اختلاس ملايين الليرات في الفرع الإنتاجي لتسليف الحسكة
وضعت إحدى الجهات المختصة في الحسكة يدها على حالة الفساد الموجودة في مصرف التسليف الشعبي الفرع الإنتاجي في الحسكة وإلقاء القبض على مرتكبها، حيث أفادت اعترافاته الأولية عن اختلاسه الملايين، ومازال الحبل على الجرار لأن التحقيقات مازالت في بدايتها. فأدركنا أن الفرع الإنتاجي لمصرف التسليف الشعبي لم يكن بعيداً عن عيون الجهات المسؤولة. كما ازدادت ثقتنا بأنه لابد لكل فاسد من نهاية، والعبرة بمن يعتبر، ولاسيما أن قصص سقوط من سبقوه هي من النوع الذي يبقى محفوراً في الذاكرة.
فما هي قصة التجاوزات الحاصلة في هذه المؤسسة، وما هو حجمها وكيف كانت تحصل، وكيف استمرت كل هذه الفترة، ومن هم عرابوها؟.
*فكـّر، خطـّط، نفـّذ
(ع ع ي) تولد 1958 دير الزور، موظف في الفرع الإنتاجي لمصرف التسليف الشعبي في الحسكة، بوظيفة عامل تحصيل قروض تجارية ومهنية وحرفية. مهمته استقبال كل مقترض أو مدين أثناء مراجعته المصرف لتسديد الأقساط المستحقة الأداء عليه، لأن جميع السندات المتعلقة بذلك موجودة لدى (ع ع ي). والذي يتوجب عليه تسليم المراجعين سنداتهم وتوجيههم نحو أمين الصندوق لدفع الأقساط المترتبة عليهم، ومن ثم يقوم أمين الصندوق بمهر السند بالخاتم الرسمي الموجود لديه، والذي يبيـّن أن قيمة هذا السند مدفوعة ومسددة، وبعد ذلك يسلم السند لصاحبه ليبقى لديه كوثيقة تثبت قيامه بالتسديد.
وبطريقة ما تمكن (ع ع ي) من إقناع عدد كبير من المقترضين بإعطائه المبالغ المتوجب عليهم تسديدها لقاء الأقساط المترتبة عليهم، ليقوم (هو) بتسديدها لأمين الصندوق حسب الأصول ومن ثم إعادة السندات ممهورة بخاتم أمين الصندوق إلى أصحابها. هذا ما كان يفترض به أن يحدث، فهل هذا ما كان يجري على أرض الواقع؟ .
الجواب ببساطة لا. وذلك لأن (ع ع ي) ما إن كان يرى النقود تتجمع لديه من المقترضين، حتى كانت نفسه الأمارة بالسوء تسوّل له عدم تسديدها لأمين الصندوق، والاحتفاظ بالمال لنفسه. لكن كيف له أن يفعل ذلك دون أن يـُكـْشـَِف أمره؟ فـَكـَّر، خـَطـّط، ومن ثم نـَفـّذ. إذ لابد من وجود شريك له حتى تـُحبـَك القصة، وسرعان ما وجد (ع ع ي) ضالته، إذ ليس ثمة أفضل من أمين الصندوق ليكون الشريك المنشود، وذلك لأن خاتمه الذي سيـُمـْهـَر على السندات سيكون خير دليل على أن الأقساط المستحقة قد سـُددت، وهي في الواقع لم تـُسدد، فيظن المقترضون وغيرهم أن الأقساط مسددة، وبالتالي لن يشك أحد بأمره.
وكم كانت دهشة (ع ع ي) كبيرة للسرعة التي استطاع فيها إقناع أمين الصندوق المدعو ( ع ج ) بهذه الخطة، وأنـّا له أن يتمكن من تحقيق مأربه لو لم يكن لدى أمين الصندوق استعداد مسبق لذلك، فنفسه هو الآخر أمارة بالسوء، وقد ( وافق شن طبقاً ) كما يقول المثل العربي. فتم الاتفاق على أن تسير الأمور بين الاثنين على الشكل التالي: يأخذ (ع ع ي) المبالغ المستحقة لقاء تسديد أقساط القروض من المقترضين، يضع المبالغ في جيبه، يسلم السندات لأمين الصندوق ( ع ج ) الذي يكتفي بمهرها بخاتمه على أن قيمتها سـُددت، ومن ثم يعيدها إلى (ع ع ي)، ليأخذ بعد ذلك كل منهما حصته حسب الاتفاق المبرم بينهما.
*سنوات من الاختلاس دون حسيب أو رقيب
ماذا كان يفعل (ع ع ي) بالأموال التي كان يختلسها؟. كان يصرفها على ملذاته الشخصية، والباقي اشترى به بيوتاً وسيارة و سجلها كلها باسم زوجه المدعوة ( م ص ب ) لكي لا ينكشف أمره، دون أن يدري أن شراءه للبيوت والسيارة هو الذي لفت الأنظار إليه، ودفع إحدى الجهات المختصة لوضعه تحت المراقبة الشديدة، ولاسيما أن لديها معلومات تشير إلى سلوكه المريب. وبقيت المراقبة والبحث والتقصي وجمع المعلومات والوثائق والمستندات مستمرة بسرية تامة، إلى أن توافر لدى تلك الجهة المختصة الدليل القاطع على تورط (ع ع ي) بقضايا فساد ترقى إلى مستوى اختلاس الأموال العامة، وذلك لأن الأقساط المستحقة الأداء تعتبر من أموال المصرف، وهي من الدرجة الممتازة.
وبناء على ذلك تم استدعاء (ع ع ي) إلى مقر تلك الجهة، وشـُرع بالتحقيق معه بشكل رسمي وحسب الأصول. طبعاً أنكر في البداية، لكن ما إن تمت مواجهته بالأدلة الموجودة بحوزة تلك الجهة، حتى انهار واعترف. فماذا قال؟.
اعترف أنه يقوم بالاختلاس منذ عام 2006 بالطريقة التي شرحناها في السطور السابقة، بالتعاون والتنسيق مع أمين الصندوق( ع ج ). كما اعترف أن مجموع المبالغ التي قام باختلاسها حسب ما يذكر تبلغ بحدود 5ملايين و700 ألف ل.س. تعود إلى كثير من المقترضين لا يتذكر منهم سوى 51 شخصاً.
ولأن (ع ع ي) قال أن هذا ما يتذكره، ولأنه ليس أمام الجهة المختصة التي وضعت يدها على هذه القضية سوى جرد وتدقيق السندات الموجودة بحوزة (ع ع ي)، من أجل استكمال الإجراءات القانونية، تم تشكيل لجنة لهذه الغاية، قامت باستخراج السندات من مكتب (ع ع ي) بحضوره وشرعت بالجرد سنداً سنداً، ومطابقتها مع يوميات الصندوق والمحاسبة، وحتى الآن تبين من خلال الجرد والمطابقة أن مجموع المبالغ المختلسة 4 ملايين و439ألف و459ل.س، ومازال الجرد مستمراً. ومن المتوقع أن يصل مجموع المبالغ المختلسة إلى أضعاف مضاعفة لهذا الرقم وللرقم الذي ذكره (ع ع ي) وهو 5ملايين و700 ألف ل.س، وذلك نظراً لكبر حجم المديونية المسؤول عنها هذا الشخص وهي 520مليون ل.س قروض تجارية ومهنية وحرفية مختلفة، والتي تشكل النسبة الأكبر من إجمالي كتلة القروض التي قام الفرع الإنتاجي لمصرف التسليف الشعبي بمنحها والبالغة 718مليون ل.س.
*أمور لابد من التوقف عندها
عمليات الجرد والتدقيق والتحقيق بهذه القضية مازالت مستمرة. وأثناء سير هذه الإجراءات تم الكشف عن أمور، وحدثت أمور أخرى لابد من التوقف عندها. أول هذه الأمور يتعلق بالمدة الزمنية التي استمر فيها (ع ع ي) وشريكه أمين الصندوق ( ع ج ) المتواري عن الأنظار حالياً بالاختلاس، هذه المدة التي استمرت من عام 2006 وحتى الشهر الثاني من عام 2011 الحالي. أي حوالي 4 سنوات ونيف. واستمرار عملية الاختلاس طيلة هذه الفترة ليس لها إلا تفسيرين اثنين، فإما أن عمليات الجرد والتدقيق التي يـُقال أنها كانت تتم داخل المصرف كانت وهمية وعلى الورق فقط، وإما أن لجان الجرد متورطة بالموضوع بشكل أو بآخر، وإلا لتم كشفه في نهاية عام 2006 عند أول جرد يتم بعد مباشرته بالاختلاس، إذا كان ذلك الجرد قد تم فعلياً ووفق الأصول، الأمر الذي يستوجب محاسبة لجان الجرد أيضاً.
كما تـَبيـّن أن هناك أقساط تـُسـَدد دون أن يتم تنزيلها على الحاسوب، وهذه مشكلة أخرى، تؤدي إلى وقوع المصرف والمقترضين بمشكلات عديدة. مثلاً مقترض تبيـّن من خلال الحاسوب أنه مازال للمصرف بذمته أربعة أقساط من القرض الذي حصل عليه، وبالاستفسار من ذلك الشخص أفاد أنه قام بتسديد جميع الأقساط المترتبة عليه منذ زمن وحصل على براءة ذمة من المصرف تثبت ذلك، وبموجب هذه البراءة قام بكفالة أشخاص آخرين، علاوة عن أن السندات التي قام بالدفع بموجبها مازالت بحوزته.
هذه الأمور وغيرها تؤكد وجود خلل وفوضى في عمل وأداء الفرع الإنتاجي لمصرف التسليف الشعبي في الحسكة، وربما لدى غيره من المصارف. الأمر الذي يعد فرصة ذهبية ويوفر البيئة المناسبة لأصحاب النفوس الضعيفة، لكي يمارسوا هوايتهم المفضلة في اختلاس المال العام. الأمر الذي يذكرنا بعمليات الاختلاس التي كانت تتم على قدم وساق في فروع المصرف الزراعي في المحافظة، والتي وصلت إلى أرقام فلكية، فمن مصرف واحد صغير الحجم تم اختلاس مليار و200 مليون ل.س فقط لا غير. وما نريد قوله أنه لو لم يجد الفاسدون هشاشة في أنظمة عمليات المصارف لما تمكنوا من اختراق هذه الأنظمة وعاثوا بالمصارف فساداً.
وهذا يعني أن مافيا المصارف في محافظة الحسكة موجودة منذ سنوات، وما زالت تمارس نشاطها. الأمر الذي يستدعي وقفة متأنية تبحث في صميم هذه الحالة و تغوص في أعماقها وتدرس أسبابها وكيفية معالجتها معالجة جذرية، لان السجن والعقوبة لا يعالجان إلا نتائجها، في حين تبقى الأسباب التي أدت إليها والظروف التي خلقتها والعوامل التي ساهمت في نموها، بحاجة إلى معالجة بطرق أخرى وبأساليب أكثر نجاعة. وما دامت هذه الأسباب والظروف والعوامل موجودة فان مسلسل الاختلاسات والتجاوزات سيستمر لا محالة.
*برسم وزارة المالية
هذه بعض الأمور التي تحدث في الفرع الإنتاجي لمصرف التسليف الشعبي في الحسكة، وهي أمور من الخطورة بمكان بحيث لا يمكن السكوت عنها. لكن الأنكى منها ما حدث أثناء سير التحقيق بهذه القضية. حيث أصدرت وزارة المالية قرار الحجز الاحتياطي رقم 305/و تاريخ 8/2/2011، القاضي ( بإلقاء الحجز الاحتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة العائدة للمدعو (ع ع ي) وزوجه المدعوة ( م ص ب ) ضماناً لتسديد مبلغ قدره 3 ملايين ل.س ). وإذا اعتبرنا أن هذا الإجراء قانوني واحترازي، فإننا نسأل على أي أساس حددت وزارة المالية المبلغ المختلس بـ 3 ملايين ل.س فقط، والتحقيقات مازالت في بدايتها، وكذلك الحال بالنسبة لعمليات الجرد والتدقيق التي تقوم بها اللجنة التي تم تشكيلها لهذه الغاية؟.
ولاسيما أن المدعو (ع ع ي) نفسه اعترف حتى الآن باختلاسه ضعف هذا المبلغ المحدد بقرار الحجز الاحتياطي. ترى ألم يكن من الأفضل قانونياً لو تم إضافة عبارة ( وأية مبالغ أخرى تكشفها التحقيقات وعمليات الجرد والتدقيق الجارية ) إلى ذلك القرار؟.
وذلك لأن الجهة التي تتولى التحقيق بهذه القضية أخبرتنا أنها على يقين أن عمليات الجرد والتدقيق الجارية حالياً ستكشف أن المبلغ المختلس كبير جداً، قياساً إلى حجم الأموال المسؤول عنها هذا الشخص، والتي تشكل نسبة 72.5% من إجمالي كتلة القروض العائدة للفرع الإنتاجي لمصرف التسليف الشعبي في الحسكة. وبالتالي فإن المبلغ المذكور في قرار الحجز ربما سيبدو ( فراطة ) بالنسبة للمبلغ المختلس.
على كل حال نتمنى أن لا تنحصر عمليات الجرد والتدقيق الجارية حالياً بالجانب المسؤول عنه هذا الموظف فقط، بل أن تنسحب على جميع جوانب العمل في المصرف. ومن ثم توسيع هذه العمليات لتشمل المصارف الأخرى، ونحن على ثقة أن الجرد والتدقيق سيكشفان الكثير.
خليل اقطيني
المصدر: صحيفة تشرين
إضافة تعليق جديد