أيام صبري مدلل
تعود معرفتي بالشيخ صبري مدلل إلى مرحلة الستينات حينما كنا نستمتع بصوته الرخيم تحمله النسائم من مئذنة جامع (العبارة) وسط مدينة حلب وتوزعه في الآفاق عذباً رخياً رائعاً.
كان صوت الشيخ صبري ينطلق وهو يتلاعب بالمقامات الموسيقية يلون من خلالها أداءه الرائع في الآذان.. وكانت فترة الآذان وقتاً ممتعاً لالتقاط الانفاس لدى جوار جامع العبارة حيث يتوقف الناس عن أعمالهم ليصغوا باهتمام وإكبار إلى صبري مدلل ومقاماته الساحرة وهو يؤذن في أوقات الصلاة المعهودة.
وحينما كانت تطول بنا سهرات الصيف ونمر وقت السحر من جامع جانب العبارة كان صوت الشيخ صبري ندياً مع خيوط الفجر:
ياحي يا قيوم يابديع السموات والأرض
يا ذا الجلال والإكرام, يا ذا الطول والإنعام
وهو بين آونة وأخرى يرسل صوته في قصائد المدائح النبوية المشهورة فتسمعه تارة يتغنى بشعر ابن الفارض:
أبرق بدا من جانب الغور لامع
أم ارتفعت عن وجه ليلى البراقع
أو لشعر البوصيري :
أمن تذكر جيران بذي سلم
مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم
وحينما انتقل الشيخ إلى الجامع الأموي الكبير. كان قد تربع على عرش الإنشاد الديني, ومن وسط المدينة القديمة حيث تطل القلعة بهيبتها ووقارها. كان صوت الشيخ صبري يملأ أجواء المكان وهو يتلاعب بالمقامات: الحجاز والرست والبياتي والنهاوند.
في تلك المرحلة لم نعد نكتفي بسماع الصوت الجميل, وإنما كنا نقصد الجامع الأموي الكبير للقاء الحاج صبري (أبو أحمد) وهو جالس أسفل المئذنة على كرسيه المصنوع من القش, بقامته الرشيقة الدقيقة ووجهه المعروف وطربوشه المترنح فوق رأسه لا يفارقه.
وهو في مجلسه يطلق الأحاديث المرحة والنكات, ويرسل المواويل, ويلون أبيات القصائد, ويدندن بالألحان التي تخطر على باله.
وتواتر اللقاء بالحاج صبري في الجامع الأموي الكبير, حينما بدأنا في السنوات الأخيرة مرحلة الترميم والتأهيل للجامع بعد صدور القرار الجمهوري بتشكيل لجنة إنجاز لهذا الترميم, وكنت واحداً من أعضائها.
وأصبح اللقاء يومياً- تقريباً- بهذا الرجل الفريد بملامحه وصوته ونبله الإنساني.
من ناحية أخرى كان الحاج صبري على تواصل كبير معنا في جمعية العاديات, نقيم له الحفلات التي يحضرها أعضاء الجمعية, وابنه البكر أحمد وابن أخته محمد حمدية عضوان ناشطان في الجمعية ونحن نحتفظ في أرشيفنا في الجمعية بعدد كبير من التسجيلات الصوتية والمرئية لحفلات صبري مدلل وهو يغني لجمهور جمعية العاديات.
في إحدى زيارات الصديق الأديب جمال الغيطاني إلى مدينة حلب أظهر رغبة شديدة بلقاء الحاج صبري مدلل وكان ذلك قبل ثلاث سنوات, وكان الحاج صبري مريضاً ممتنعاً عن الغناء والأنشاد.
والصديق الغيطاني يحب مدينة حلب وقد كتب كتابات جميلة وكثيرة وقد أخبرته بأن الحاج صبري لا يستطيع الغناء الآن, ولكنه أصر أن يلتقيه وإن لم يكن هناك غناء أو إنشاد.
اتصلت بابن أخت الحاج صبري, محمد حمدية, وأوضحت له أن الصديق جمال الغيطاني من أهم الأدباء العرب المعاصرين, ولديه رغبة أن يلتقي الحاج صبري عن قرب بعد أن استمع إليه في دار الأوبرا في القاهرة, وفي أماكن أخرى في مصر وهو معجب بصوته وبشخصه المتميز.
واتفقنا أن تحضر مجموعة صغيرة من فرقة الحاج صبري إلى منزلي, وأن يحضر هو مستمعاً فقط وكان ذلك.
أنشدت الفرقة- بناء على طلب الأديب الغيطاني- وكان الحاج صبري يشكو السعال وبجانبه كأس الزهورات يشربه متمهلاً, وحين وصلت الفرقة إلى موشح (احمد ياحبيبي) رأينا الحاج ينفتل من مجلسه, وبإشارة من يده يسكت الفرقة, وينطلق منشداً موشحه:
أحمد ياحبيبي سلام عليك
ياعون الغريب سلام عليك
جئت بالتوحيد فزت بالتمجيد
ياعون الغريب سلام عليك
كان الشيخ صبري يغني بكل حواسه بصوته الرقيق, وطربوشه المتمايل, وحركات يديه وهي ترسل الإيقاعات, وتعابير وجهه, لقد تمكن من التغلب على الضغف والمرض والسعال, وانطلق لمدة ثلاث ساعات وهو يطوف بنا على موشحاته:
أشرقت أنوار نبينا
باسم الله عمرت ليالينا
صلاة الله ذي الكرام
يانبي سلام عليك
وحينما طالبه الأستاذ الغيطاني بأداء أغنيته المحببة: ابعث لي جواب لم يخيب له رجاء, ولكنه قبل أن يشرع في أداء الأغنية التفت إلى جمال الغيطاني وأدار فيه نظرات متفحصة,
وقال له بلهجة الأستاذ مخاطباً أحد تلاميذه:
يبدو أنك تفهم في الموسيقى يا أستاذ
وأجاب الغيطاني: قليلاً يا مولانا
وفي زيارة أخرى.. بعد تلك بوقت قصير, جاء الحاج صبري إلى منزلي بناء على رغبة مجموعة من أساتذة الجامعات في اسبانيا وتونس والمغرب كانوا يشاركون في مؤتمر علمي نظمناه في حلب.
ويومها لم يستطع الحاج أن يغني طويلاً, كان صوته متعباً, وملامحه توحي بوطء سنوات العمر.
رحمك الله يا أبا أحمد رحمة واسعة. لقد كنت واحداً من ركائز التراث الفني الديني, وكان صوتكم لوناً خاصاً فريداً, وسوف تبقى ذاكراك في أذهاننا, وسوف تبقى حركة طربوشك الأحمر لا تفارق مخيلتنا.
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد