أيـــن نـفـــط الـعــــراق؟
ما من أحد في العراق وخارجه إلا ويتحدث عن ثروات هذا البلد، ويضع النفط في مقدّمها، ويعده عاملاً أساسياً في عدم استقرار هذه الرقعة الجغرافية في منطقة الشرق الأوسط.
ويعزو البعض الانقلابات الدموية التي مرّت بها الدولة العراقية، والحروب التي خاضها النظام البعثي ضد بعض جيرانه كما ضد أبناء الداخل من الأكراد، إلى الصراع على الثروات، في بلد كان وما يزال يشكل الرقم الصعب في أسواق النفط العالمية. كما أن التدخل العسكري الأخير في العراق أو قبله فوّض شركات عملاقة بريطانية وأميركية صلاحيات لا يعرف عنها عراقي أي شيء.
فالنفط ضرب من ضروب الخيال قبل الاحتلال وبعده. والحديث عنه يكاد أن يكون ميتافيزيقياً عند أصحاب الحق في هذه الثروة التي منحت لهم بحكم عوامل طبيعية.
العراقيون اليوم يقفون في الطوابير، ويجبرون على الانتظار ساعات طوالاً، من أجل الحصول على مادة الوقود الأساسية والمستعملة في حياتهم اليومية في شتى الاستخدامات، سواء أكان بنزيناً أم غازاً. ولا يدركون أن الدولة العراقية تستورد مشتقات النفط من الخارج، كما أنها مخفقة تماماً في معرفة آلية البيع والتوزيع، وتعيش أزمات جمة مع المحافظات والإقليم الكردي بهذا الشأن، الذي تنبئ تداعياته بين الفينة والأخرى بإسقاط العراق في فخ التقسيم، تحت عناوين سياسية جوهرها صراع على «الذهب الأسود» في بلد لا يطال الناس فيه من وجود هذه الثروة إلا الموت والاقتتال.
وقال وزير النفط العراقي الأسبق إبراهيم بحر العلوم، رداً على سؤال عما إذا كانت المحاصصة التي تنتهجها الإدارات العراقية في هذا القطاع تشكل عامل ضغط في الأوراق السياسية على طرف دون آخر، وهي التي تثير النزاع والصراع على السلطة التي تبنى في مجملها على الفساد في التعاقد، والكوبونات التي تمنح دون علم المواطن لإرضاء الأطراف الداخلية والخارجية، «يجب أن يتم تحييد الثروة النفطية في العراق عن المنازعات والمحسوبيات السياسية وان تكون مشرعة بقانون أقرّه الدستور تحت عنوان تقسيم الثروات أو قانون النفط والغاز، وتشريع القانون أمر تستبعده الكتل السياسية والنيابية في مداولاتها ومؤتمراتها التوافقية والتحاصصية، وتتصارع عليه كتل أخرى لأجندات يرتبط البعض منها بمشاريعها الانفصالية وأخرى بالتبعية وخريطة عراق ما بعد السقوط».
والغريب أن البرلمان العراقي يدرج في مناقشاته والقوانين التي ينبغي التصويت عليها تحت قبته أموراً لا تمت إلى هموم الناس وتحصيلهم ابسط الحقوق في ثروتهم المأكولة منذ عقود، ليعطي البرلمان الأولوية مثلا لمناقشة قانون منع التدخين في الأماكن العامة.
والمشكلة الكبرى التي يعيشها العراق الآن هي انه بلد ريعي، يعتمد في بناء مؤسساته على إيرادات النفط، والبالغة 85 مليار دولار سنوياً، أي 90 في المئة من مجمل الإيرادات العامة البالغة 110 مليارات دولار. وبحسب وزير النفط السابق «فإن الكارثة تكمن في عدم وجود رؤية واضحة في بناء قاعدة نفعية لهذا الاستثمار، تتماشى مع رفع المظلومية عن المواطن في تحصيل ما يمتلكه من حصة في ثروته الطبيعية في العراق».
غياب الرؤية الاقتصادية الإستراتيجية الواضحة، في توظيف منافع القطاع النفطي في الاستثمارات الصناعية والزراعية وقطاع الخدمات، أدى إلى عدم وجود نمو اقتصادي واضح، وأضاع قرابة الـ 400 مليار دولار خلال السنوات الثماني الماضية منذ مجيء الاحتلال، حيث لم تترجم هذه الإيرادات إلى حركة اقتصادية واعدة لإعادة بناء العراق.
بحر العلوم أجاب عن تساؤل الشارع الملحّ عن مصير إيرادات النفط، فقال «إن هناك ضبابية بل سوداوية تكتنف القطاع النفطي، بسبب سوء الإدارات المتعاقبة في حكم البلاد، والتي اعتمدت على النفط كطاقة لشحن مسيرتها الحزبية والفئوية، من دون الالتفات إلى أبسط حاجات المواطن، المالك الأصلي أو الشريك في الإيرادات. فصار الإنفاق على عسكرة الدولة وميزانيتها التشغيلية، والتي تخطت فقط في أروقتها التوظيفية قرابة الـ 5 ملايين موظف بين متعاقد ومتقاعد. وهذا يعني انه إذا كان معدل الأسرة العراقية مكوناً من 6 أشخاص، بالتالي هناك 60 إلى 70 في المئة من العراقيين مشمولون برعاية الدولة، وهو خطأ استراتيجي قاتل لإعادة البناء الاقتصادي. حيث لا يمكن أن تنشأ ديموقراطية في ظل رعاية أبوية من قبل الدولة، فلا بدّ من وجود قطاع خاص يحرك الاقتصاد العراقي، ونحن نفتقر إلى القطاع الخاص».
واشار الى وجود «خلل بنيوي في اقتصادنا»، مشيراً الى «البنية القانونية والإدارية التي ارتكز عليها النظام السابق والتي لا زلنا نعيشها. وما لم تكن هناك ثورة قانونية وإدارية تتماشى مع مهمة التغيير السياسي والنظام السياسي الجديد، يبقى من الصعب الاستفادة الحقة من هذا القطاع».
ويشير بحر العلوم إلى أن الشعب العراقي يعيش تحت خط الفقر، بمعنى أنه لا يمتلك قوته اليومي، أي أن معدل إيراده اليومي هو بحدود الدولار أو الثلاثة دولارات ونصف الدولار، في البلد، الذي يعتبر ثاني أكبر بلد في احتياطي النفط في العالم، والذي تقدر احتياطاته الجديدة، بحسب إحصائيات وزارة النفط، بحدود 145 مليار برميل نفطي. وإذا أضفنا إليها احتياطيات إقليم كردستان، والتي تقدر بـ 30 مليار برميل نفطي، فالشعب يمتلك 175 مليار برميل، إضافة إلى الاحتياطيات غير المثبته في الصحراء الغربية والجزيرة وباقي المحافظات. ولو جمعنا هذا كله لوصل احتياطي العراق في المستقبل إلى 300 مليار برميل. ويسأل «أين الخطة الاقتصادية التي وعد بها المواطن العراقي بحسب البرامج السياسية قبل الانتخابات، وهي وعود معسولة لم يتلمس منها المواطن رؤية استراتيجية صائبة لإخراجه من الأزمة».
وعلى الرغم من أن العراق يعتمد اليوم على الثروة النفطية، فإنه في الوقت ذاته يستورد من 10 إلى 12 مليون ليتر من مشتقات النفط من الخارج. ومنذ العام 2005 لم يتمكن من إنشاء مصافٍ جديدة رغم صدور قانون إنشاء المصافي، وبقي العراق كما كان رغم تحسين بعض المصافي، كما أكد وزير النفط الأسبق.
والواقع أن فساد الطبقة السياسية في العراق، هو الذي أدى إلى تبديد الثروة النفطية وضياع مردودها بين أروقة الصراع، بعد ان دخلت في أروقة تقاسم السلطة وحقائبها بين التمثيل الطائفي والحزبي. وهو أمر لم يحيّد خلاله النفط كسابق عهد ما قبل السقوط، حين وقّع العراق في عهد الرئيس الراحل صدام حسين مذكرة «النفط مقابل الدواء» السيئة الصيت مع الأمم المتحدة إبان الحصار.
وهنا يضيف بحر العلوم عن الفساد مؤكداً أنه «لا شك في أن هناك فساداً في العراق، ورأس هذا الفساد السياسة التي أنتجت فساداً إدارياً. وتراكمات الفساد في العراق ليست حديثة، بل منذ أيام النظام السابق، وخاصة في العام 1996، وكوبونات النفط تستخدم في ظل الحظر الاقتصادي. حيث ركز النظام السابق على استخدام النفط من اجل استمالة بعض دول مجلس الأمن الدولي، وأنشأ شبكة لتوزيع هذه الكوبونات عليها. هناك أخطاء من النظام وفساد، ولكن الفساد كبر أكثر بمجيء الأميركيين، ونحن زدنا الفساد. فمن أخطر المشاكل التي تواجه العراق اليوم، مشكلة إرهاب الفساد، وبدأ الفساد ينزل من الطبقات العليا إلى السفلى حتى بات ينخر في عظام الكل».
فمن الطبيعي انه، إذا لم تكن هناك ضوابط جيدة تضعها الوزارة وشركات النفط الوطنية على التكاليف المستقبلية أو الاستثمارات التي تتم في العراق، سيكون الأمر بهذا الشكل من السوء، يشير بحر العلوم. ويضيف «هناك فساد، والمواطن العراقي اليوم لا يجد أي حملة اعمارية للبنى التحتية. وفي الوقت ذاته يجد أن المئات من المليارات تختفي، ولم تتوفر لا للحكومة العراقية ولا للبرلمان العراقي رؤية لتوظيف هذه الإيرادات».
وبحسب بحر العلوم فإن أهم مورد يمكن أن يوظف فيه العراق تلك الإيرادات هو الزراعة، والتي لا تشكل اليوم إلا 3 في المئة من الناتج المحلي، في حين كانت قبل 30 عاماً تمثل 25 في المئة، حالها في ذلك حال الصناعة وكذلك الخدمات. ويؤكد أنه لم تكن لدينا خطة أو مبادرة لتوظيف الثروات أو لتخفيف الفقر، فهناك حرمان واضح في العراق.
ومن غريب الأمر أن الفقر في العراق يضرب مدن النفط، ويضع البصرة - الخزان الاستراتيجي الحقيقي - في مهبّ الريح، ليستخدم النفط فيها وقوداً تتزوّد به مدن أخرى.
بحر العلوم يصف البصرة بأنها «أغنى مدينة في العالم، حيث تحتوي على 60 في المئة من الاحتياطي النفطي، ولا زالت البنى التحتية فيها تتراجع. وأذكر أن تقرير الأمم المتحدة، منذ سنتين، تحدث عن خريطة الحرمان، وللمرة الأولى يترجم الحرمان الى أرقام، وكانت من بين أكثر المحافظات حرماناً هي المحافظات الجنوبية الغنية بالنفط، والتي تنعدم فيها البنى التحتية للصرف الصحي والمياه الصالحة للشرب، حيث زادت في الآونة الأخيرة بسبب شح وملوحة المياه الآتية من الخليج وغير الصالحة للعمل الزراعي».
الظلم الذي يقع على المواطن في جريمة تقسيم ثرواته وتوزيعها شمالاً بعد استخراجها من الجنوب، يدفع به إلى المطالبة بالانفصال لإعلان مصيره أو شرعيته في حقه المسلوب، سيما أن التجربة الكردية بُنيت في أساس نشأتها على النفط البصري.
والعراق «القاصر»، والذي لم يبلغ بعد سن الرشد بحسب المفهوم الأميركي أو الأممي، الذي وضعه تحت الفصل السابع بسبب سياسات متعاقبة، لا يحق له متابعة أموال صادراته النفطية أو إيداعها في مصارفه الوطنية. ووضعت اميركا يدها على معظم ثروات العراقيين، التي من بين أهمها صادرات النفط.
وعن هذا الأمر يقول بحر العلوم «أميركا حالياً تشرف على الأموال العراقية. والسبب يعود إلى سوء الإدارة العراقية في توظيف الإيرادات، التي لم نتمكن حتى من إيداعها في المصارف العراقية والحكومية، أو توظيفها لحل مشكلات أزمة السكن. فهناك أزمة إدارة وأزمة رؤية أدت إلى ذلك، والعراق يحتاج الى عقول تكنوقراطية قادرة على وضع صورة استراتيجية للإمساك بإيرادات موارده الطبيعية واستثمارها. وما ندعو اليه ان تكون هناك لجنة لإدارة هذا الملف تعطي للحكومة ما تحتاجه وتوظف الأموال الباقية في مشاريع استراتيجية بإشراف حكومي وبرلماني. ويجب أن توضع هذه الإيرادات في صندوق ضمانات للأجيال العراقية المقبلة. بينما اليوم يدور الحديث عن اختفاء 7 مليارات دولار، هذا إذا ما تحدثنا فقط عن موازنة العام الماضي».
التوزيع الطائفي على أسس مكوناتية لا على أسس مواطنة في عراق ما بعد السقوط، والذي أسس إلى أن تكون الوزارات السيادية كالنفط والداخلية من حصة الشيعة، والمال والدفاع من حصة السنة، والخارجية كردية، هو الذي اضعف الدولة. وأصبحت الوزارات تابعة للمكونات الطائفية، ومستباحة من قبل الكتل السياسية التي راحت تتدخل في العقود وإبرامها، وهي مررت من دون أن تعرض بطبيعة الحال على البرلمان للمصادقة عليها لتماسها المباشر مع المواطن الغائب الأساسي والمعني الأساس في هذا الملف.
وأزمة الملف النفطي في العراق لا تنحصر بالداخل العراقي، ولا بجدلية توزيع الثروات فيه والموازنات وحصص المحافظات والأقاليم فحسب، بل تتخطى كل ذلك إلى إشكاليات قديمة جديدة، تتعلق بالآبار والحقول المشتركة بين كل من العراق وجيرانه، وما يكتنف هذا الأمر من ضبابية تلف جميع الأطراف في العراق وجيرانه. فالآبار والحقول المتنازع عليها كانت وما زالت سبباً أساسياً في عدم ترسيم الحدود، وأثارت استفزازات متكررة بين الفينة والأخرى، سيما بين العراق والكويت من جهة وبين العراق وإيران من جهة أخرى، لخلافات الماضي والاقتتال الذي عدّه البعض سياسياً، لكن في محصلته كان الصراع على الأراضي النفطية والثروات.
وعلى هذا الملف، علق وزير النفط العراقي الأسبق بالقول «العراق هو البلد الوحيد الذي لم يتمكن حتى الآن، ولن يتمكن، من حلّ مشاكله النفطية مع جيرانه. وهناك 50 حالة في العالم من ضمنها في الخليج، تمكنت من إيجاد حلول وفق الموازين والمعايير الدولية، وهناك مفاوضات حالية بين الكويت والسعودية حول حقل الدرة. والسبب في عجز العراق هو الظروف السياسية المضطربة، فالعراق يمتلك حقولاً مشتركة وتراكيب جيولوجية حاملة للهيدروكاربونات مع إيران والكويت والأردن وسوريا. واعتقد انه على وزارة النفط والحكومة العراقية إعطاء الأولوية لحل مشاكل الحقول المشتركة، فهذه الحقول اذا لم تستثمرها الدولة في الإنتاج من جانبها فسينتج الجانب الآخر من جانبه».
الى ذلك، ليست مع الخارج المشكلات التي تعيشها الدولة العراقية في القطاع النفطي ومسألة الآبار والحقول والاستكشافات فحسب، بل ان الاعظم ما يحدث بينها وبين حكومة الاقليم الكردي، والذي وقع حتى الآن ما يزيد عن 50 عقداً للاستثمار من دون العودة الى الحكومة العراقية، وهذا ما يرجع الى تأجيل قانون النفط والغاز.
هدر المال العام وتبديد أموال النفط بآليات تعاقدية مشبوهة وايداعات مصرفية في البنوك الاميركية، أمر بات يدركه الشارع العراقي، ويبرز عمق الأزمات التي تعيشها «الدولة» العراقية في صراعاتها الثنائية مع المحافظات من جهة ومع المواطن من جهة أخرى، حول مبدأ تقسيم الثروات والحصص في النفط العراقي وإيراداته. وهو ما سيخرج العراقيين، وفق ما تشهده المنطقة، من صراع إلى صراع أخطر يتخطى الطائفية والمذهبية والعرقية، لينتقل إلى صراع داخلي أو خارجي أساسه النفط في رسم خريطة العراق الجديد.
أمين ناصر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد