إسـرائيل قُبالـةَ تاريـخهـا
الجمل- ترجمة غازي أبوعقل: عرفتْ الفئةُ المثقفة الإسرائيلة في سنوات 1980، بدايات تحوّل ملحوظة تشير إلى قدوم جيل جديد من الرجال والنساء لم يعرفوا لا "الشُّوَا" ولا إقامة دولة إسرائيل. يشهد هذا التَّطورُ أيضاً على النضج المتصاعد لنُخَبٍ أمست اليوم قادرة على محاكمة الماضي بلا عُقَد، وعلى أن تحرر نفسَها من الأساطير كما من المُحَرَّمات التي ينشُرها القادةُ الإسرائيليون.
مقاومةُ التقاليد لدى هؤلاء المثقفين، من مؤرخين وعلماء اجتماع وفلاسفة وروائيين وصحافيين وسينمائيين وفنانين، ذَرَّتْ قَرنَها بعد حرب الأيام الستة في 1967، حيث أسهمت مجموعة من المفاعيل في تغذية المنازعات منها: الاحتلالُ والمقاومة الفلسطينية ووصول اليمين القومي والديني إلى السلطة في 1997، والتأثير المتزايد للمستوطنين والكهنة التوسعيين وتفاقم التوترات بين المتدينين والعلمانيين. ويلاحظ ميشيل وارشاوسكي وهو واحد من قادة الجناح المتطرف بين دعاة السلام أن "المتدينين عندما يتحدثون عن تل أبيب يصفونها بأنها سَدوم وعمورة، في حين يَعتبر العلمانيون القدسَ أنها طهران آيات الله".
أيقظَ السلامُ مع مصر في 1979 الأملَ بتسوية شاملة، أحبطه غزو لبنان في 1982. هذا الغزو الذي اعتبره الرأي العام – الإسرائيلي – الحربَ الهجومية الأولى، تبيَّن أنه جرى لأسباب ظهرَ كذبُها. فمنظمة تحرير فلسطين، التي حاول الثنائي مناحم بيغن وآرييل شارون القضاء عليها، لم تقم بأي استفزاز على نقيض ما ادَّعتْه الحكومةُ الإسرائيلية. لا بل إنها كانت تعطي علائم عن إرادتها في السير على درب الحل الوسط. كما أنها لم تكن تهدد وجود الدولة اليهودية على أية حال.
وفي تلك الأيام، استنكر إسرائيليون كُثُر وحشيةَ جيشهم المفرطة، وفداحة الخسائر البشرية التي أصابت المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، التي بلغت ذروتها في المجزرة البشعة في صبرا وشاتيلا على مرأى من وحدات الجيش الإسرائيلي وبمعرفتها.
تتابعت يومئذ أحداثٌ لا سابقة لها، فتظاهر نحو أربعمئة ألف محتج في قلب تل أبيب. وفّرَّ من الخدمة خمسمئة ضابط وجندي، وشُكِّلَتْ حركةُ رافضي الخدمة العسكرية في لبنان أولاً ثم في الأراضي المحتلة. أما "نقاء السلاح" الذي كثيراً ما تباهت به الدولة اليهودية منذ مولدها فإنه فَسَد بصورة جادَّة.
وأسهمَ مؤرخون جدد طوعاً أو بغير ذلك في إفقاد هذا الشعار رصيدَه أكثر فأكثر، بعد أن اطلعلوا على الوثائق الرسمية التي رُفعَتْ عنها السرّية في 1978، بعد انقضاء ثلاثين سنة على الأحداث المّعنية كما ينص القانون الإسرائيلي، واكتشفوا أن سلوك القوات اليهودية، أثناء حرب 1948 وبعدَها، كان بعيداً جداً عن الصورة المثالية التي نشرَتْها الدعاية.
أول من نشرَ كتاباً يعرض "الأساطير السبع" المُستَعَّلمَة لخداع الجمهور طوال عشرات السنين كان سيمحا فلاﭙـان S. FLAPAN الصهيوني المتحمس إلى أن تُوفي، وأحد قادة الحزب اليساري ماﭙـام ، الذي استند إلى وثائق رسمية لدعم ما ذهب إليه. نُشر الكتاب بالإنكليزية في 1987، لكنه للأسف لم يُترجم إلى الفرنسية رغم أهميته وريادته.
هدف كتاب دومينيك ﭭـيدال D. VIDAL المنشور بالتعاون مع سيبا ستيان بُوسُّوا BOUSSOIS هو عَرض أعمال أولئك الذين يُعتَبرون من "المؤرخين الجدد" وتحليل ما استخلصوه من دراساتهم. عنوان الكتاب: "كيف طردَتْ إسرائيل الفلسطنيين؟" وهو يُشكّل طبعة مزيدة ومنقحة من كتاب: "خطيئة إسرائيل الأصلية" الذي كان قد وضعه ﭭـيدال نفسه بالتعاون مع جوزيف ألـﭽـازي ALGAZY ونُشر في 1998. يتعلق الأمر بباحثَيْن (ﭭـيدال، بُوسُّوا، ألـﭽـازي) يقومان للمرة الأولى منذ إقامة دولة إسرائيل، بتأسيس مؤلفاتهم على وثائق لا تُدحَض مُستَقاة من محفوظات مجلس الوزراء والجيش والـﭙـالماخ (الوحدات الخاصة) والمنظمات الصهيونية، ومن يوميات رئيس الوزراء ووزير الدفاع داوود بن غوريون وغيرها، وليس كما جرتْ العادة عند سابقيهم بالإستناد إلى معلومات من وسطاء.
يصفُ هذا الكتابُ الظروفَ التي أدّت إلى الحرب ضد الجيوش العربية، ويندد بدور بن غوريون، الملتَبس بسبب الهوة الفاصلة بين التزامه كمؤرخ باحث عن الحقيقة ومواقفه السياسة القريبة من اليمين المتطرف الإسرائيلي. وفي نهاية المطاف، يُحَـلّـل آخرُ أعمال إيلان ﭙـاﭙّـه PAPPÉ "التطهير العرقي لفلسطين" الذي أثار فضيحة كبرى – بعد عدة فضائح – أجبرت هذا المؤلف - ﭙـاﭙّـه على الاستقالة من جامعة حيفا والهجرة إلى واحدة من الجامعات البريطانية.
لن يكون ﭙـاﭙّـه أول مثقف معترض ولا الأخير بلا شك، الذي يهاجر طوعاً فراراً من الجو الخانق المُهَيَّأ لأمثاله من المصابين "بطاعون" الاعتراض. مع ذلك، فإنه من العسير جداً إنكار دراساته ذات التفاصيل التي لم تعرفها كتابات أسلافه. فهذا المؤرخ المقيم في حيفا (سابقاً) توصل إلى الإطلاع على وثائق جديدة مُستقاة من المحفوظات الإسرائيلية منذ ستين سنة، لا من أربعين سنة التي استعان بها من سبقوه. بالإضافة إلى استناد أعماله على أبحاث المؤرخين الفلسطينيين، الذين كانوا – غالباً – شهود عيان على الأحداث. كما أنه جَمَع شهادات الناجين من التطهير العرقي، الذين أهملهم زملاؤه لأسباب غير مفهومة، أو لأنهم استَبعدوا سلفاً متذرعين بالحذَر أو لجهلهم باللغة العربية، شهادات ذات قيمة كبيرة، بخاصة أن الدول العربية مازالت ترفض حتى اليوم فتحَ محفوظاتها للباحثين.
لا يمكن اعتبار التباين بين ﭙـاﭙّـه وبين موريس جوهرياً بالفعل في آخر المطاف. فكلاهما يؤكدّان، قبل كل شيء، أن حرب العام 1948 ما كانت معركة بين "داوود ضد جالوت" كما أُشيع، لأن القوى اليهودية كانت متفوقة عدداً وتسليحاً على خصومها. ولم يتجاوز عديد المقاتلين الفلسطينيين في أشد مراحل الحرب الأهلية اليهودية الفلسطينية بضعة آلاف عتادهم هزيل يساندهم متطوعون في جيش الانقاذ بقيادة فوزي القاوقجي.
وبقيت الحال على هذا المنوال حتى بعد تدخل الدول العربية في الخامس عشر من أيار 1948، لأن عديد جنودها بقي دون عديد جنود منظمة "هاﭽـانا" التي راحت قوتها تتزايد باضطراد بعد ذلك. يضاف إلى ما سبق اتفاق المؤرخَيْن (ﭙـاﭙّـه وموريس) على أن الجيوش العربية التي غزت فلسطين في اللحظة الأخيرة (وبعضها لم يكن راغباً بذلك) لم تُقدِم على الغزو من أجل "تدمير الدولة اليهودية الفتية"، فهي كانت تعرف عجزها عن مثل هذه المهمة، ولكنها جاءت لمنع إسرائيل وشرقي الأردن – المتواطئَيْن كما يعتقد المؤرخ آﭭـي شلايم – من تقاسم الأرض المخصصة للفلسطينيين في خطة التقسيم التي وضعتْها الأمم المتحدة في التاسع والعشرين من تشرين الثاني 1947.
"لست أشك بمقدرتنا على احتلال فلسطين كلها" كتب بن غوريون إلى موشيه شاريت منذ شباط 1948، قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية العربية بثلاثة أشهر، وقبل وصول الإمدادات بالسلاح الضخمة المُرسلة من الاتحاد السوﭭيتي عن طريق ﭙراغ بعدة أسابيع. غير أن هذا الواقع لم يمنع بن غوريون من المناداة باستمرار أن إسرائيل كان يتهددها "هولوكوست ثانٍ"... ينقل ﭙـاﭙّـه أن "أبا الدولة" الذي استسلم إلى نشوة الانتصارات التي أحرزها كتب في مذكراته الشخصية منذ الأسبوع الأول من المعارك، في الرابع والعشرين من أيار: "سوف نقيم دولة مسيحية في لبنان... وسوف نحطم شرقي الأردن ونقصف عاصمتها وندمر جيشها... وسوف نجعل سوريا تركع... وسوف تهاجم قواتنا الجوية بور سعيد والاسكندرية والقاهرة، من أجل أن نثأر لأسلافنا الذين اضطهدهم المصريون والآشوريون في العصر التوراتي"...
على النحو ذاته، يقضي موّريس وﭙـاﭙّـه قضاء مبرماً على الخرافة التي سهر قادة إسرائيليون على ترويجها، والقائلة إن الفلسطينيين غادروا بلادهم طائعين مختارين، إثر نداءات أطلَقَتْها الإذاعات العربية (كانت هذه البرامج من وضع الدعاية الإسرائيلية التي اخترعتها وصنَعَتْها بما استطاعت من وسائل، كما يتضح من سلسلة التسجيلات الكاملة التي قَدَّمتها هيئة الإذاعة البريطانية BBC). على النقيض من ذلك، يؤكّد المؤرخان ما كان معروفاً منذ نهاية سنوات 1950: من أن السلطات الإسرائيلية نفسها هي التي أجبرت الفلسطينيين على الخروج، بلجوئها إلى الابتزاز والتهديد والإرهاب وإلى وحشية السلاح لطردهم من أراضيهم.
غير أنهما يفترقان عند معنى عمليات الطرد: حيث يعتبر مورّيس أنها ليست إلا "أضراراً جانبية" مواكبة لحالة الحرب، ويفسّر الأمر مؤخراً في لقاء بصحيفة هآرتس (الصادرة في الثامن من كانون الثاني في 2004) قائلاً: "في الحرب كما في الحرب" مضيفاً بلهجة لا تنقصها الصفاقة بأن بن غوريون كان عليه متابعة عمليات الطرد حتى آخر فلسطيني. وحين يصف مورّيس خروجاً جاء نتيجة للحرب، لا من نوايا يهودية أو عربية، يبرهن ﭙـاﭙّـه أن التطهير العرقي كان خطة مرسومة ومنظمة جرى تنفيذها من أجل توسيع أراضي إسرائيل و "تهويدها". والأسباب وجيهة. ذلك أن القادة الصهاينة رغم موافقتهم العلنية على خطة التقسيم التي وضعتها الأمم المتحدة، فإنهم اعتبروها لا تُطاق فعلاً: ومواقفهم كانت من قبيل "التكتكة" كما تشير وثائق عدة محفوظة بالإضافة إلى مذكرات بن غوريون.
من المؤكد أن أكثر من نصف فلسطين قد أُعطي لهم، وخُصص الباقي للسكان العرب الذين يَعدّون ضعف عدد اليهود. مع ذلك، فإن نقطة الضعف في التقسيم كانت ضيق المساحة المخصصة لدولة إسرائيل في عيون أصحابها، نظراً إلى ما حلم به قادتها من ملايين المهاجرين الذين سوف يستقبلونهم. بالإضافة إلى أن أربعمئة وخمسة آلاف عربي فلسطيني كانوا سيقيمون بين خمسمئة وثمانية وخمسين ألف يهودي، فلا يشكل اليهود إلا نسبة ثمانية وخمسين بالمئة من سكان الدولة العبرية المقبلة. مما يجعل الصهيونية تخاطر بسبب وجودها أي "جعل فلسطين يهودية كما أمريكا أمريكية وكما انجلترا إنجليزية"، استناداً إلى الصيغة التي وضعها حاييم وايزمان، أول رئيس مقبل لإسرائيل.
لهذا السبب بقي "ترحيل" – Transfert – السكان العرب، وهي الصيغة الكلامية المخففة لصيغة الطرد يشغل بال القادة الصهاينة الذين لم يتوقفوا عن الجدل بهذا الشأن سراً في أغلب الأحوال. منذ نهاية القرن التاسع عشر اقترح تيودور هرتزل على السلطان العثماني عبد الحميد تهجير الفلسطينيين لتهيئة "مكان نظيف" لاستقبال الاستعمار أو الاستيطان اليهودي. وفي 1930 حاول وايزمن القيام بالمسعى نفسه مع البريطانيين، السلطة المنتدَبة على فلسطين.
في 1938، بعد الاقتراح الذي قَدَّمته اللجنة البريطانية برئاسة لورد ﭙـيل PEEL بإقامة دولة يهودية مُصَغّرة وترحيل العرب منها، أعلن بن غوريون أمام اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية: "أنا من أنصار الترحيل القسري، وهو إجراء ليس فيه ما هو غير أخلاقي". فقدَّمت له حربُ 1948 الفرصة التي حلمَ بها لوضع خطته موضع التنفيذ، فأطلق ضد السكان العرب، قبل ستة أشهر من تَدَخل الجيوش العربية، الهجوم الذي كان هدفه اقتلاعهم من جذورهم. وكان تحت تصرفه، كما يكشف ﭙـاﭙّـه، "جداول جرد" موثقة لكل القرى العربية تتضمن معلومات بشرية واقتصادية، بل معلومات سياسية وعسكرية أيضاً، وهي "جداول" حَضَّرتها الوكالة اليهودية منذ 1939 جرى تجديد المعلومات التي تضمنّتْها طوال السنوات 1940.
يُحّلّل ﭙـاﭙّـه بالتفصيل الوسائط التي لجأتْ إليها القوات اليهودية لتنفيذ مهمتها، مما يبعث القشعريرة في الجسم، ولو أنها تتقارب مع الفظائع التي ارتكبتّها شعوب أخرى أثناء عمليات التطهير العرقي منذ أقدم الأزمنة. والحصيلة التي خرج بها هذا المؤرخ بليغة ومعبّرة: فلقد أحصى في عدة أشهر بضع عشرات من المجازر والقتل المتعمد، ودمرت 531 قرية (من أصل ألف قرية) جرى تحويلها لاستقبال المهاجرين اليهود، وتم إفراغ إحدى عشرة بلدة مختلطة عرقياً من سكانها العرب...
في الواقع وعلى أسِنّة الحراب طُرد كل الفلسطينيين من سكان اللد والرملة، وعددهم نحو سبعين ألفاً، أطفالاً وعجائز ضمناً في مدة عدة ساعات في منتصف تموز 1948، تنفيذاً لأوامر بن غوريون. تشهد على الواقعة مذكرات من سوف يصبح رئيساً للوزراء "إسحق رابين" (التي جرت مراقبتها بعدئذ) وكان يومئذ من الضباط القادة حيث كُلّف بالمهمة مع إيـﭽـال آلون. طُردوا جميعاً باتجاه الحدود الأردنية فمات عدد منهم من الإرهاق في الطريق. وكان الأمر نفسه قد حدث في نيسان في يافا حيث أُجبر 50 ألفاً من سكانها العرب على الفرار وقد أرعبهم القصف المدفعي لقوات إرغـون والخوف من مجازر جديدة. وهذا ما يسميه مورّيس نفسه "عامل الوحشية". ليس لهذه الفظائع ما يُسَوغها، بخاصة أن قرى عربية كثيرة – باعتراف بن غوريون – كانت قد أعلنت عزمها على عدم مقاومة خطة تقسيم فلسطين، لا بل أقدم بعض هذه القرى على عقد اتفاقات عدم اعتداء مع جيرانها اليهود. وكانت هذه حال دير ياسين، حيث أقدمت قوات غير نظامية من "إرغون" و "ليحي" على قتل عدد كبير من سكانها، بالموافقة الضمينة من الجيش "النظامي" للوكالة اليهودية "هاغانا".
أُجْبِر ما مجموعه سبعمئة وخمسين ألفاً أو ثمانمئة ألف فلسطيني على سلوك دروب المنفى بين 1947 و 1949، وصودرت أملاكُهم المنقولة وغير المنقولة. واستناداً إلى تقديرات أحد الموظفين الإسرائيليين الذي ذكره دومينيك ﭭـيدال استولى الصندوق القومي اليهودي على ثلاثمئة ألف هكتار من الأراضي العربية، أعطى أكثرها خصباً ومساحة إلى المزارع التعاونية (كيـﭙـوتز). ما كان بالإمكان تصميم هذه العملية بأفضل من ذلك: ففي غداة تصويت الهيئة العامة للأمم المتحدة في الحادي عشر من أيلول 1948، على القرار الشهير من أجل "حق العودة"، تبنَّتْ الحكومة الإسرائيلية قانوناً مستعجلاً (للطوارئ) يتعلق بأملاك الغائبين، مُكَمّلاً للقانون الذي صدر في الثلاثين من حزيران 1948 حول زراعة الأراضي المتروكة، يُشَرْعن السلبَ والنهبَ، ويمنع المسلوبين من المطالبة بأية تعويضات ويحظر عليهم العودة إلى بيوتهم.
لم يبادر بن غوريون إلى اتخاذ أي إجراء لوقف هذه الأعمال أو إدانتها، وهو الذي تجنَّبَ إصدار أي توجيه خطي بتنفيذها، على الرغم من احتجاجات بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية الذين استنكروا وحشيةَ أعمال التطهير العرقي. واكتفى بن غوريون بإدانة النهب والاغتصاب الذين مارسهما جنود "جيش الدفاع الإسرائيلي" الذي تمتعوا بتغطية كاملة حمَتْهم من العقاب. غير أن المدهش أكثر من غيره كان الصمت المطبق "للمجتمع الدولي" طوال عدة عقود من السنين، في حين ما كان بوسع المراقبين الأجانب بمن فيهم مراقبي الأمم المتحدة، ما كان بوسعهم ألا يعرفوا بالفظائع المرتكبة. من هنا نفهم بصورة أوضح لماذا يقيم الفلسطينيون أياماً لتذكر "النكبة" لا لتذكر "حرب استقلال إسرائيل" التي اختار آخر معارض الكتاب في باريس الإحتفاء بها (بالحرب طبعاً. حَلَّ آڤي شلايم محل مؤرخي حرب العام 1948، وهو منذ زمن طويل أستاذ في "سانت أنطوني كوليدج في اكسفورد"، ونشر مؤخراً كتاباً عنوانه "الستار الحديدي. إسرائيل والعالم العربي". ينسف هذا الكتاب أسطورةً إضافية: اسطورة دولة إسرائيل مشغوفة بالسلام، تصطدم بعدوانية الدول العربية ورغبتها بالحرب بإزالتها من الوجود. اقتبس شلايم عنوانَ كتابه من عقيدة زئيف جابوتنسكي: أب اليمين القومي المتطرف، الذي أكّد منذ 1923 ضرورة العدول عن التفاوض من أجل اتفاق سلام قبل استيطان فلسطين بحماية "ستار حديدي" لأن العرب لا يفهمون إلا لغة القوة. لقد تبنَّى هذه العقيدة عملياً، السياسيون والعسكريون الإسرائيليون، سواء من انتمى منهم إلى اليسار أو إلى اليمين، وخَرَّبُوا مشاريع السلام المتتابعة، مُقَدّرين أن الزمن يعمل لمصلحة إسرائيل، وزاعمين أنها لا تجد "شريكا من أجل السلام" (كما قال حرفياً إيهود باراك). وينتظر حُكام القدس إذعان الخصم لتوسيع أرض الدولة اليهودية، وتجزئة دولة فلسطينية مُفْتَرَضة ونزع سلاحها، محكومة سلفاً بأن تصبح شظايا ﭙـانتوستانية" تابعة تدور في فلك إسرائيل,
عرفَ كتاب شلايم – الطبعة الإنكليزية – رواجاً في المكتبات يوم صدوره في سنة ألفين (حيث بيع منه أكثر من خمسين ألف نسخة) وترجم إلى لغات كثيرة، قبل أن يُنشر بالعبرية بعد خمس سنوات على صدوره: حيث اعتبره مجموع الناشرين الإسرائيليين كتاباً غير ذي أهمية ولا فائدة.
مع ذلك، يعترف شلايم "بشرعية الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل في حدود سنة 1967". ويوضح في الوقت نفسه: "أرفض كلياً المشروع الاستيطاني الصهيوني خارج هذه الحدود". وبشكل عام يمكننا اعتبار المؤرخين وعلماء الإجتماع والروائيين والصحافيين والسينمائيين، المنتمين إلى الموجة الجديدة من المثقفين، مثل شلايم، صهيونيين من نوع جديد، لُقُّبوا "بما بعد الصهيونيين". وهم جميعاً مقتنعون بأنهم يخدمون قضية السلام عندما يعيدون إقامة الحقيقة التاريخية ويعترفون بالأضرار والأخطاء التي أُلحقت بالفلسطينيين.
من أجل إدراك مغزى هذا التحول ومداه، الذي بدأ في لسنوات 1980، ينبغي أن نقرأ التحقيق الذي أنجزه سيباستيان پُوسُوَا في إسرائيل عن "المؤرخين الجدد وعن خصومهم، الموجود في كتاب "كيف طردت إسرائيل الفلسطينيين"، ويذكر أن بوسُّوَا مؤلف "إسرائيل في مجابهة ماضيها" المنشور بالفرنسية في 2008.
يستخلص بعضُ المراقبين أن الوصول إلى دولة إسرائيلية "طبيعية"، تعيش في سلام مع جيرانها، يرتبط إلى حد كبير بوَقْع التأثير الذي سيُحدثُه هؤلاء المثقفون "المعترضون" في المجتمع، وبخاصة على دنيا السياسة الإسرائيلية... في مقدمة كتاب "كيف طردت إسرائيل الفلسطينيين" نقرأ ما كتبه بأسلوبه الخاص، يهودا لانكري سفير إسرائيل السابق في فرانسا وفي الولايات المتحدة: "يُشكّل المؤرخون الجدد، حتى مع تطرف إيلان ﭙـاﭙّـه، عناصر كَشْف لهذه المنطقة التي عُتّم عليها في الضمير الجمعي الإسرائيلي، كما يؤلفون طليعة تُمهّد إلى تَوجّه أكثر متانة نحو اعتراف متبادل من أجل السلام مع الفلسطينيين. والعمل الذي أنجزوه بعيد جداً عن أن يُشكّل مصدر أذى لإسرائيل وهو يشرّف بلادهم، بل هو أكثر من ذلك: إنه واجب، وفريضة أخلاقية، والتزام مدهش بمشروع تحريري قادر على أن يُدّوّن في الحياة اليومية الإسرائيلية خطوطَ القطيعة والثغرات الناجعة الشافية والضرورية من أجل إدماج خطاب الاعتراف بالآخر".
* * * * *
* * *
*
هل اختُرِع "الشعب اليهودي"؟
كيف اختُرع الشعبُ اليهودي. من التوراة إلى الصهيونية: هذا هو العنوان الاستفزازي لكتاب وضَعه شلومو صاند )أوزاند)، الأستاذ في جامعة تل أبيب، ونُشر في إسرائيل كما ستنشره دار فايار في باريس في خريف 2008.
يحمل المؤلف على "الخرافة" القائلة إن اليهود يتحدرون من العبرانيين المُهَجَّرين من مملكة يهودا. وينكَبُّ هذا "المؤرخ الجديد" على تقديم البرهان عن أنهم لا يُشكّلون عرقاً ولا أمة، لكنهم وثنيين قُدامى – بربر أفريقيا الشمالية، عرب من جنوب شبه الجزيرة العربية، أتراك من امبراطورية الخزر بشكل خاص – اعتنقوا اليهودية بين القرن الرابع والثامن بعد الميلاد. واستناداً إلى رأيه فإن الفلسطينيين هم على الأرجح من العبرانيين الذين اعتنقوا الإسلام أو المسيحية.
لا ينكر صاند مع ذلك شرعية وجود دولة إسرائيل ولا سيادتها. لكنه يؤكد أنها تفقد سمعتها والثقة بها بسبب عرقيتها الاستثنائية الناجمة عن "عنصرية" الإيديولوجيين الصهاينة. وبعبارة أخرى، لا ينبغي أن تكون "دولة يهودية" بل دولة لمواطنيها كافة، ديموقراطية وعلمانية،. يصرح صاند، رغم تشاؤمه من الاستقبال الذي سوف يلقاه كتابه: "مَرَّ زمان كان فيه كل شخص يَدَّعي أن اليهود من أصل وثني يُتَّهم فوراً باللاسامية. واليوم، يُعتَبر كل من يجرؤ على القول إن اليهود لم يسبق لهم أبداً أن شكّلوا شعباً أو أمة وهم اليوم كذلك، أي ليسوا شعباً ولا أمة، يعتبر عدواً لإسرائيل. كما قال لصحيفة هآرتس الصادرة في 21 آذار 2008.
ربما يُخطئ صاند في تشاؤمه. لأن كتاباً لا يقل جلاءً عن كتابه، يقول عن التوراة إنها تجميع للأساطير والخرافات، في قسم كبير منها، استقبلته وسائلُ الاعلام بالترحيب ومعها الأوساط العلمانية.
كما قام عالما آثار هما إسرائيل فنكلشتيان ونيلّ آشر بنشر كتاب عنوانه "إماطة اللثام عن التوراة" استناداً إلى تنقيباتهما الأثرية وإلى وثائق قديمة تعود إلى ذلك العصر بالرجوع إلى استنطاق قناعات عميقة وعتيقة جداً. وفي هذا الدليل على أن المجتمع الإسرائيلي يتلقى جيداً الاتهام والإقحام في القضايا أكثر بكثير مما يُظَن.
ملاحظة: لا بد من الإشارة إلى أن الأستاذ حلمي موسى – المترجم عن اللغة العبرية – كان قد قدَّم عرضاً مختصراً لكتاب شلوموزاند "متى وكيف تمَّ اختراع الشعب اليهودي" وذلك في "السفير" البيروتية الصادرة في الثاني من شباط فبراير 2008. سبَقَه تلخيصٌ لكتاب آخر في المنحى نفسه كتبه الإسرائيلي هيليل هيلكين وعنوانه: "البحث عن نًسْلِ منشّيه" [المترجم].
أﭬراهام بورﭺ ويهوديته المختلفة
أﭬراهام بورﭺ، ابن المؤسسة الإسرائيلية الصعب المراس الذي لا يُطاق، لا يتوقف عن جرح المشاعر تارة ولا عن خلب الألباب أحياناً، وعلى أية حال لا يكف عن إدهاش الجميع. كان بالأمس القريب عضواً قيادياً في حزب العمل ومديراً للحركة الصهيونية أو رئيساً لمجلس النّواب [كنيست] وكانت آراؤه دائماً تشكل قطيعة مع غالبية قناعات مواطنيه. ولما يئس من التأثير على الحاكمين، انتهى إلى التخلّي عن الحياة السياسية في العام الرابع بعد الألفين.
سوف تكون تأملاته وأفكاره التي تضَمَّنها كتابه الأخير "التغلُّب على هتلر" مفاجِئة بصراحتها العنيفة. ففي ما يتصل باحتلال الأرض الفلسطينية يُفصح عن مراده قائلاً: "حاولتُ طوال سنوات تلطيف مواقفي لتلافي تمزيق المجتمع الإسرائيلي ( ... ) أطرح اليوم المسألة: أيكون اليهود جميعاً إخوتي حقاً وصدقاً؟ وأجيب: كلا! ( ... ) في ما يتصل بي، ومنذ الشُّوَا، لا وجود ليهودية وراثية ولكن ليهودية قِيَم ليس إلا ( ... ) الشريرون والمحتَلُّون ليسوا إخوتي ولو كانوا مختونين، ويطبقون طقوس السبت والوصايا الدينية".
يضع بورﭺ على توالي صفحات كتابه "يهوديةَ المَعْزل" Ghetto في مواجهة "اليهودية الكلية الشاملة" التي ينتمي إليها، ويناهض عنصريةَ الأولى بالنزعة الإنسانية لدى الثانية. كما يناقض العهد القديم، داعماً الرأي القائل بأن الشعب اليهودي ليس "الشعب المختار"، لأن اعتباره كذلك يؤدي إلى اعتبار الأمم الأخرى "أعراقاً دونية". وكان قد صرح في 2003 للصحيفة الإسرائيلية الواسعة الانتشار يديعوت أحرونوت "إن سرطان العنصرية يلتهمنا". كما كتب أيضاً إن مأساة الشُّوَا الفظيعة، قد برهنتْ أن يهوه لم يكن "حاميَ الشعب المختار"، أكثر من كونه غير مسؤول عن المصائب التي تحيق به.
يؤمن مؤلف "التغَلُّب على هتلر" بإله نقلَ إلى الإنسان المقدرة على التقرير بجعله مسؤولاً عن أفعاله، ويستشهد بورﭺ بغزارة بالتوراة والتلمود لكي يبرهن عن أن بعض النصوص المقدسة كانت غير مفهومة، وأُسيء تفسيرها، وحُرِّفَـْت، وهي في كل الأحوال مغلوطة تاريخياً، ذلك أن بورﭺ هو ابن حاخام يتفق الجميع على احترامه، وكان رئيس الحزب القومي الديني وممثله الدائم في الحكومات كلها منذ إقامة إسرائيل، كما تَعَلَّم – الابنُ – في "الييشيـﭭـا" وهي مدرسة مخصصة لدراسة النصوص الكهنوتية.
يلوم بورﭺ القادةَ الصهاينة على "استملاكهم" للشُّوَا، وعلى استغلالها من أجل غايات لا يعترفون بها غالباً، في حين أنها مأساة تعني اليهود بكل تأكيد، ولكنها تعني أيضاً البشرية كلها. ويأخذ على القادة الصهاينة أنهم جعلوها مُكَوّناً جوهرياً للهوية اليهودية، حاصرين بذلك هذه الهوية في الاضطهادات التي عانت منها في الماضي، فغَيَّبوا قروناً من السلام ومن التعايش والتفاهم مع الشعوب الأخرى.
يُذَكّرُ بورﭺ بعناية قورش الكبير – الفارسي – وعطفه على رعاياه اليهود، وبالعلاقات المثمرة المفيدة التي كانت لهؤلاء اليهود مع مواطنيهم المسلمين في أوروبا العصر الوسيط، وفي مملكة أراﭽـون وقشتالة والأندلس، والتعايش الذي دام قروناً بين الألمان واليهود قبل النازية، كذلك يذكّر بالأوضاع المتميزة لليهود في القارة الأمريكية وفي بلدان كثيرة أخرى. ويطالب بألا يوصَم اليهود الذين امتزجوا بشكل جيد حيث يقيمون في أوطانهم ويمتنعون عن الهجرة إلى إسرائيل، بخاصة وأن "الشتات" هو عامل إثراء للحضارة الكونية الكلية، في تقديره.
يعترض بورﭺ على انتقاء كلمة "شُّوَا" (كارثة) التي تعطي الهولوكوستَ النازي سمةَ الفرادة فلا تضاهيها الإستئصالات العرقية التي عانت منها شعوب أخرى. ويعتقد أن هذه "الحصرية" أو الشعور "بالاستثناء" يسيء إلى الشفقة الضرورية أو إلى التضامن مع الضحايا غير اليهود، كما يغذي – فوق هذا وذاك – عصاباً مفسداً ومؤذياً يساند المذهب الصهيوني الدهمائي القائل بأن اللاسامية ظاهرة عالمية أبدية: "العالم كله متحالف ضد اليهود"...
استفاد المسؤولون الصهاينة من "الشُّوَا" لأسباب متنوعة، من ذلك لممارسة الابتزاز العاطفي نظراً لما له من فوائد مالية وسياسية. والشُّوَا تُذكّرُ الألمان بمسؤوليتهم الجرمية، وتُذكّر الأمريكيين والأوروبيين بمواقفهم السلبية في إنقاذ اليهود من النير النازي. كما تجعل السلطات الإسرائيلية واثقة من الإفلات من العقاب مهما كان حجم انتهاكها للشريعة الدولية أو القواعد الأخلاقية، بما في ذلك حقوق الإنسان وجرائم الحرب التي ارتكبَتْها، ومنها "الاغتيالات المُبَرمَجَة" ضد الفلسطينيين.
ينحو مؤلف "التغلّب على هتلر" باللائمة على الكتب المدرسية الإسرائيلية التي تتجاهل الإبادات والإستئصالات العرقية كلها إلا تلك التي نزلت باليهود. كما يحمل على القوانين التي لا تعاقب إلا الجرائم ضد الشعب اليهودي، أو إنكار ما أصابه من بلاء. كما أنه يقف مناهضاً لمنح الجنسية الإسرائيلية تلقائياً إلى المهاجرين اليهود تبعاً لمعايير دينية. ولأنه من أنصار العلمانية الكاملة فإنه يستنكر ويُندّدُ "بالأصوليين الدينيين" الذين يدوسون باستمرار السيادةَ الوطنية. بالإضافة إلى انتباهه إلى اعتياد مواطنيه على اختيار قياداتهم من بين "جنرالات" الجيش والأجهزة السرّية، ويُحذر من أن "وجود دولة من الكهنة والضباط لم يعد كابوساً مستحيلاً"...
يوصي المؤلف – في وجود هذا الاحتمال – اليهودَ والإسرائيليين بالتحرر من كابوس "الشُّوّا" الذي: "لا ينبغي نسيانه أبداً، ولكن مع عدم التمرغ في التراب، لأنه آن الأوان للانتهاء من دولة أوشـﭭـيتز وحالتها، والقطيعة مع ثقافة الصدمة النفسية والإرهاب والرعب".
لا يعتبر بورﭺ نفسه لاصهيونياً، إلا عندما تتم "خيانة" المباديء التي وضعها تيودور هرتزل والقِيَم التي تَضمَّنها إعلانُ الاستقلال. كذلك – لا يشعر بصهيونيته – عندما تُحَوَّل إسرائيل إلى "دولة استعمارية تقودها عصابة من عديمي الأخلاق والمرتشين الخارجين على القانون". وفي الحديث نفسه الذي نشرَتْه يدعوت أحرونوت يُفصح عن شكواه من أنْ نهاية الصهيونية أمست على بابنا، وأنه من المحتمل بقاء دولة يهودية، لكنها سوف تكون دولة من نوع آخر، كريهة ومخيفة لأنها غريبة عن قِيَمِنا".
أثار مؤلّف "التغلّب على هتلر" بطبيعة الحال، صرخةَ استنكار في إسرائيل، صاحَبَها دعمُ رجال ونساء له يطمحون إلى إصلاح عميق لدولتهم. وبوسع بورﭺ الذي مازال في خمسينات عمره أن يأمل بتحول حلمه إلى واقع. على أية حال، فإن بورﭺ، على غرار موجة "مُحَطّمي الأيقونات" التي تعبر المثقفين الإسرائيليين – الأنتيلّيجنسيا - وعلى رأسهم "المؤرخين الجدد"، يشهد، بأسلوبه الخاص، على مجتمع إسرائيلي يخوض غمار التَّحَوُل(*).
ما زالت الشهرية الفرنسية Le Monde Diplomatique – دنيا الدبلوماسية – في طليعة وسائل الإعلام الغربية المقروءة، الحريصة على التوازن والموضوعية قدر المستطاع، بالإضافة إلى سِمَةٍ تقدمية آخذة بالأفول عن آفاق الإعلام المُعَوْلَم.وهي مازالت تُعتَبر "أداة عمل" ذات فائدة جمة للمهتمين بشؤون هذه الدنيا.
يصدر عن (لوموند دبلوماتيك) كل شهرين ملحق بعنوان "وجهة نظر" يتضمن مقالات سبق للمجلة نشرها حول موضوع محدد، مما يضع بمتناول الباحث مجموعة من الدراسات القديمة والجديدة ذات فائدة كبرى، مُصَنَّفة وتتناول الموضوع الواحد من جوانبه المتنوعة.
في مناسبة انقضاء ستة عقود على إحداث دولة جديدة في الشرق الأدنى، خُصّص العدد الأخير من وجهات نظر [يحمل الرقم 98 – نيسان – أيار 2008] لهذه المناسبة، ونُشِر تحت هذا العنوان: (1948-2008 – تواريخ إسرائيل).
أما المجلة الأم (دنيا الدبوماسية) فإنها أفردت مساحة ملائمة للصحافي المعروف والسفير السابق إريك رولو، استعرض عليها عدداً من الكتب ينتمي مؤلفوها بشكل عام إلى موجة "مًحَطّمي الأيقونات" الذين يتمتعون بما يمنعهم عن تجاهل ما يدور فعلاً خلف تزاحم الأحداث.
عمدتُ في هذه الصفحات إلى ترجمة ما كتبه السيد رولو حرفياً، لأسباب سأعود إلى شرحها في ما بعد. لأنني أود قبل ذلك تقديم عرض موجز لمحتويات ملف "وجهات نظر" إرضاء لفضول المهتمين بالأمر في حال وجودهم.
بعد افتتاحية بقلم دومينيك ﭭـيدال عنوانها: سياسة القوة، قوة السياسة. صُنّفَتْ المقالات في ثلاثة أقسام رئيسة. الأول تحت عنوان: في أصول الدولة تضمَّن ستة مقالات تناولت المرحلة من تيودور هرتزل إلى ولادة إسرائيل، ثم طرد الفلسطينيين، ونظرة إلى اليهودية من نصف قرن، وباسم "الشُّوَا" ومنعطف محاكمة أيخمان في 1961 – وعنواناً أخيراً آلمني إقحامه، هو اختيار مقال واحد بقلم ادوارد سعيد عنوانه: رد موجه إلى المثقفين العرب المبهورين بروجيه ﭽـارودي، وهو أسوأ ما كتبه سعيد في رأيي...
عنوان القسم الثاني: ستون سنة من المنازعات، اندرجت تحته مقالات نُشرت بين 1956 مع العدوان الثلاثي ضد مصر إلى حزيران 2004، كتبها كثيرون منهم إريك رولو وأمنون كاﭙـليوك وسمير قصير وشيمون ﭙـيرس وألَن ﭽـريش وغيرهم.
أما القسم الثالث، فكان عنوانه: "مجتمع يتحرك وينقلب".
وتضمن مقالات تعالج أوضاع معكسر السلام، أو الخصام الأزلي بين الصهيونية واليهودية، وأمة من المهاجرين، والثورة العلمانية من أجل الصهيونية، ورهان اليهود السيفارديم، وعودة مثالية الكيبوتز، وأحلام ترحيل الفلسطينيين، وصدمات العرب "الإسرائيليين"، ومقالة تعتبر الأردن "الشرق الأقصى" الجديد – إشارة إلى الغرب الأقصى Far West في عيون غزاة الولايات المتحدة البيض. واختتم الفصل بمقالة عن دور التقانة المتقدمة في قلب عناصر الموقف الراهن.
المهم في الملف، بالإضافة إلى المقالات المشار إليها، تضمنه لمجموعة من الخرائط توضح جوانب مهمة من القضية امتدت من 1920 إلى 2007 – الأخيرة منها تتضمن مسار "الجدار" وتوزع نقاط التفتيش في الضفة الغربية. أما الأولى فنجد عليها توزع القرى والمدن العربية واليهودية في 1920 وحدود فلسطين بعد إقامة إمارة شرق الأردن منذ 1923 – والخرائط كلها بالألوان مما يمنحها وضوحاً ودقة.
اختار الملف صور التقطها المصور الشهير روبرت كاﭙـا الذي اشتهر بتحقيقه المصور عن الحرب الأهلية الإسبانية في أواخر سنوات 1930، وكان كاﭙـا قد صَوَّر أول خطوات الدولة اليهودية وصراعها ضد العرب في 1948 (قبل أن يلقى مصرعه في ﭭييتنام في 1954 وهو يتابع الجيش الفرنسي يومئذ).
نوه الملف إلى أن الصور ذات "لغة" خاصة تختلف عن "لغة" المقالات التي نُشرت معها. تضمن الملف خلاصات من "سيرة حياة" سبعة من أكثر قادة إسرائيل أهمية بدءاً بالأب المؤسس داوود بن غوريون، ثم السيدة الحديدية الأولى، ﭽولدا مئير، ومناحم بيـﭽن، واسحق رابين "الصقر الذي أصبح حمامة" وشيمون ﭙـيرس الذي طال انتظاره للوصول إلى رئاسة الدولة، وآرييل شارون "مهما كان الثمن" وأخيراً بنيامين نتانياهو "المصنوع في الولايات المتحدة".
لم يفت محررو الملف تدوين التسلسل الزمني للأحداث وتأريخها بدقة وذلك في جداول منفصلة. بالإضافة إلى "زوايا" موجزة أولها بعنوان "النكبة" والثانية بعنوان الإبادة "الشُّوَا". والثالثة من أجل فهم الصراع، والرابعة عن أزمة المجتمع الإسرائيلي، والخامسة حول الجدل الإيديولوجي في إسرائيل، يليها "إسرائيل والعرب" لاختتام هذه الزوايا، التي تكمن أهميتها في أن كلاً منها يُشير إلى أكثر الكتب أهمية التي صدرت لمعالجة العناوين المختارة، مما يقدم للقاريء أو الباحث المهتم فهرساً نادراً سهل المتناول لاختيار ما يهمه من كتب.
لم ينس أصحاب الملف من التنويه بالمواقع المهمة على "الشبكة العنكبوتية" ذات الصلة بهذه القضية المركزية التي بدأت تشغل البشرية منذ أواخر القرن التاسع عشر، وطوال القرن العشرين، ومازالت تشغلها في القرن الجديد.
لا يتمالك القاريء نفسه من القول، بعد انتهاء قراءة الملف، هكذا هكذا وإلا فلا... لا ...
استعرضَ السيد رولو كما أسلفنا عدداً من الكتب، خمسة منها بأقلام إسرائيليين، تُرجمَتْ إلى الفرنسية ونُشرت في بداية 2008 باستثناء واحد. وهي على التتابع:
- التغلّب على هتلر – أﭭراهام بورﭺ – الناشر فايار – باريس 2008.
- التطهير العرقي في فلسطين – إيلان ﭙـاﭙـه – الناشر فايار – باريس 2008.
- الستار الحديد – آﭭـى شلايم – الناشر بوشه شاستيل – باريس 2008.
- كيف اختُرع الشعب اليهودي – شلومو صاند – سينشره فايار في خريف 2008.
- إماطة اللثام عن التوراة – إسرائيل فنكِلْشتاين ونيلْ آشر سيلبرمان – الناشر چـاليمار – باريس 2004.
- كيف طردت إسرائيل الفلسطينيين 1947-1949 – دومينيك ﭭيدال – الناشر لاتُلْييه – إيـﭭري 2007.
اختار رولو، في الذكرى الستين، ستة كتب تشترك في أنها تلقي على إسرائيل نظرةً نُقَّادة، لم تغادر ركنا من أركان تاريخها المعاصر، أو القديم يمتاز بالأهمية إلا ولا مسَتْه ملامسةً نقادة تحلَّتْ بسَوِيَّة من الجرأة تفاوتت باختلاف المواضيع. هذا ما حفزني إلى ترجمة البحث بكامله، ففي صفحات قليلة نقرأ أفكاراً متنوعة ومهمة وصريحة، تتجاوز "المُحَرَّمات" كما في كتاب "إماطة اللثام عن التوراة" أو كتاب "كيف اختُرع الشعب اليهودي، والمحَرَّمات هنا مرادفة للمُقدَّسات، وتهز بعض المسَلَّمات التاريخية المعاصرة، مثل أسرار التطهير العرقي ضد الفلسطينيين، أو ثقافة "الشُّوَا" (الهولوكوست) الذي يصر كتّابٌ عرب على وصفها "بالمحرقة".
نعرف جميعاً مسارعة الحركة الصهيونية العالمية إلى تزويد قاعدتها إسرائيل بأسلحة التدمير الشامل في السنوات الأولى لوجودها. هذه الأسلحة التي أطلقتْ عليها إسرائيل "خطة يوم القيامة" عندما لن تجد بداً من استعمالها، مما يعني – إذا لجأت إليها – أن نهايتها أصبحت حتمية. هذه الأسلحة "المخيفة" القابعة في خلفية الصراع الوجودي بينها وبين من يصمم على التصدّي للمشروع الصهيوني، أجِدْْها، من وجهة نظري – أقل تأثيراً وفاعلية في إطالة عمر المشروع الصهيوني من هذه الكتب الناقدة، الكاشفة للخطايا والأخطاء التي تعبر عن حيوية مدهشة رغم عمق أزمات ذلك الكيان. يجب أن نخشى هذا الهامش من الحرية أكثر من خشيتنا خطر الطائرات والدبابات والصواريخ. وعلى "المثقفين" العرب تأمل هذا الجانب من بنيان "الكيان الصهيوني الدخيل" ومضاهاته بما هم فيه من "بُنى" غير مؤهلة للصمود أمام رياح الخماسين، فكيف العمل إذا تحركت واحدة من موجات الأعماق نحو المرافيء "الآمنة المطمئنة إلى ثوابتها"؟ وفي طليعتها الوأد... وأدَ حرية الفكر أعني.
ملاحظة ذات صلة بما قبلها:
اختار إريك رولو "لتزيين" موضوع "إسرائيل قُبالة تاريخها" مصوّراً يابانياً اسمه رويشي هيروكاوا، الذي صَمَّم كتاباً عنوانه "قُرى وعائلات"، اتَّخذ شكل سلسلة مزدَوجة الصفحات، على إحداها صورة لبعض أفراد عائلة فلسطينية، التقطها في جولاته على مخيمات اللاجئين، وعلى الصفحة الثانية صورة لما بقي من قرية تلك العائلة، التقطها في أنحاء الأرض المحتلة.
لم يحظ هيروكاوا – الذي نشر كتابه نيهون توشر سنتر العام 2002 – في حدود ما أعرف، بأي تنويه من مثقفي العروبة اليابانيين، ولم نسمع باسمه آناء الليل وأطراف النهار، كما نسمع بشعر الهايكو... هل السبب كراهية التصوير ومحبة الشعر عند "المتَيَبْننين" العرب (نسبة إلى اليابان)؟
* * * * *
إريـك رولـو Eric ROULEAU
إضافة تعليق جديد