استسلام إسرائيلي في الجنوب السوري: معركة مشتعلة... في انتظار لقاء هلسنكي
لا تقتصر المعركة القائمة حالياً في الجنوب السوري على الجانب العسكري رغم أهميته. تتداخل فيها جملة عوامل أخرى لا تقل أهمية، وفي مقدمتها صراع إرادات تتجاوز الساحة الجنوبية باتجاه العامل الإقليمي الذي يرفض معانداً إلى الآن التسليم بالتغيير وانسحاب انتصار الدولة السورية على جنوبها، ليصل إلى العامل الدولي الضاغط على كل الأطراف، في انتظار تطوراته وإمكان التوصل إلى اتفاق، مع أو من دون، تنفيذه لاحقاً.
الثابت إلى الآن فشل الاتفاق أو شبه الاتفاق بين روسيا وإسرائيل، حول الجنوب السوري. الثقة العالية والزائدة، لدى الطرفين، في القدرات الفعلية والقدرة على فرض الإرادات، أدخلت الحليف والعدو في مسار مفرط بالشروط والتوقعات، دفع الدولة السورية إلى وضع حدّ له. الفشل لم يدفع إلى تغيير التموضعات، بل ثبت التموضع على حاله بين الحلفاء، مع إدراك جديد ومحدث لحدوده وقدراته في فرض الإرادات من دون حدية في التعامل والتأثر مع التباينات بين الحلفاء باعتباره جزءاً لا يتجزأ من التحالف نفسه، الواجب مراعاته وعدم القفز من فوقه.
على ذلك، عادت الأمور إلى المربع الأول. إرادة سوريا والحلفاء تهدف إلى سحب الانتصارات المحققة في الساحة السورية باتجاه الحدود الجنوبية عبر المسار العسكري أو «استسلام» المسلحين، كما حصل في أكثر من منطقة في سوريا، أو عبر خيار خليط بين الخيارين، لا يمكن من الآن استبعاد أي منهما بالكامل، رغم الممانعة المعلنة إسرائيلياً وأردنياً، ومن ورائهما الممانعة الأميركية. واقع يفرض على الطرف الآخر، أي جانب الدولة السورية وحلفائها، مراعاة التدرج في التصعيد العسكري، وصولاً إلى كشف الموقف الحقيقي للأطراف المقابلة ومدى إرادتها في الذهاب بعيداً في خياراتها التي تحذّر منها.
الواضح أن الاتفاق مع الاقليم، أي مع الجانب الإسرائيلي تحديداً، الذي يصطف إلى جانبه الأردن، لم يتوصل إلى نتيجة. حزمة المطالب والشروط الإسرائيلية كانت كبيرة جداً ومفرطة بما لا يمكن القبول به سوريا، وإن تلقى عملياً تفهّماً روسياً. كذلك العمل على اعتماد التقليص في هذه المطالب إلى حد أدنى، لا يمكّن الدولة السورية كذلك، من القبول به. الحد الأقصى من «التنازل» الإسرائيلي لا يلتقي مع الحد الاقصى من «التنازل» السوري، وهي تسوية يتعذر سلوكها، ما يعني أن فشل الاتفاق الاقليمي لا يمكن جبره بتسوية يرفض شروطها أطرافها مهما كانت تعديلاتها.
كل ذلك، دفع الجانب السوري وحلفاءه إلى الضغط عسكرياً، وإن عبر دفعات. وتشير المعطيات والمؤشرات إلى توجه نحو كسر إرادات وتغيير تموضعات ميدانية وسياسية، لا تكفي في مواجهتها والحؤول دونها التحذيرات الأميركية والإسرائيلية من فوق الطاولة وتحتها، وكذلك إمكان الفعل العسكري المباشر. الوضع شبيه، مع تعقيداته، بعشية توجه الجيش السوري وحلفائه إلى البادية وشرق سوريا، رغم الحضور العسكري للولايات المتحدة وممانعتها. في حينه، عمدت أميركا إلى التحذير والتهديد وأيضاً إلى الأفعال، مباشرة أو عبر عملائها، لمنع الدولة السورية من التوجه شرقاً. في حرب الإرادات تلك، كانت الغلبة لسوريا وحلفائها، ما اضطر واشنطن إلى تغيير تخطيط السيطرة المباشرة عبر وجودها العسكري وأدواتها من المسلحين، مئات الكيلومترات انكفاءً إلى الشرق حتى الحدود العراقية. في حينه أيضاً، كان الموقف الروسي متردّداً ومستمهلاً، إلى أن واكب التقدم السوري وجاراه في نهاية المطاف.هل يعيد التاريخ نفسه؟ قد تكون الاجابة في موقف الدولة السورية تحديداً وثباتها، وجرعة إرادة وثبات في الموقف الروسي الذي يبدو أنه اتخذ قراره بالفعل بتحرير الجنوب عبر القتال العسكري أو اتفاق شبيه باتفاقات عقدت في الاشهر الاخيرة على امتداد الجغرافيا السورية، وأدت إلى ترحيل الارهاب شمالاً، مع توجه إلى مراعاة مصالح الآخرين ومطالبهم، على أن لا تكون مفرطة كما كان عليه الاتفاق الأول مع إسرائيل. الواضح أنه في حال لم يجر التوصل الى اتفاق، مطلوب أيضاً لذاته ولتداعياته الطيبة على سكان رقعة القتال قدر الامكان، فإن التوجه نحو النصر العسكري كما يتبين من المعطيات والمؤشرات.
مع ذلك كله، تشخص الأنظار باتجاه القمة الروسية ــ الأميركية التي تقرر عقدها في هلسنكي (في 16 تموز)، حيث تحتل الساحة السورية لذاتها وكذلك لارتباطها بملفات اقليمية ودولية حساسة جداً لدى الطرفين، موقعاً متقدماً في جدول أعمال اللقاء. لكن هل يتوصل الطرفان إلى اتفاق؟ إمكان ذلك معقول جداً من ناحية نظرية. ولطالما حققت لقاءات كهذه اتفاقات حول قضايا ونزاعات في الماضي، وكذلك خلال سنوات الحرب السورية التي شهدت اتفاقات وتفاهمات بين الجانبين، كتب لبعضها النجاح، وكتب لبعضها الفشل. لكن في الواقع وفي المحصلة، بمعنى النتيجة النهائية، لا يمكن إغفال الموقف والعامل الإقليميين، وتحديداً موقف الدولة السورية، في تسليك اتفاق دولي أو منعه، أو مجاراته في انتظار إسقاطه أو سقوطه، ما لم يكن متوافقاً مع المصلحة السورية. مروحة الاحتمالات في التوصل إلى اتفاق جراء اللقاء الأميركي ــ الروسي كبيرة ومتعددة، ومروحة الاحتمالات حيال تنفيذ هذه الاتفاقات، في حال التوصل إليها، أيضاً متعددة وفي أكثر من اتجاه.
أيضاً، مع ذلك كله، في انتظار الجنوب السوري، ربطاً باللقاء نفسه، تصعيد أمني واسع، من المرجّح أن يقضم مناطق سيطرة للمسلحين من شأنها الضغط على طاولة المفاوضات في هلسنكي لتحسين المواقع التفاوضية، رغم أن نتيجة هذا التصعيد لن تكون سيطرة كاملة خلال هذا الوقت في الميزان العسكري الميداني المباشر للجيش السوري، رغم النجاحات المتوقع تحقيقها.
القدر المتيقّن إلى الآن أن العامل الإقليمي والضغط المفعّل من قبله، وهنا بالتحديد العامل الاسرائيلي، فشلا في تحقيق مصالح تل أبيب في الجنوب السوري ومنها باتجاه ما كان مأمولاً في كل سوريا. وذلك رغم كل الجهود المفعلة من قبل إسرائيل، مباشرة وغير مباشرة، سياسياً وعسكرياً، في الضغط على الدولة السورية وحلفائها. من ناحية تل أبيب، كما عمان، وكذلك الجماعات المسلحة المتوقع أن تكون الأخيرة وقوداً لأي اتفاق مهما كانت وجهته لاحقاً. التطلع إلى هلسنكي هو السائد في هذه المرحلة، علّه يمنع مصيراً محتوماً، يبدو منطقياً أن الغلبة فيه للدولة السورية، كيفما اتجهت المسارات.بحسب التعبيرات الاسرائيلية في الأيام القليلة الماضية، «الواضح أن زخم (الرئيس السوري بشار) الأسد كبير جداً وحلفائه في الجنوب السوري.
والواضح أن الأسد سيكمل في مسيرة الخيار العسكري جنوباً، والنتيجة باتت محسومة أنه سيسيطر على درعا فيما الأنظار الاسرائيلية شاخصة نحو القنيطرة، في المرحلة التي ستلي درعا». مع ذلك، يرد في التعليق الإسرائيلي «عدم استسلام مطلق»، إذ لم تستسلم إسرائيل وتيأس من الخيار التسووي، وهي تنتظر إمكان أن توصل ضغوطها مع الجانب الاميركي إلى الدفع باتجاه اتفاق مع الجانب الروسي، من شأنه أن يحقق أكبر قدر ممكن من المصالح الأمنية الإسرائيلية، بعد تعذر تحقيقها بالكامل خلال الاتفاق الاول، الذي أعلن فشله حتى قبل أن يباشر بتنفيذه. لكن هل «عدم الاستسلام» يعني النجاح؟ في إطار ردّه على سؤال يتعلق بإمكان تدخّل إسرائيلي لمنع اقتراب السوريين والإيرانيين من الحدود الإسرائيلية في الجولان، قال الوزير نفتالي بينت، عضو المجلس الوزاري المصغر للشؤون الامنية والسياسية: «أنا أميّز بين السوريين والإيرانيين. نحن حددنا قواعد، وما داموا هم ملتزمين بها، فليس لدينا أي نية للتدخل في ما يحدث هناك». تصريح بينت يعبّر عن موقف إسرائيل الحالي، بلا ضرورة تحليلات وتقديرات حوله، كما يظهر أن تل أبيب تدرك فعلياً حدود القوة وحدود استخدامها.
من المفيد الإشارة إلى خلاصة تقرير حول الجنوب السوري أعدّته القناة الثانية في التلفزيون الاسرائيلي، يوم الأحد الماضي: «باتت المعارضة السورية تدرك وكذلك الجانب الأردني أنّ إسرائيل سلّمت بعودة الرئيس الأسد إلى الجنوب السوري وإلى الحدود مع اسرائيل».
يحيى دبوق - الأخبار
إضافة تعليق جديد