبياً وليس دائماً إيجابياً. أحياناً يقود الحشد كلب! وأحياناً يكون الحشد مأخوذاً بكيف ما! ماذا تقول عن الحشد الذي ساق غاليلو إلى الموت؟ ماذا تقول فيه؟ وماذا تقول في الحشد الذي وقف أمام الرسول محمد (ص) في بداية الدعوة؟ القصة أن هذه الحالة القطيعية يتحرك الناس بهوس ما من خلالها. ومن هنا تجد كتلة من البشر يقابلها شخص. الحشود في لوحاتي قد يكونون مأخوذين بالانتظار وأحياناً بالخوف أو بالهوس، في كل مرة تسيطر حالة معينة على الحشود في اللوحة، إلا أنها في النهاية موجودة حولنا. مرة يُحكمون ويؤخذون إلى الجحيم، ككثير من نماذج اللوحات الموجودة أمامك، وهناك حشود مربوطة إلى الجحيم كأهالي غزة، فهم داخل القفص والحرائق من حولهم والمؤامرة كذلك من كل الجهات، وهم يكسرون الأسوار من حولهم. هل تستطيع أن تتجاوز هكذا صورة؟! مجموع هذه الحشود المختلفة تكونك وإذا حاولت أن تقوم بنبش أركيولوجي داخلي، سترى جيناتٍ فيها كل هذا. فإذا سألتني هل الحادثة الدينية المعينة موجودة في داخلك سأجيب نعم. لأنني نشأت في هذه البيئة، من الجامع إلى الكنيسة إلى غيرها، ولا تستطيع إلا أن تعكس هذا في عملك، ولولا أن معرضي عن سعد الله ونوس يحتوي هذه المرجعيات لما أثار في الآخرين هذه المشاعر، ولما كتب نزيه أبو عفش وأنطون المقدسي وغيرهم ممن يشتغلون بالفكر والأدب والفلسفة عنها، فيما الذين يشتغلون بالفن أعفوا أنفسهم من هذه المهمة.
معرضك عن سعد الله ونوس يحتمل فكرة التقاء هؤلاء المفكرين بالكتابة عنه بالإضافة إليك، وأنكم تلتقون جميعاً بتحويل النص الأدبي إلى بصري، وهو ما يختلف عن القراءة التشكيلية؟
لا هذا ليس صحيحاً. هل قرأت المقدمة التي كتبتها عن المعرض، والتي تقول بالحرف: «هذا ليس قراءة لأعمال أديبنا الكبير، و لا رسوماً توضيحية لنصوصه، و لا استيحاءً من شخصياته، و لا مقاربة لأفكاره».
تأتي عروضك تحت تسميات معينة، أفلا تؤثر هذه التسمية المسبقة على شكل رؤية نصك البصري أو الكتابة عنه؟
لا، لا، فالذين يقرؤون أو يكتبون يعرفون ماذا يقرؤون أو يكتبون، ولا يقع الأذكياء بهذا.
معرضك الحالي يأتي تحت تسمية «4×4 = 52»، فهل هذه محاولة لتعليمنا جدول ضرب جديد؟
تأتي ضمن عرضي الجديد لوحة قياس 4×4 أمتار، وهنا الجزء الأول من العنوان، 52 تعني عدد اللوحات، كما أن العنوان يشير إلى عيد ميلادي وأنني بلغت 52 عاماً من العمر. وتثقيب الأرقام بهذه الطريقة - كما جاء في بطاقة الدعوة - تتيح مشاهدة اللوحة من خلال الرقم! إضافة لأن هذا الشكل الجديد من الطرح يخلق مشهدية إعلامية جديدة تثير مزيداً من الأسئلة، حتى أنه يمكنك أن تشاهد معرضي من خلال الرياضيات.
