أمهات خارج حدود العيد..
لم تزل (أم حسن) متقوقعة في درعها أمام وكالة سانا منذ أكثر من عشر سنوات، تتوالى الفصول وهي على هذه الحال، النهار الصيفي الطويل، البرد القارس شتاءً، الهواء الشديد.. كل ذلك لم ينل من همة المرأة الصلبة، تمر أمامها قوافل البشر محملين بالورد، وأم حسن ما زالت تسكن الشارع المزدحم.
سألتها ونحن مقبلين على (زحمة) من الأعياد: الناس (معيدين) يا أم حسن، وأنت تعملين؟
أم حسن: العيد لأهله.
لسن مهربات، ولم يمتهن التهريب، قادهن الفقر إلى مهن اخترعها الفقر نفسه، أمهات كن، لهن أزواج يعملون ويعودون مساء إلى بيوتهم محملين بالحوائج، لكن الظروف الصعبة لبعضهن، والأبناء السيئين لأخريات، وضيق الحال في الغالب، قاد الكثيرات إلى أعمال ما كنّ في يوم يتخيلن مزاولتها.
أم حسن، أم كامل، أم محمد.. نماذج من البائعات اللواتي وجدن في الرصيف سوق عمل، أمهات لهن ظروف لم تمهلهن للبحث عن عمل يليق بهن، ولم يجدن الفرصة ليقلن لا للرصيف، الحاجة جعلت منهم نساء دون خيارات.
- تقول أم حسن: مات زوجي في الخمسين من عمره، الحياة الصعبة، العمل الشاق الذي كان يمارسه، كل ذلك ساعد في رحيله المبكر، لهذا لم يكن أمامي خيارات كثيرة، الأولاد لم يكن بمقدورهم العمل، هناك من يدرس وهناك صغار غير قادرين على التصرف، جارتي أم كامل قادتني إلى هذه المهنة، نشتري الدخان المهرب ونبيعه بأرباح قليلة، لكن الزبائن كثر، يوميتي بين 500-600 ليرة سورية، وقد كبر الأولاد لكنني اعتدت الخروج في الصباح والعودة قبل الغروب، والأهم عدم طلب المساعدة من أحد.
- أم كامل لها قصة مختلفة كونها تابعت مهنة زوجها، المرحوم أبو كامل توفي في مواجهة مع دورية جمارك، وكان أولاده الأربعة في المدارس، أكبرهم في الصف العاشر.
تقول أم كامل: بعد وفاة المرحوم كان لابد أن أتصرف، مهما ساعدك الآخرون فلن يساعدوك طويلاً، أحد أصدقاء المرحوم عرض أن أعمل في بيع الدخان، ولأننا نعرفه لا يبيعنا بسعر السوق، وهكذا من أكثر من خمسة عشر عاماً وأنا أعمل في هذه المهنة، ساعدت الكثير من الأرامل، الشرطة عندنا يشفقون على كبار السن وخصوصاً من النساء، وهي فرصة للعمل بقليل من الكرامة.
- أم محمد في أرذل العمر تقول: كنت أتمنى أن أجد هذا العمل منذ توفي زوجي، بعد وفاة (أبو محمد) عشت سنوات صعبة، تحملت الكثير من الكلام القاسي من زوجة ابني الوحيد، باتت لقمة الأكل (بالمنية)، وشعرت أنني عبء على زوجته، لكن الأقدار ساهمت في معرفتي بأم حسن، وهاأنذا أعمل منذ سنوات ولا أمد يدي لأحد، هكذا عمل أشرف من الذل، والأبناء.
خلف البرامكة، الكراج القديم، تتجمع مجموعة من النساء، من أعمار مختلفة، صبايا، عجائز، يضعن أمامهن أكوام المهربات، أدوات زجاجية، عطور، أقلام مدرسية، شامبو، كبريت..الخ.
- تدخن أم ياسر سيجارتها كأنها في استراحة، تفاوض الزبون ثم تخرج من صدرها كيساً مليئاً بالنقود، تحاسبه، ثم تنظر مجيبة على سؤالي.
أم ياسر: ( شو اللي جابرك على المر)، أجابت: (الذي أمر منه)، تختصر بعبارة كامل أوجاع النسوة المفترشات طريق التراب في البرامكة.
- أم خالد: العيد للأمهات الجالسات في بيوتهن، لا يفكرن في رغيف الخبز، بينما أمثالي يركضن ليل نهار لكي لا يمددن أيديهن لأحد.
- فاطمة صبية في العشرينات: بدأت العمل مع والدتي رحمها الله، علمتني كيف أحصل على البضاعة، وها أنا أواصل مشوار (التعتير)، لا نستطيع العمل في مكان آخر، ليس لدي شهادة، أو مهنة.
- أم جاسم: كنت أعمل خادمة في البيوت، في المزة، المهاجرين، ولكن لم يعد بمقدوري الشطف، الغسيل.. ظهري صار يؤلمني، هنا العمل أسهل وأكثر ربحاً، صحيح أننا ننتقل من سوق إلى آخر، لكن الله يعيننا.
هل تريد لبناً مصفى طازجاً وبدسمه، عسلاً طبيعياً، بيضاً بلدياً بصفارين، جبنة بلدية، خضار طازجة، تيناً من وادي بردى، تفاحاً من عرنة ودربل، وعنباً من القنيطرة؟
أغلب الدمشقيين الذين ملوا من المعلبات والأطعمة المجففة يهرعون إلى البرامكة، حيث الطازج من الطعام، والهروب من الهرمونات التي باتت تسكن في الدجاج والبيض وأصناف المأكولات.
- أم ياسين من وادي بردى: أبيع البيض البلدي وأجمعه كل يومين، هنا تعوّد الناس على بيض المداجن، وأنا أقدّم لهم البيض من العش إلى أفواه أبنائهم، الطعام الذي أقدمه هو الأعشاب والحبوب فقط.
- أم حسين من القنيطرة تضع أمامها وعاء من اللبن المصفى (اللبنة)، تقول: المشوار طويل إلى دمشق، ولكنه سوق سريع للبيع، أنتهي من البيع الساعة العاشرة في أصعب الأيام، في البلد حيث أسكن، أربي الأبقار، أحلبها بيدي، ثم أصفي اللبن، لا أحد يتدخل في عملي، هذا ما تعلمته في الحياة.
- تين مجفف، وتين طازج، عبوات زجاجية من العسل، هذا ما يمكن أن تجده أمام الخالة أم إسماعيل من قرية (دير مقرن) في ريف دمشق، يومياً تأتي إلى دمشق رغم المواصلات السيئة، لكنها سعيدة بعملها.. تقول أم إسماعيل: الحياة صعبة، والزمن لا يرحم، والفقير مثلنا ليس له سوى عمله، وامرأة مثلي ماذا يمكن أن تعمل في هذا العمر، هذه مونتنا أيام زمان، وما تعلمناه من أهلنا، اليوم نستفيد منه في تحصيل أرزاقنا.
من أجل السخرية فقط أطلق عليهن هذا الاسم، أمهات وبنات يعملن كخادمات، بالرغم من انفتاح أغنيائنا على العمالة الآسيوية، هن أقل تكلفة، لكن الآسيوية سواء أكانت (فلبينية، اندونيسية، أثيوبية) هي أكثر وجاهة، ودلالة على الغنى، وطول اليد.
الخادمات الوطنيات، لهن قصص تشبه كل القصص التي تجبر امرأة على الخروج من بيتها وممارسة هكذا عمل رث..
- في المزة تدور فاطمة وهي أم لأربعة أولاد وزوجة رجل قضى الخمر على جسده، وينتظر يوماً بعد آخر موته.
تقول فاطمة: ابتلي زوجي بالخمر، صار مدمناً، لم يستطع في السنوات الأخيرة أن يعمل، حاول أن يعمل مستخدماً، بائعاً في أحد المحلات، لكن صحته لم تسعفه.
تتابع بغصة: هذا ما قادني إلى بيوت الذوات، كل يوم بيت، لدي أربعة أسر، أنال على الخدمة من 300-500 ليرة، لكن الحياة ليست سهلة، والغلاء يهد الحيل.
- أم علي بسنواتها الستين، لم يشفع لها عمرها المترنح، لبست الفقر من أول عمرها، البيوت الغنية تعرف لون ممسحتها، والبلاط اللامع يشهد على أيد مارست تنظيفه مئات المرات، منذ عشرين عاماً وهي تنظف، تعمل على إسعاد الآخرين، ويملأ قلبها حزن لا ينتهي.
تقول أم علي: آه لو أنني ما زلت في بلدي (الجولان)، كان لدينا الرزق الوفير، كروم العنب، بساتين المشمش، القمح، الدجاج، لم نشتر شيئاً من السوق سوى اللباس، المازوت، لكن الأقدار قادتنا إلى العاصمة، حيث العمل الشاق هو ما يأتي بالنقود، وكل شيء مقابل المال.
- قصة غرائبية، ورثت العام الفائت 7 سبعة ملايين ليرة، لكنها ما زالت تمارس عادتها، في السادسة صباحاً تسري مع عربتها الخشبية، تجمع كل ما يمكن أن يحمل، تدخل بيتها مزيجاً من الخردة: أكياس، علب كولا، أخشاب، تنك، ألبسة.
تقول بحياد: لن أترك هذا العمل، هو الذي ربى أولادي، واشترى لزوجي المسكين الدخان (أبو صلاح على البركة) وصلاح ذهب إلى الجيش، وسوف أزوجه بعد انتهاء خدمته.
لتاريخه ما زالت أم صلاح تلف البلدة مختفية خلف كومة البضائع السخيفة التي ربت عائلة كبيرة، أما الملايين السبعة لم تثر أم صلاح، لم تصبها بسكتة قلبية، أو هلوسة، أو أزمة نفسية، أم صلاح عملها سبب اتزان يحترم.
- أم خلف تزوجت من مستخدم المدرسة الذي لا يعرف معنى القرش، باع أساور عرسها، ليشتري بعض رؤوس الغنم، ثم باعها وخسر، ثم اشترى بيتاً وباعه، ثم اشترى بيتاً أصغر، هكذا عاش زوجها يشتري ويبيع، ثم يخسر.
لذلك كان لابد من أن تكون صمام أمان للمنزل، عند البيت الأخير الصغير، توقفت أم خلف، وأوقفت جموح زوجها المتهور، وبدأت تزرع كل ما يمكن أن يعطي المنزل كفافه، أما البقر، والماعز، فاستثمرته في بيع الحليب، وصنع الأجبان، ثم بيع أبناء البقر والكبيرات في السن.
لم يعجبها شراء الماء، الصهاريج في الصيف تصبح أسعارها مرتفعة، شمرت عن زنديها، وبدأت، ستة عشر متراً، والماء يتدفق.
أم خلف.. حفارة البئر، تتغنى باسمها النساء عندما تصير المقارنة، بين الرجل والمرأة، أما عيد الأم فلا تتذكر أنها عاشته يوماً، البيت لا يحتاج شيئاً، عيد كبير لأم خلف.
أمهات غزة: هن أقدس الأمهات، البكاء الطويل وراء جثامين الأبناء الذين صرعهم رصاص العدو.. في غزة نساء لا يعرفن شكل الاحتفال، لم يقفن خلف قالب كاتو، لم يُغنِّ أحد لهن أغنية العيد.
في غزة.. تتهيأ الأمهات كل صباح للحداد، للذهاب خلف شهيد، لإطلاق زغرودة فرح لشاب يفجر نفسه في كباريه يرتع به الصهاينة ويمرحون.
في غزة.. فلسطين بكامل ترابها، بكل أمهاتها، لا تنتظر إلا عيداً واحداً، لا هدية فيه، لا شموع، كلهن ينتظرن.. عودة أسير، مبعد، مشرد... عودة الأرض... أمهات يشبهن الأم الكبرى – الأرض.
كل عام والأمهات بخير، لأم تبكي قرب دجلة، في القدس، لأم تبيع لتأكل في شارع دمشقي مزدحم، تبيع الدخان المهرب لتهرب من الحاجة، لأم تبيع بعض مونتها، كي لا تمد يداً للئيم.
كل من ذكرنا هنّ خارج الاحتفال، لكل منهن سبب، لكن في المحصلة ليس لهن يوم يقال فيه: كل عام وأنتن بخير.
للخارجات من العيد بلباس العمل، هل من مؤسسة في هذا الوطن تحمل لكن وردة عرفان، فيكفيكن فخراً أنكن لم تخترن الطريق السهلة للعيش..كل عام وأنتن بألف بخير..
عبد الرزاق دياب
المصدر: قاسيون
إضافة تعليق جديد