أتلمس لديك مؤخراً جنوحاً باتجاه تجريد وتكثيف الحالة؟
أنا أدور في دائرة تتسامى إلى الأعلى أو إلى الأسفل، إلا أنني في حركة دورانية، أي أني في اختبار مستمر للوحة، للعمل، للإمكانات حتى «4×4» هو اختبار لنفسي، يعني أنه كان لدي شهية رسم لوحة كبيرة ولدي ثلاث لوحات من هذا القياس حتى الآن.
الطوطم (المقدس) أو المحرم والمحظور كان في دائرة ريشتك المتهكمة، هل لا زال خاضعاً لمفهومي الهدم والبناء؟
القصة هكذا وليست هكذا، كانت لدي إحدى اللوحات المزدوجة، أصور فيها أحد الأشخاص يقدم «مشروعه»!! لكن لو غيرت تريب اللوحتين فسيصبح هذا المشروع وراء ظهره. هذا شيء يمكنك أن تلعبه، وليس هو الحدث بحد ذاته، إنه مجرد تجديد في العمل، وكما قلت لك أنت تعيش في هذا العالم وينبغي أن تتعامل معه، وبطريقك لا بد وأن تصدم أحداً أو أكثر، أو أن يصطدم بك أحد، أن يأكل منك الآخر مقلباً أو أن تأكله أنت، وهذا طبيعي وخاصة في الرسم، إذ تكون المساحة أوسع وتستطيع المواربة، ولا تكون المسألة واضحة إلا إذا رمزت بشكل مباشر لصورة شخص معين، فيغدو الأمر عندها شتيمة. مثال: تسمع على التلفزيون أنه من حق أمريكا أن تدافع عن مصالحها، وهذا بديهي بالنسبة لها، لكن إذا تعارض ذلك مع مصالحنا الوطنية، فهذا يشكل حالة عداء مباشر، ومن حقنا أن نرد. إذاً المسألة هكذا، وبهذا الوعي الذي تمتلكه تكون مضطراً إلى إخراج المعري أو أبو النواس مجدداً (هذا زمان القرود فاخضع وكن لها سامعاً مطيعا)، هذا يعني أنه لم يتغير شيء.
هل أفترض انه من خلال لوحتك تمارس دوراً نواسياً معيناً؟
لا، المسألة ليست هكذا، لأنك تكتشف أنه من القرن الثامن وحتى اليوم، بقيت الأمور كما هي، وهذا شيء مؤلم.
إذاً من هنا يأتي رفضك لهذه الأحوال المكرسة لهذه الطواطم، ومحاولة هدمك لها؟
أحوال الثبات والركود تمثل جانباً من هذه الطواطم، ولكن هناك ما هو أبشع من هذا، ويمكن تسميته بالصمت على ما لا يصمت عليه، ويمكن تسميته أيضاً بالخنوع لأشياء لا يمكن لعاقل أن يقبل بها. وهنا أنت أمام أزمة، ويبقى هؤلاء الناس أهلك، حتى أن أهل عصرك هم أهلك. المتنبي مثلاً كان يذم أهل عصره، وكان يصغر تسميتهم ويقول «أهيل». مثلاً: أيام غزة، هل شاهدت أحوال أهالي غزة، مع تضارب المواقف العربية أمام هذا الدم المسفوح. هذا المشهد لا يعفيك من أن يكون لك موقف، وهنا يكون تدمير هذه الطواطم أمراً ضرورياً وملحاً في اللوحة، وأي قول مثل «طبعاً، طبعاً» هو حالة مكرسة وأنا لست معها.
ما دمنا في الحديث عن الطوطم يخطر لي أن أعرض الصورة المقابلة، وتتجلى في الاعتراض عليه ومخالفته كما كان يحدث في القبائل القديمة، إذ كان لكل قبيلة كرنفالها الخاص للانقضاض على طوطمها وإباحته، فهل مشروع لوحتك جزء من هذا الكرنفال؟
رسالتي الرئيسة هي الحرية، هي اللوحة، أرسم لأكون حراً، أنا صانع الكرنفال، أنا ملك الكرنفالات والأعياد والمآتم وما تريده. كل هذا موجود في اللوحة. سأقول لك أمراً، عندما ترسم الجماعة أي جماعة، القطيع، الكتلة البشرية، وتضعها في مصائرها، يمكنك أن تقول لي أن هذه الجماعة في لوحتك هي الجماعة التي تندب الحسين، أو تستطيع القول أن هؤلاء أهل الأندلس أثناء الخروج منها، أو هؤلاء مشهد الحجيج في مكة. وتستطيع القول أن هؤلاء هم أهل الشام قبل دخول المغول أو الفرنسيين، أو داحس والغبراء. الحشد لدي إطار تفرضه هوية، فتشعر أنك منهم ولا يشعرون أنهم منك، وهذه مشكلة فأنت تحاول أن تقول أن الطريق من هذا الاتجاه بينما هم يسلكون الاتجاه المعاكس. هذه الحكايا هي من حكايانا، إلا أنني أعيد صياغتها بطريقتي وليس بالضرورة أن أرسمها تحديداً. مثلاً، حدثت المذبحة في غزة اليوم، وعندما جئت لأرسم هذه المذبحة، رسمت فجراً أخضر طرياً فيه أرواح تطير إلى السماء، لا أشخاصاً مذبوحين. هكذا تتم الأشياء في لوحتي. تصور أن ترسم المتنبي أمام كل هؤلاء المتحاملين عليه في مجلس سيف الدولة، أو عندما رجع بخيبته من مصر. هذا الشيء موجود في داخلك وأنت ترسم شعورك تجاهه أو علاقته مع العالم تجاه هذا الحدث أو ذاك، أو تجاه أهلك أو حلمك، وقد لا يكون له علاقة باللوحة من قريب أو بعيد. قد يكون مجرد إحساس بطريقة أو بأخرى وقد لا يكون كل هذا، قد يكون الأمر توازن كتل في اللوحة، حشد بهذا الطرف وشكل مفرد في الجانب المقابل يحدث توازناً، فقد يكون المعري أو المتنبي، وقد يكون كلباً! إذا افترضت أن هذا الحشد مجموعة من العميان يقودهم كلب، وهم يظنون - كما يقول نبيل صالح عن الفيل - أن المقدمة من جهة الخرطوم! وقد أكون أنا ضمن هذا الحشد كشاهد أو متنبئ أو ضحية أو أي شخص آخر، وكما يقول البدو: «إذا جن ربعك عقلك ما ينفعك»، فأنت تصبح ضحية بأي عراك بين طرفين، موت الآخرين يعني أن جزءاً منك يموت.
تفاجأت بمجموعة لوحاتك الأخيرة بوجود الخط العربي خارج مألوف الحروفية وأكثر اقتراباً بالحرف من المفردة التشكيلية المتغيرة من لوحة إلى أخرى، كيف أفهم رؤيتك للحرف أو الخط في إطار تشكيل لوحتك؟
قد تظهر الكلمات في اللوحة وتتخذ نصاً شعرياً كقول أبو النواس: «هذا زمن القرود فاخضع». فيجيبه المعري بنفس اللوحة: «فلما رأيت الجهل في الناس فاشياً.. تجاهلت حتى ظُنَّ آني جاهل» وقد يكون النص غير كامل، أي أن تكون شرارته الأولى ظاهرة مثل قول المعري: «ومن نكد..»، لكنك لو كنت تعرف بقية البيت ستكمله بنفسك: «ومن نكد الدنيا على الحر أن..»، والهدف هو البنية الكتابية للوحة لمن يعرف أن يقرأ هذه اللغة ويعرف بقية النص. وقد يبقى بناءً تشكيلياً لمن لا يعرف قراءة هذا الخط. وأحياناً يغيب النص ويبقى كعامل جذب، أي أن الحرف يشد اللون باتجاه بعينه، أما الفرق بين هذه التجربة وتجربة بولوك (فنان تجريدي أمريكي)، أنه كان يرش الألوان رشاً، وهي تتحرك بعفوية، هنا الألوان تتحرك وفق وجود الكلمات، فالكتابة غائرة أو نافرة، وتعترض حركة اللون، ويلعب دور المغناطيس، لذا تتشكل الألوان بهذه الطريقة، وبنية الحرف هي من تحدد شكل حركة اللون، فلو كان اللون على الخط الديواني وليس الثُلث لن تكون اللوحة بهذا الشكل حتى بالنسبة لذات الحرف.
هذه المرة الأولى التي أعرف فيها أنك متمكن من الخط.
آنت لا تعرف كل تجربتي أنا خطاط ومصمم حروف وإن لم أقدم الخط لم يكن ثمة داعٍ لذلك، أما الآن فأنا أشعر أنه هناك حاجة لهذا، برأيي، في التجارب الحروفية لم يعملوا على اللوحة كثيراً، لذا ذهبت بهذا الاتجاه لأغطي جانباً لم يعطَ حقه. وللتنبيه فاللوحة لدي لا تتجه إلى الحرف بل إلى الكتابة، مثلاً، لو كتبت حاء حاء، ووضعت فوقها لون الأورانج (البرتقالي) سيتحرك بإيقاعات متماثلة على هذا الحرف، إذ إنه يستوقف اللون ويجذبه بشكل محدد. أما إذا كتبت حروفاً مختلفة، فالحرف هنا سيأخذ من اللون حمولات مختلفة، وهذا ما يحدث، وأنا لا أتدخل بصوتيات الحرف ومختلف فضاءاتها، بل بالكتابة وحسب. وكذلك لا تعنيني طاقة الحرف، بل طاقة الخط نفسه، ففي لوحة فيها خط الثلث، ستشاهد شيئاً مختلفاً عن لوحة فيها الخط الديواني. وأحب لفت النظر حول قضية أخرى، تتعلق ببنيوية النص. مثلاً: «بناها فأعلى والقنا يقرع القنا». فهنا حركة النص إلى فوق، بحكم وجود وتكرار حرف الألف، وهذا يقود إلى تشكيل لوني مختلف. ولو أمعنت النظر إلى قصائد الشعراء ستجد أن شعراء بعينهم يفضلون حروفاً على غيرها، لأن هذا يكون جزءاً من لهاثهم وروحيتهم ونفسيتهم وتنفسهم وقوة أو ضعف حناجرهم، وأنا لم أدخل بهذا الجانب، لكن أثناء العمل يمكن أن تلاحظوا بعضاً من هذا.
هل يمكن أن أقول أنك لا تستنهض طاقة الحرف، بل طاقة الخط التصويرية؟
أنا يهمني الطاقة التصويرية للخط، والناتج الذي تخلص إليه، والأساس فيه هو الكتابة، وأنت تلاحظ في لوحتين يحتويان هذا الخط (الثلث) اختلافاً، وهذا يقود إلى إيقاعات تعبيرية تمنحها هالة الخط، ففي هذه اللوحة، أنت أقرب إلى الحرير أو السقف الأندلسي، أو السجّاد الأصفهاني، بينما اللوحة الأخرى لا تأتي بنفس السياق، رغم أنهما يحتويان ذات نوعية الخط، وإن كان النص هو المختلف فقط. ويمكن القول لتوضيح المسألة، إن أساس بنية اللوحة، أي هيكلها، نص مكتوب، وبشرتها، هذا النسيج اللوني الذي تشاهده، وتحته - بتعبير آخر- هندسة خفية للنص المكتوب، فهو الأساس لإخراج اللوحة بتشكيلها الخاص والمختلف من لوحة إلى أخرى
عمار حسن
المصدر: اكتشف سورية
إضافة تعليق جديد