الاستغلال الأمريكي للبنان منذ نصف قرن حتى اليوم
الجمل: في الوقت الذي شكل فيه انسحاب القوات السورية من لبنان، تطوراً إيجابياً (من وجهة نظر الغرب)، فإن مزاعم إدارة الرئيس بوش وحلفائها بأنها تستحق الثناء على ذلك، قد ضاعت، وأصبحت الإدارة الأمريكية في موقع من يطالب بثقة وتقدير لا تستحقهما.
في الذكرى الأولى بخروج القوات السورية و"استقلال لبنان عن النفوذ السوري"، تبين أن معظم اللبنانيين كانوا ينظرون إلى هذه الاحتفالية، التي أقامتها إحدى الجماعات السياسية اللبنانية، كنوع من الانتهازية الفظة، التي تفتقر إلى حسن التمييز والوعي. وبالفعل، فعلى الجانب الأمريكي، تبين أن هناك عدداً من الأمريكيين (رغم قلة عددهم) يعون حقيقة أن سياسة الولايات المتحدة الخارجية، ظلت لزمن طويل، تسعى لتقويض حرية وسيادة لبنان.
ويمكن استعراض دور الولايات المتحدة في لبنان، في النقاط التالية:
الغزو الأمريكي الأول: في عام 1926، قامت فرنسا باقتطاع لبنان وفصله عن سوريا - وكانت قد احتلتها وأخذتها من يد العثمانيين بعد الحرب العالمية الأولى - وذلك بسبب رغبة فرنسا الشديدة في إنشاء "مقاطعة موالية للغرب في شرق المتوسط".
وفي عام 1943، منحت فرنسا القطر استقلاله، تاركة وراءها نظاماً موحداً للحكم، يكون فيه منصب رئيس الجمهورية على الدوام محصوراً في أفراد الطائفة المارونية، والمنصب الثاني، الذي يلي منصب رئيس الجمهورية أهمية، هو منصب رئيس الوزراء، وهو على الدوام في يد المسلمين السنة؛ أما منصب رئيس مجلس النواب، فيذهب إلى المسلمين الشيعة. أما الدروز والمسيحيون الأرثوذكس، وغيرهم، فكانوا ضمن لائحة الأقل أهمية.
تم توزيع المقاعد النيابية، وفقاً للانتماءات الطائفية، حسب نتائج التعداد السكاني، الذي أجرته فرنسا في عام 1932.
صمم هذا النظام، كي يظل لبنان على الدوام تحت هيمنة الموارنة، باعتبارهم المجموعة الدينية الأكبر في البلاد - حسب الإحصاء الفرنسي -، ولأنهم أيضاً المجموعة الأشد ولاء للغرب، والأقل ميلاً لدعم الانتماءات القومية العربية، من معظم اللبنانيين وبقية العرب. وبالفعل، فإن وجود نوع من "الخصوصية الانعزالية" عن توجهات الدولة اللبنانية، يعود إلى هيمنة النفوذ الماروني.
وفيما يتعلق بإبقاء حالة توازن القوى اللبنانية، فقد تم تحديد فترة ولاية منصب رئيس الجمهورية بست سنوات.
في عام 1958، حدثت أزمة، بسبب الضغوط لإجراء تعديلات دستورية، من أجل إعادة انتخاب الرئيس كميل شمعون المتطرف في ولائه للغرب. ورغم تراجع شمعون، فقد هددت قوات القوميين العرب، بالإطاحة بالنظام الانتخابي الاستعماري القديم الذي فرضه الفرنسيون. وكان رد الفعل الأمريكي على ذلك، بإرسال المارينز على وجه السرعة إلى لبنان، وذلك لقمع حركة التمرد.
اللاجئون الفلسطينيون وانفجار الحرب الأهلية
جاء الانشطار الداخلي في لبنان، مصحوباً بآلاف اللاجئين الفلسطينيين، الذين أخرجوا من موطنهم خلال وبعد حرب 1948، ولم تمنحهم السلطات اللبنانية هوية المواطنة، أو أي صفة تمثيلية ضمن النظام السياسي اللبناني. واستطاعت منظمة التحرير الفلسطينية - التي تعمل كحكومة فلسطينية في المنفى، غير معترف بها من الولايات المتحدة آنذاك - أن تستفيد من المزايا التي وفرها لها ضعف السلطة اللبنانية في السيطرة على لبنان واللبنانيين. ومن ثم أصبح لبنان المقر الرئيسي لمنظمة التحرير عسكرياً وإدارياً وسياسياً وثقافياً ودبلوماسياً، لا سيما بعد قيام النظام الأردني الهاشمي، بإخراج منظمة التحرير والمقاتلين الفلسطينيين من الأردن، إثر مواجهات مسلحة في الفترة بين عامي 1970 – 1971، أطلق عليها (أيلول الأسود).
رغم كل التوترات، فقد ظل لبنان يتمتع بقدر كبير من الليبرالية والحرية السياسية، مقارنة مع البلدان العربية الأخرى. وكانت العاصمة اللبنانية بيروت، مقصداً للسياح الأمريكيين والأوروبيين، وغيرهم من رواد المنطقة، وأصبح يطلق عليها "باريس الشرق".
في الوقت نفسه، استطاع النظام التمثيلي النيابي "شبه المعترف به"، أن يحافظ على النخب الطائفية اللبنانية بكفاءة، وأن يحقق ازدهاراً نسبياً في الجانب الاقتصادي مقارنة بالبلدان العربية غير النفطية في المنطقة العربية. وقد أدت التوجهات الاقتصادية الليبرالية للحكومة اللبنانية، إلى تفاقم الفجوة الكبيرة بين أثرياء وفقراء البلد. وفي سبعينيات القرن العشرين، وكنتيجة للتغييرات الديموغرافية، أصبح واضحاً للعيان أن الموارنة قد فقدوا منذ زمن مركزهم، كجماعة سكانية طائفية تمثل أغلبية كبيرة، بينما أصبح المسلمون الشيعة، الأكثر عدداً، والأكثر فقراً، في الوقت نفسه.
تزايدت التوترات، في الوقت الذي بدأت فيه الفصائل اللبنانية تشكل ميليشياتها وتسلحها بمختلف الأسلحة والوسائط القتالية الخفيفة والثقيلة. ومن ثم انفجرت حرب أهلية كبيرة في لبنان في نيسان 1975، بين الموارنة والمؤيدين لهم من الداعمين للأمر الواقع، وبين المعارضين لهم من الطوائف الأخرى.
كان خصوم الموارنة، في المرحلة الأولى من الحرب الأهلية، يشكلون تحالفاً علمانياً كبيراً، حمل اسم (الحركة الوطنية اللبنانية)، وكانت هذه الحركة تتكون من المسلمين السنة والدروز بشكل أساس، ومن اليساريين والقوميين المنتمين إلى كل الجماعات الدينية والطائفية والاثنية اللبنانية. وقادت الحركة الوطنية اللبنانية، محاولة لجعل لبنان ينضم إلى الحكومات القومية العربية اليسارية، التي صعدت إلى سدة الحكم في المنطقة العربية، خلال فترة الخمس وعشرين سنة، التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975.
ولقطع الطريق أمام إنشاء مثل هذه الحكومة، التي تنوي انتهاج سياسة معادية للغرب، دعمت الولايات المتحدة، بالتعاون مع فرنسا وإسرائيل، سرياً ومخابراتياً، الموارنة وميليشيا الكتائب التابعة لها، التي تمثل المجموعة المسلحة الأكبر بين الموارنة وحلفائهم. ومن الجدير ذكره، أن بيير الجميل أنشأ حزب الكتائب اليميني المتطرف، في ثلاثينيات القرن الماضي، على نموذج الحركات الفاشية، التي كانت متصاعدة النفوذ في أوروبا آنذاك.
في نهاية عام 1975، قامت الوحدات المسلحة، التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية - وكانت متمركزة في مخيمات اللاجئين المنتشرة في كل أنحاء لبنان، وعلى وجه الخصوص في بيروت الغربية - بالانضمام إلى قوات الحركة الوطنية اللبنانية. ومن ثم احتدمت المعارك، واشتعلت الحرب الأهلية، فأدت إلى سقوط أعداد كبيرة من القتلى المدنيين من الطرفين، وأصبحت مدينة بيروت منطقة حرب كبيرة. وفي ربيع عام 1976، أصبحت الكتائب والقوات اليمينية الأخرى، في موقف الدفاع، وعلى وشك الهزيمة النهائية. وحينها، قام بعض أعضاء الحكومة اللبنانية الموالون للغرب - بموافقة ودعم الجامعة العربية والتأييد التام من جانب الولايات المتحدة - باستدعاء القوات السورية إلى لبنان، للحيلولة دون قيام الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية بحسم الحرب بشكل نهائي. (وهناك اعتقاد بأن حسم الحرب بهذه الطريقة، يمكن أن يؤدي إلى نتائج خطيرة في منطقة الشرق الأوسط). وفي نهاية الأمر، أبعدت قوات الحركة الوطنية اللبنانية وقوات منظمة التحرير الفلسطينية، عن وسط وشمال وشرق بيروت.
الغزو الإسرائيلي في عام 1982: في مطلع السبعينات، حين بدأت منظمة التحرير الفلسطينية تتوسع وتوطد تواجدها وتمركزها في لبنان، أصبح الطيران الإسرائيلي يوجه الضربات الجوية باستمرار ضد الأهداف العسكرية والمدنية على السواء، تحت ذريعة الرد على الهجمات الصاروخية التي كانت تتعرض لها إسرائيل من داخل الأراضي اللبنانية. ورغم الأعداد الكبيرة من القتلى المدنيين، والخراب والدمار الذي لحق بالاقتصاد اللبناني جراء القصف الإسرائيلي، لا سيما على المناطق الشيعية في الجنوب، فقد دعمت الولايات المتحدة إسرائيل بلا حدود. وفي هذه الأثناء حدث أن انهارت الحكومة المركزية، وتفككت القوات اللبنانية، وتحولت إلى فصائل مسلحة. وهذا ما جعل الفصائل والميليشيات تسيطر على الوضع، وتقوم بدور الحكومة في مختلف أجزاء لبنان، وأصبحت معظم الأراضي اللبنانية تحت سيطرة هذه الميليشيات، خصوصاً بيروت الغربية والشرقية، وجنوب لبنان، ومنطقة الجبل.
في آذار من عام 1978، وانتقاماً لمقتل عشرات الإسرائيليين على يد المقاتلين الفلسطينيين، على الطريق الساحلي شمال تل أبيب، قامت إسرائيل بشن غارة اقتحامية واسعة النطاق في الجنوب اللبناني، أدت إلى مقتل المئات من المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين، إضافة إلى الخراب والدمار الهائل الذي أحدثه اجتياح القوات الإسرائيلية للجنوب اللبناني.
وبسبب الإدانة العالمية الواسعة لهذا الاجتياح، اضطرت الولايات المتحدة - على غير عادتها - إلى التصويت، مع بقية أعضاء مجلس الأمن، تأييداً للقرار رقم (425) الذي يطالب إسرائيل بوقف كل عمل عسكري، والانسحاب الفوري. واضطر الرئيس الأمريكي إلى تهديد إسرائيل بتعليق بعض المعونات والمساعدات الأمريكية التي تقدمها الولايات المتحدة إلى إسرائيل، إذا لم تقم إسرائيل بسحب قواتها، الأمر الذي أدى إلى قيام إسرائيل بانسحاب جزئي، إلى حدود ما أطلقت عليه هي "المنطقة الآمنة"، التي تتضمن شريطاً حدودياً عرضه بين 12 و20 ميلاً داخل الأراضي اللبنانية المتاخمة لحدود إسرائيل الشمالية. وأرسلت الأمم المتحدة قوات تابعة لها إلى داخل لبنان، لكي تفصل الجانبين الإسرائيلي واللبناني.
داخل الأراضي اللبنانية المحتلة، قامت إسرائيل بالتحالف مع الجنرال اللبناني المنشق سعد حداد، وشكل هذا التحالف جيش لبنان الجنوبي، الذي أصبح بالفعل، وحدة عسكرية خارجية من وحدات الجيش الإسرائيلي. وبعد ذلك، أصدر مجلس الأمن تسعة قرارات، كلها تلح وتكرر المطالبة بانسحاب إسرائيل بالكامل، ودون أي قيد أو شرط، من الأراضي اللبنانية. ولكن الولايات المتحدة، منعت مجلس الأمن من استخدام القوة لتنفيذ قراراته.
طوال حقبة سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن العشرين، واصلت إسرائيل، بالتعاون مع جيش لبنان الجنوبي، إلقاء القنابل وقصف المواقع المسلحة الفلسطينية والمناطق المدنية في جنوب لبنان. وأثناءها كانت الميليشيات الفلسطينية تطلق القذائف على شمال إسرائيل. والجدير ذكره أن إسرائيل استخدمت قوتها النارية الهائلة، لإحداث المزيد من الخراب والدمار في الجنوب اللبناني. وفي حزيران عام 1981، وبعد سلسلة من عمليات القصف الإسرائيلي المكثف على ضواحي بيروت، الذي أدى إلى مقتل المئات من المدنيين، استطاع مبعوث الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، تحقيق النجاح في التوصل إلى وقف إطلاق النار.
رغم الالتزام الشديد من جانب القوات الفلسطينية، ولا سيما قوات منظمة التحرير الفلسطينية، لمدة عام كامل، إلا أن الجناح اليميني المتشدد داخل إسرائيل، بزعامة مناحيم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، أصدر أوامره للجيش الإسرائيلي بتنفيذ عملية غزو شامل لبنان، في مطلع حزيران 1982. وقد قاد العملية ونفذها وزير الدفاع آنذاك، الجنرال أرييل شارون.
في غضون أسابيع، احتل الجيش الإسرائيلي نصف الأراضي اللبنانية تقريباً، واستطاع أن يفرض حصاراً على بيروت. وفي هذه الأثناء، قام الطيران الإسرائيلي بقصف المواقع السورية في شرقي لبنان. وقد صوتت الولايات المتحدة الأمريكية على سلسلة من قرارات مجلس الأمن، طالبت إسرائيل بالانسحاب من لبنان. ولكنها في الوقت نفسه، أعاقت القرارات التي طالبت بوقف إطلاق النار، ومنعت مجلس الأمن من إصدارها، باستخدامها لحق الفيتو عدة مرات.
بعد أقل من شهرين على بدء عملية الغزو، وصل عدد القتلى اللبنانيين والفلسطينيين إلى حوالي 12 ألف قتيل، نتيجة لعمليات القصف الإسرائيلي للأحياء والمناطق المكتظة بالسكان. سمع العالم كله بمجزرة إسرائيل الهائلة، وانتهاكاتها المتكررة والمتعمدة للقانون الدولي وللسيادة اللبنانية. ورغم أن القانون الأمريكي يحرم ويجرم استخدام الأسلحة الأمريكية في الأغراض غير الدفاعية، فقد ظلت إدارة الرئيس الأمريكي ريغان، ومعها زعماء الكونغرس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، يدافعون بقوة عن الممارسات الإسرائيلية في لبنان، ويبررون الغزو الإسرائيلي، ويعملون بحيوية ونشاط من أجل دعم الحكومة اليمينية الإسرائيلية بأسرع ما يمكن بالمزيد الدعم المالي والعسكري.
عودة القوات الأمريكية إلى لبنان: في نهاية آب عام 1982، توسطت الولايات المتحدة عبر اتفاقية تم بموجبها التفاهم على قيام منظمة التحرير الفلسطينية بسحب مقاتليها وإخلاء مكاتبها السياسية من بيروت إلى تونس، الواقعة على بعد 1500 ميل إلى جهة الغرب، وذلك مقابل التزام إسرائيل بعدم اقتحام المدينة. وتضمن الاتفاق عملية نشر قوة حفظ سلام بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، للإشراف على إجلاء المقاتلين الفلسطينيين.
نص الاتفاق أيضاً على أن تقوم الولايات المتحدة، بالتعاون مع الحكومة اللبنانية، بتقديم ضمانات لسلامة المقاتلين الفلسطينيين. وكان اهتمام الفلسطينيين ينصب على ميليشيا الكتائب، التي قامت سابقاً بسلسلة من الهجمات والاعتداءات ضد الفلسطينيين، خلال المرحلة الأولى من الحرب الأهلية، وكان من أشهرها مذبحة عام 1976، التي قتل فيها حوالي 2000 فلسطيني في معسكر تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين في بيروت الشرقية.
بعد مرور ثلاثة أيام على توقيع اتفاق 20 آب، اجتمع العدد المتبقي من أعضاء مجلس النواب اللبناني، من أجل اختيار رئيس الجمهورية الجديد. ورغم الميول والنزعات الفاشية لحركة الكتائب، وتاريخها الوحشي البغيض، تم اختيار بشير الجميل قائد ميليشيا الكتائب رئيساً للجمهورية اللبنانية. وبشير هو الابن الأكبر لبيير الجميل مؤسس الكتائب.
خلال أسبوعين، انسحبت القوات الأمريكية من لبنان، قبل الوقت المتوقع بكثير. وبعدها بأيام ثلاثة، اغتيل الرئيس المنتخب بشير الجميل، إثر انفجار في مقر رئاسة الكتائب. حاولت بعض الأطراف اللبنانية والخارجية إلقاء مسؤولية الاغتيال على المخابرات السورية. أما إسرائيل فقامت مباشرة باستخدام حادثة الاغتيال كمبرر للتخلي عن التزامها بالاتفاق، وأصدرت أوامرها لقواتها باحتلال بيروت. ورغم أن هذه هي الحادثة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، التي يتم فيها احتلال عاصمة مستقلة، فإن إدارة الرئيس ريغان قد اكتفت آنذاك بتوبيخ لطيف وناعم لإسرائيل.
فيما بعد، قام الإسرائيليون بإرسال رجال ميليشيا الكتائب إلى مخيمي صبرا وشاتيلا الفلسطينيين، الواقعين في الطرف الجنوبي من بيروت. وقام الكتائبيون بمذبحة كبرى، قتلوا فيها أكثر من 1000 مدني، تحت مرأى ومسمع قوات الاحتلال الإسرائيلي، التي لم تفعل شيئاً لوقف الفظائع، بل قامت بإطلاق القنابل المضيئة، لتساعد الكتائبيين في عدوانهم وقتلهم.
في إسرائيل، اشتدت المعارضة الشعبية، بسبب قيام الجناح اليميني بغزو واحتلال لبنان، وتصاعدت حدة المعارضة، عندما أصبح التورط في المذبحة جلياً وبارزاً للعيان. عندها اندلعت مظاهرات كبيرة، تطالب بانسحاب القوات الإسرائيلية وبمحاسبة المسؤولين (أصدرت لجنة تحقيق إسرائيلية مستقلة، تقريراً في شباط 1983، حملت فيه شارون المسؤولية عن المذبحة، ولكن رغم ذلك، أصبح شارون رئيساً لوزراء إسرائيل بدءاً من عام 2000، وحتى لحظة النزيف التي أصابته في مطلع العام الحالي. وكان طوال هذه الفترة، يجد التأييد والثناء من الرئيس بوش وزعماء الكونغرس، الذين ينتمون إلى الحزبين الأمريكيين: الجمهوري والديمقراطي).
وما كان مثيراً للجدل أيضاً، هو الانسحاب الأمريكي المبكر قبل الأوان، الذي ترك مخيمات اللاجئين العزل بلا حماية، على النحو الذي جعلها عرضة لمذبحة كتائبية مسنودة إسرائيلياً. وقد أطلع وزير الخارجية الأمريكي بعض رفاقه على الأمر قائلاً: «الحقيقة المرة هي أننا مسؤولون جزئياً»، وذهب روبرت سي ماكفرلين بعيداً في زعمه بأن القوات الأمريكية تعاملت «بلامسؤولية، تصل إلى حد التجريم».
عادت القوات الأمريكية إلى بيروت، في نهاية أيلول، تصحبها قوات طوارئ فرنسية إيطالية قليلة العدد. وانسحبت القوات الإسرائيلية إلى مواقع في جنوبي العاصمة بيروت. في تلك الأثناء، تسلم أمين الجميل قائد الكتائب، والأخ الأكبر لبشير الجميل، رئاسة الجمهورية اللبنانية؛ ولكنه سرعان ما واجه سخطاً شعبياً ضد حكومته اليمينية المتطرفة. وفي الوقت الذي كانت ترى فيه فرنسا في وجودها العسكري جزءاً من "مهمة حفظ السلام وحماية السكان المدنيين"، كانت الولايات المتحدة تشدد على وجود قواتها للقيام بـ "عملية فصل القوات"، ولمساعدة الحكومة والقوات اللبنانية، بناء على طلب الحكومة نفسها.
في ذلك الخريف، بدا ظاهراً أن الولايات المتحدة كانت تأمل في استخدام وجودها العسكري للضغط على الحكومة اللبنانية، لتبدأ مفاوضات للوصول إلى اتفاقية سلام دائمة مع إسرائيل، مقابل الانسحاب، وإجبار القوات السورية على الانسحاب إلى الجزء الشرقي من البلاد، ومن ثم إجبار الجماعات الفلسطينية بالانسحاب إلى الجزء الشمالي الغربي. وقد تعهدت إدارة ريغان بإبقاء قواتها، إلى أن يقوم الجيش اللبناني بإعادة تأسيس نفسه، وانسحاب القوات الأجنبية.
لاقى الدعم الأمريكي للغزو الإسرائيلي التخريبي للبنان، غضباً ورد فعل معاد: ففي نيسان 1983، حدث تفجير انتحاري، دمر مبنى السفارة الأمريكية في بيروت، وأدى إلى مقتل 63 شخصاً.
قامت الحكومة اللبنانية، بسبب الضغط الأمريكي الإسرائيلي، بتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل في الشهر التالي. ولكن لم يتم مطلقاً وضع الاتفاقية موضع التنفيذ، وذلك بسبب المعارضة الشعبية. لذلك فقد تم إلغاء الاتفاقية رسمياً وبسرعة.
في نهاية صيف 1983، وأثناء اشتداد المقاومة الشعبية المضادة للكتائب وقيادتهم المدعومة إسرائيلياً، بدأت قوات الولايات المتحدة تتدخل بشكل مباشر في دعم الحكومة اليمينية، وتطلق النار على القوات الشيعية المتمركزة في أطراف وضواحي بيروت الجنوبية، وتقصف قرى الدروز المؤيدة للمقاومة التي يقودها الحزب التقدمي الاشتراكي في جبال الشوف. وقد أدت الضربات الأمريكية والقصف المدفعي الثقيل من السفينة الحربية الكبيرة نيوجرسي، إلى وقوع عدد كبير من الضحايا المدنيين.
رغم الاهتمام المتزايد، من جانب جماعات السلام وحقوق الإنسان، في الولايات المتحدة، فقد انضم مجلس النواب، الذي يسيطر عليه الديمقراطيون، إلى مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون، وأصدروا قراراً من الكونغرس بضرورة إبقاء القوات الأمريكية في لبنان لمدة 18 شهراً إضافية.
استمر القتال بين القوات الأمريكية والمقاومة اللبنانية، طوال ذلك الفصل، وأسفر عن مقتل العشرات من الأمريكيين والمئات من الضحايا اللبنانيين. وفي تشرين الأول من ذلك العام، أدى هجوم انتحاري إلى تفجير ثكنات قوات المارينز قرب مطار بيروت، وقتل إثره 241 جندياً.
تصاعد القتال، خلال فترة الشتاء، بين القوات الأمريكية والمقاومة اللبنانية، وقامت الطائرات الحربية الأمريكية بقصف المواقع السورية في شرق لبنان. واستخدم مسؤولو الإدارة الأمريكية، لتبرير الحرب في لبنان، لهجة متشددة، مشابهة للهجة التي استخدموها في حربهم على العراق. إلا أن انسحاب القوات الأمريكية من لبنان، أدى إلى تهديد الاستقرار في كل المنطقة، إضافة إلى أنه سوف ينظر إليه كانتصار للإرهابيين.
في مطلع عام 1984، ونتيجة للمعارضة المتفاقمة داخل أمريكا، قامت الولايات المتحدة بسحب قواتها من لبنان.
تضررت سمعة الولايات المتحدة عالمياً، بسب تأييدها للغزو الإسرائيلي للبنان، ما حول لبنان من البلد الأكثر مناصرة لأمريكا في بداية الثمانينات، إلى البلد الأشد عداء لها في منتصف الثمانينات.
الإرهاب المناهض لأمريكا حالياً
بعد أن أعيد بناء السفارة الأمريكية في بيروت، تم تفجيرها مرة أخرى عام 1984، وقتل فيها 54 شخصاً. وبذلك أصبحت لبنان بلداً خطيراً، بعد أن كان الأمريكيون يسافرون إليه بكل طمأنينة للاستجمام والسياحة.
غادر بعض الأمريكيين المقيمين في لبنان، وبعضهم الآخر تم اغتيالهم، أو اختطافهم كرهائن. وبذلت الإدارة الأمريكية جهداً كبيراً لإقناع الإيرانيين بممارسة نفوذهم، للضغط على مختطفي الرهائن الأمريكيين لإطلاق سراحهم، مما أدى إلى حدوث صفقات سلاح مقابل الرهائن، بين أمريكا وإيران، وانكشفت واحدة منها عرفت بـ (فضيحة إيران – كونترا).
ورغم اهتمام الولايات المتحدة الكبير بموضوع الرهائن الأمريكيين، إلا أنها لم تهتم إزاء مقتل آلاف الشبان اللبنانيين والفلسطينيين على يد القوات الإسرائيلية، إضافة إلى الأسرى اللبنانيين الفلسطينيين، الذي أرسلتهم إسرائيل إلى السجون داخل إسرائيل والجنوب اللبناني المحتل. وقد قضى مئات السجناء داخل السجون فترة تتجاوز 15 عاماً، من دون تهم، وتعرض العديد منهم إلى التعذيب الدوري الروتيني.
ومن ضمن الخطط الأمريكية في لبنان: تكوين وحدة استخبارات لبنانية، تدعمها وكالة المخابرات الأمريكية، تعمل خصيصاً لاستهداف الشيعة. وفي آذار 1985 قامت شراذم من هذه الوحدة، بمحاولة اغتيال الشيخ محمد حسين فضل الله المعارض للأمريكيين. ورغم فشل المحاولة، إلا أن القنبلة المزروعة في أحد المناطق العمالية قرب بيروت، أدت إلى مقتل 80 مدنياً.
في حزيران 1985، قام مختطفون لبنانيون - من بينهم رجل قتلت قنابل نيوجرسي أسرته - باختطاف طائرة تابعة لخطوط توا (TWA)، وإجبارها على الهبوط في بيروت، واحتجاز الركاب وطاقم الطائرة كرهائن، وقتلوا أحد الطيارين الأمريكيين فيها.
في مقابلة مع صحيفة النيويورك تايمز، وفيما يتعلق بلبنان، قال الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر: «لقد أسقطنا القنابل، وقتلنا القرويين الأبرياء، والنساء، والأطفال، والفلاحين، وربات المنازل، بلا رحمة. وكنتيجة لذلك، أصبحنا كالشيطان في أذهان أولئك المستائين منا. وهذا الرعب والقتل، هو الذي أدى إلى اختطاف الرهائن، والقيام بالهجمات ضدنا».
صعود حزب الله
في صيف عام 1985، أدت الحرب التي قادها الشيوعيون اللبنانيون، وميليشيا حركة أمل الشيعية اللبنانية، إضافة إلى بعض الفصائل والمجموعات الأخرى، إلى إجبار الإسرائيليين على الانسحاب من وسط لبنان، والتراجع إلى أقصى الجنوب اللبناني، المحتل من قبل إسرائيل منذ عام 1978. في هذه الأثناء، قامت القوات السورية - المسيطرة على معظم الشرقي من البلاد - بتوجيه نيران أسلحتها نحو المناطق التي تسيطر عليها الطائفة المارونية في الشرق وفي مناطق الجبل في شمال لبنان، وقامت بقصف بعض المدن والقرى هناك.
كان المقاومون السنة والشيعة على السواء، الأكثر استهدافاً من قبل الأمريكيين. وانضوى العديد من الشيعة تحت راية حزب الله، الذي طوره الحرس الثوري الإيراني. وكان دعم الحزب يأتي من آلاف الشيعة، الذين تركوا الجنوب اللبناني بسبب الهجمات والاعتداءات الإسرائيلية، ورحلوا إلى الضواحي الفقيرة الواقعة على أطراف بيروت الجنوبية. وبعد تقويض الحركة الوطنية، والرحيل القسري لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبسبب التدخلات المباشرة وغير المباشرة التي قامت بها إسرائيل والولايات المتحدة، أصبح حزب الله وحركة أمل أمام تحد لملء الفراغ الناتج عن ترحيل الفلسطينيين وتقويض الحركة الوطنية.
في أجزاء ومناطق الجنوب اللبناني، شمال الشريط الذي تحتله إسرائيل، سيطر حزب الله سيطرة كاملة، وبدأ كفاحاً مسلحاً ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي. أما إسرائيل، وبدعم ومساعدة الولايات المتحدة العسكرية والمالية، واصلت تحديها الجريء لمجلس الأمن الدولي والمجتمع الدولي، واستمرت في احتلالها للشريط الجنوبي للبنان، تحت مزاعم أن احتلالها لهذا الشريط أمر ضروري ولازم لحماية إسرائيل من هجمات حزب الله. ورغم ذلك، أصبح حزب الله، فيما بعد، يشكل تهديداً، كان في حد ذاته نتاجاً لسياسات إسرائيل والولايات المتحدة.
في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، ظل لبنان تحت حماية الجيش السوري، وبقيت إسرائيل في جنوبه، والميليشيات تتوزع في مناطق مختلفة. أما الحكومة المركزية اللبنانية، التي لم تكن آنذاك قد شكلت جيشاً كاملاً، فقد عجزت عن التصدي للاحتلال الإسرائيلي. أما حزب الله - رغم صفته الإسلامية الشيعية المتطرفة - فقد كان قادراً على تولي قيادة المقاومة الوطنية اللبنانية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
نهاية الحرب الأهلية
في عام 1989، تم توقيع اتفاقية الطائف، في المملكة العربية السعودية، بهدف إنهاء الحرب الأهلية، عن طريق نزع سلاح الميليشيات اللبنانية، ومراجعة الهيكل الدستوري الذي فرضته فرنسا على لبنان، للحد من مستوى الهيمنة المارونية. وقد اعترض على تطبيق الاتفاق في بادئ الأمر، العماد ميشيل عون، الذي كان يعمل كرئيس وزراء مؤقت منذ أيلول 1988، أي منذ لحظة انتهاء فترة ولاية الرئيس أمين الجميل. وفي آذار 1989، أعلن ميشيل عون ما أسماه (حرب التحرير) ضد الوجود السوري في لبنان. والجدير بالذكر أن ميشيل عون كان مدعوماً من العراق، التي كانت آنذاك الدولة الوحيدة التي تحدثت علناً ضد الوجود السوري. أعلن صدام حسين أن القوات العراقية، سوف لن تغادر تلك الإمارة المحتلة، إلا إذا سحبت سوريا قواتها من العراق.
في تشرين الأول 1990، شنت القوات السورية هجوماً على مناطق تمركز سيطرة ميشيل عون في بيروت، وأطاحت به، وبذلك استطاعت سوريا إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، التي استمرت خمسة عشر عاماً. وعندها، كانت إدارة الرئيس بوش الأب تدعم الهجوم السوري ضد واحد من أهم حلفاء صدام حسين في المنطقة. وقد ذكر مسؤولو وزارة الخارجية الأمريكية بوضوح، أن الهجوم السوري، وما أعقبه من تشكيل حكومات لبنانية مناصرة لسوريا، لم يكن ممكناً لولا تأييد ودعم الولايات المتحدة للوجود السوري في لبنان (من سخرية القدر أنه رغم أن ميشيل عون كان من الحلفاء الأوائل لصدام حسين، إضافة إلى دوره في عدد من المذابح المشهورة، أصبح حالياً موضع حفاوة وثناء النواب الجمهوريين والديمقراطيين في الكابيتول هيل "مبنى الكونغرس الأمريكي" باعتباره بطلاً، بسبب عدائه المستحكم للسوريين).
في مطلع تسعينيات القرن الماضي، قامت الحكومة اللبنانية، المجبرة على مساندة السوريين، بنزع سلاح الميليشيات التي كانت تقطع أوصال لبنان. وبسبب الاحتلال الإسرائيلي المستمر لجنوب لبنان، بقي جيش لبنان الجنوبي المدعوم إسرائيلياً في مكانه. وعزز حزب الله دعمه الشعبي عبر الهجمات والعمليات التي يقودها ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي. ورغم أن لبنان شارك في مؤتمر السلام بمدريد، الذي نظمته الولايات المتحدة عام 1991، فقد بدا واضحاً أن الانسحاب من لبنان لم يكن أولوية بالنسبة لأمريكا.
استخدمت الولايات المتحدة الفيتو، لمنع قرار مجلس الأمن القاضي بانسحاب إسرائيل من لبنان. وظهرت الأمم المتحدة عاجزة عن التعامل مع هذا الموقف، وبقي موقفها محدوداً: إسرائيل ترفض السماح بوجود قوات سلام تابعة للأمم المتحدة، لكي تأخذ مواقع متقدمة على طول الشريط الإسرائيلي - اللبناني. وانحصر عمل القوات الدولية المتواجدة، في القيام بدوريات استكشافية في شمال المنطقة المحتلة إسرائيلياً. ولم تسلم قوات الأمم المتحدة من نيران القوات الإسرائيلية، التي أدت إلى قتل العشرات منهم.
حزب الله وتوازن القوى
طوال حقبة تسعينيات القرن الماضي، كان حزب الله يقوم دورياً بقصف المناطق الواقعة شمال إسرائيل، رداً على الهجمات الإسرائيلية ضد المدنيين في جنوب لبنان، التي حصدت أرواح عدد كبير من المدنيين. وكان حزب الله يعلن دائماً عن استعداده لوقف الهجمات، في حال توقفت إسرائيل عن هجماتها، وأنهت احتلال الأراضي اللبنانية. وطوال هذه الفترة كانت الولايات المتحدة توجه إداناتها لحزب الله، ليس بسبب هجماته على إسرائيل، وإنما بسبب مقاومته المسلحة ضد الجنود الإسرائيليين الذين يتمركزون داخل الأراضي اللبنانية، رغم أن القانون الدولي كان صريحاً بحق المقاومة المسلحة ضد قوات الاحتلال الأجنبي. وكانت الولايات المتحدة تأمل دائماً بأن تؤدي الضغوط الإسرائيلية إلى إجبار لبنان على توقيع معاهدة سلام منفصلة مع إسرائيل، وبالتالي يتم عزل سوريا.
ورداً على هذه المعاملة، رأى السوريون أن ثمة إيجابية في السماح لحزب الله بمقاتلة إسرائيل في لبنان، وذلك كوسيلة ضغط على إسرائيل، لكي تنسحب من لبنان ومرتفعات الجولان السورية، التي استولت عليها إسرائيل واحتلتها بالقوة العسكرية في حرب عام 1967، وما زالت تحتلها إلى الآن.
في عملية لتشويه صورة وأنشطة حزب الله من أجل تحرير لبنان، بدأ مسؤولو الولايات المتحدة بتصوير الحركة الشعبية بأنها تعمل بالوكالة عن سوريا. وفي حقيقة الأمر، كانت سوريا تدعم حركة أمل، وهي حركة شيعية أكثر اعتدالاً، وقد سبق أن اشتركت في معارك ضد حزب الله. وبما أن حزب الله، رغم أيديولوجيته الأصولية، قد اكتسب شعبية واسعة بين اللبنانيين، بسبب قيادته المستمرة للمقاومة ضد إسرائيل، فقد زادت سوريا تأييدها ودعمها له، عن طريق السماح له بحرية العمل والحركة.
طوال هذه الفترة، استخدمت إسرائيل كل أنواع العتاد والأساليب ضد حزب الله. وقد كانت الولايات المتحدة، هي الممول لهذا العتاد والمال، حيث أخذت الحكومة الإسرائيلية أكثر من ملياري دولار من أمريكا، حولت إليها من أموال الضرائب الأمريكية، لتمول بها المساعدات العسكرية الأمريكية الدورية لإسرائيل. وظلت الحكومة الأمريكية ترفض مطالب جماعات حقوق الإنسان، الذين وجدوا أن هذه المساعدات الأمريكية يجب أن تقدم لإسرائيل، شرط أن توقف إسرائيل اعتداءاتها على المناطق المدنية اللبنانية.
استمرت الولايات المتحدة في الدفاع عن الاعتداءات الإسرائيلية، واستخدمت حق الفيتو ضد قرارات مجلس الأمن الدولي، التي تدين العنف، وتطالب بالتحقق من مصداقية جماعات حقوق الإنسان ووكالات الأمم المتحدة، التي بدأت تفضح مدى المأساة الكبير جراء الاعتداءات الإسرائيلية. وعلى سبيل المثال، فقد حدثت حالة مشهورة وبارزة تدلل على ذلك، عندما قامت إسرائيل في عام 1996، بشن هجوم بقذائف المورتر على مجمع تابع للأمم المتحدة بالقرب من قرية قانا اللبنانية، وكان المجمع يشكل ملاذاً للاجئين المدنيين من القرى المجاورة الواقعة تحت القصف والهجمات الإسرائيلية. وسقط نتيجة الاعتداء مئة قتيل من المدنيين اللبنانيين. والجدير بالذكر أن كل تقارير الأمم المتحدة ومنظمة أمنيستي الدولية، وكل الجهات الأخرى التي اهتمت بالرصد والتحقيق، أكدت على أن القصف كان متعمداً.
رغم فشل إدارة كلينتون في تقديم أي دليل ينفي هذه التقارير والتحقيقات الدولية، أصرت الحكومة الأمريكية على أن الأمر قد حدث صدفة. وأشارت بعض التقارير إلى أن قرار الولايات المتحدة، باستخدام حق الفيتو ضد إعادة انتخاب بطرس غالي كأمين عام للأمم المتحدة، بعد عام من مجرزة قانا، كان بسبب رفض غالي التكتم على الأدلة التي وصلت إلى الأمم المتحدة، حول الاعتداء الإسرائيلي على قانا.
في نهاية حقبة التسعينات من القرن الماضي، تزايد عدد قتلى الجنود الإسرائيليين في المناطق اللبنانية المحتلة، الأمر الذي أدى إلى تفاقم السخط الشعبي داخل إسرائيل. وكرد فعل على ذلك، أوضحت استطلاعات الرأي في إسرائيل أن الأغلبية العظمى من الإسرائيليين يرغبون في خروج القوات الإسرائيلية من لبنان. وقام مارتن إنديك (سفير أمريكا في إسرائيل خلال فترة كلينتون، والذي عمل أيضاً كمساعد لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط) بتشجيع إسرائيل وحثها علناً على إبقاء قواتها في الأراضي اللبنانية، لوقت غير محدد. وبكلمات أخرى، كانت الولايات المتحدة تشجع إسرائيل – ضد الخيار الأفضل الذي يريده السكان الإسرائيليون – على انتهاك قرارات مجلس الأمن الدولي المعلقة لفترة طويلة. وقد طالبت القرارات إسرائيل بالانسحاب غير المشروط من الأراضي اللبنانية. وعندما قامت هيلين توماس، الصحفية في البيت الأبيض ذات الخبرة الطويلة، بطرح سؤال حول تعليق مارتن إنديك أمام الصحفيين، أجابها كلينتون: «أعتقد أنه أمر ملزم لنا، طالما أن إسرائيل تحفظ أمن حدودها الشمالية، وبالتالي، فأنا أعتقد بأن الولايات المتحدة يتوجب عليها أن تحترم رغبات الآخرين – مثل إسرائيل – في هذه الأحوال والظروف». وإذا نظرنا إلى مطالب إدارة كلينتون، فإننا نجدها تحث على فرض عقوبات شديدة على بعض الدول العربية، مثل العراق وليبيا والسودان بسبب انتهاكها لقرارات مجلس الأمن الدولي. في حين نجد أن دفاع كلينتون العلني لانتهاكات إسرائيل لقرارات مجلس الأمن الدولي، قد وطدت وعززت من قبل الولايات المتحدة، التي تتعامل بسياسة مزدوجة المعايير.
الانسحاب الإسرائيلي
في أيار عام 2000 أدت الهجمات المستمرة لحزب الله على القوات الإسرائيلية وجيش لبنان الجنوبي، إلى إجبار الإسرائيليين وعملائهم إلى التراجع السريع خارج الأراضي اللبنانية. وفي غمرة الوعي بفشل الحل الدبلوماسي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، حدث أن أدى فهم النصر الذي حققه حزب الله بالوسائل العسكرية، في الأوساط العامة والخاصة، إلى تعزيز مكانة حزب الله بين الشيعة وغيرهم. وأشار كثيرون إلى فشل الولايات المتحدة بإنهاء الاحتلال بالطرق الدبلوماسية. وقالوا بأن فشل الولايات المتحدة كان عاملاً رئيساً في جعل أعداد هائلة وقطاعات كبيرة من الشعب الفلسطيني، تعي بأن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأراضيهم، لا يتم إلا عن طريق النضال المسلح، الذي يجب أن تقوده العناصر الإسلامية الراديكالية. وبالفعل، فقد هبت الانتفاضة الفلسطينية، ضد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، بعد أربعة أشهر من الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، تحت ضغوط عمليات حزب الله العسكرية.
ومنذ ذلك الحين، باستثناء بعض الأحداث والوقائع الصغيرة، أصبحت الحدود الإسرائيلية - اللبنانية هادئة تماماً، عدا عن بعض المناوشات بين حزب الله وقوات الاحتلال الإسرائيلي في منطقة مزارع شبعا المتنازع عليها، على طول الحدود اللبنانية السورية.
رغم قيام إسرائيل باختراق المجال الجوي اللبناني، وانتهاكها بذلك قرار مجلس الأمن الدولي رقم 425 والقرارات الأخرى ذات الصلة، إلا أن الكونغرس الأمريكي في عام 2003 أجمع بقرار أصدره، امتداح إسرائيل وامتثالها الكامل بقرار مجلس الأمن الدولي.
لم يقم حزب الله بنزع سلاح ميليشياه كما هو مطلوب منه، وأيضاً لم تقم الحكومة اللبنانية بذلك، ولم يحدث أن حاول السوريون إجبار الحزب على القيام بذلك. وطالما أن القوات الإسرائيلية قد انسحبت، وتم تفكيك جيش لبنان الجنوبي، فإن عدد مقاتلي حزب الله انخفض إلى حولي 100 ألف مقاتل، إضافة إلى أن حزب الله في الوقت الراهن يعمل بشكل أساس كحزب سياسي، له نواب منتخبون في البرلمان اللبناني.
في تموز 2003 ذكر تقرير مفصل، نشرته المجموعة الدولية للأزمات، وصفت فيه حزب الله قائلة: «بأن اللهجة الخطابية والقدرات المسلحة لبناء تنظيم مسلح، أصبحت تمثل القليل من توجهاته البارزة». ورغم حقيقة أن حزب الله لم يكن متورطاً في الهجمات لأكثر من عدة سنوات مضت، إلا أن تأكيدات إدارة بوش، ظلت تصر على التعامل مع حزب الله كجماعة إرهابية، وليس حزباً أو حركة سياسية. وأدى ذلك إلى المزيد من الشكوك في أوروبا حول حزب الله.
نظم حزب الله مسيرة 8 آذار العام الماضي في بيروت، وذلك رفضاً للضغوط الغربية ضد الحكومتين السورية واللبنانية، الأمر الذي أجبر مسؤولي إدارة بوش إلى الاعتراف بأن حزب الله ما زال يملك قوة نافذة في السياسة اللبنانية، ويستحيل تجاهلها أو غض النظر عنها، أو اعتبارها حركة إرهابية. وفي رد الفعل ذاك، ورغم تقارير وزارة الخارجية الأمريكية التي تعلن عدم قيام حزب الله بهجمات إرهابية خلال السنوات الماضية، فقد صادق الكونغرس الأمريكي بأغلبية 380 مقابل 3 من الأعضاء، على إدانة الهجمات الإرهابية المستمرة التي يقوم بها حزب الله.
حصلت قائمة حزب الله في انتخابات مايو من ذلك العام، على 80% من الأصوات في مجلس النواب اللبناني، وحصل الحزب على حوالي 25 معقداً من جملة مقاعد مجلس النواب البالغ عددها 125 مقعداً.
قانون محاسبة سوريا وصيانة سيادة لبنان
في عام 2003، وقع الرئيس بوش في مجلس النواب ومجلس الشيوخ على عريضة، تمت عليها الموافقة بأغلبية كبيرة، مقابل 8 أصوات معارضة، تنص على تشديد العقوبات ضد سوريا.
أشارت العريضة إلى انتهاك سوريا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 520 الذي صدر في أيلول عام 1982، وطالب بـ (الاحترام، والسيادة الكاملة، والاستقلال السياسي للبنان، تحت سلطة واحدة للحكومة اللبنانية، يحميها جيش لبناني موحد).
ويكشف النص الكامل لقرار الأمم المتحدة، أن ذلك القرار كان موجهاً بشكل أساس ليس ضد سوريا، وإنما ضد إسرائيل، التي قامت بشن هجوم كبير وشامل على لبنان قبل صدور القرار بثلاثة أشهر، واحتلت ما يقرب من نصف مساحة لبنان، بما في ذلك العاصمة بيروت. وبالفعل، فإذا أردنا تطبيق هذا القرار على سوريا، فإننا سنرى بأن إسرائيل كانت القوة الوحيدة الخارجة على القانون، التي أشار إليها القرار بالاسم بين سطوره.
ومن المدهش عدم قيام مؤيدي قانون محاسبة سوريا، بمطالبة إسرائيل للاستجابة والامتثال لقرار مجلس الأمن رقم 520، أو فرض عقوبات عليها، لإجبارها على تنفيذ القرار. ويتضح أن مؤيدي هذا القرار، أكدوا بجلاء أنهم يدعمون إسرائيل عسكرياً وسياسياً بلا حدود.
المعونة السنوية الأمريكية لإسرائيل قفزت من 1,7 مليار دولار، في الفترة التي بدأت فيها إسرائيل احتلالها لجنوب لبنان عام 1978، إلى 4,1 مليار دولار في عام 2000، وهي السنة الأخيرة من احتلال إسرائيل لجنوب لبنان. وبالتالي، لا بد أن نشير إلى الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل، من أجل تشجيعها على انتهاك السيادة اللبنانية والقانون الدولي.
إن قانون محاسبة سوريا، وقانون الحفاظ على سيادة لبنان، لم يقدما لسوريا أي حوافز مقابل انسحابها من لبنان، طالما أن العريضة التي تم تقديمها تطالب بفرض العقوبات حتى لو انسحبت سوريا بالكامل من لبنان. ووفق العريضة، فهناك خلافات سياسية أخرى. وتطالب العريضة بفرض عقوبات على سوريا، حتى توافق الحكومة السورية على تنفيذ مطالب إضافية أخرى، وقد أشار المراقبون والمحللون إلى أنها غير ممكنة، بل ومستحيلة، ومن الأمثلة على ذلك: أن تقوم سوريا، من تلقاء نفسها، بتجريد نفسها من بعض الأسلحة، حيث لا يجب أن تتبع نظاماً مسموحاً به للجيران المعادين لها.
الفصل النهائي
في أيلول 2004، قامت الولايات المتحدة وفرنسا بالضغط لاستصدار القرار رقم 1559، من مجلس الأمن الدولي، الذي شدد على مطالبة كل القوات الأجنبية بالانسحاب من لبنان. وإضافة لذلك، فقد أشار الرئيس بوش باستمرار لانتهاكات سوريا لهذين القرارين، في كل أجهزة الإعلام. واستمر زعماء الكونغرس الأمريكي من كلا الحزبين الديموقراطي والجمهوري، يسلطون الضوء على سوريا باعتبارها دولة مارقة وخارجة على القانون الدولي. وإذا نظرنا إلى موقف الولايات المتحدة الذي يبرر انتهاكات الحكومة الإسرائيلية لقرارات مجلس الأمن الدولي رقم 520 و425، وثمانية قرارات أخرى أصدرها مجلس الأمن تطالب بالانسحاب الإسرائيلي، سنجد أن كل هذه القرارات لم تصدر، بسبب استخدام أمريكا لحق الفيتو ضدها.
كل ذلك يثير الكثير من التساؤلات، حول مصداقية المشاعر الحميمية وإخلاص الولايات المتحدة لحق الشعب اللبناني في حكم نفسه، ومصداقيتها في الحديث عن الوجود السوري في كافة وسائل الإعلام والدعاية الأمريكية، وهدفها من شن حملة ضد سوريا لتحميلها مسؤولية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في شباط 2005.
رغم أن إدارة بوش عبرت عن حماسها ودعمها لكل التحركات المعادية لسوريا في لبنان مؤخراً، فإن جهود الإدارة الأمريكية تصور نفسها على أنها بطل الحرية والسيادة اللبنانية، وهو أمر لا مصداقية ولا موثوقية له، وذلك إذا قرأنا دور هذه الإدارة الحالي، على خلفية الممارسات الأمريكية إزاء لبنان، طوال نصف القرن الماضي، والتي تؤكد بأن الولايات المتحدة مثلها مثل فرنسا وإسرائيل، تعمل دائماً لاستغلال لبنان لخدمة مصالحها الاستراتيجية على حساب أرواح وممتلكات اللبنانيين. وتقول النتيجة إن المشاعر المعادية لأمريكا في لبنان وكافة أنحاء العالم العربي، ستتغير فقط عندما تكف الولايات المتحدة عن تطبيق سياسة المعايير المزدوجة والانحياز الأعمى لإسرائيل.
الجمل: قسم الترجمة
الكاتب: ستبفان زونيس
المصدر: فبيف ريبور
إضافة تعليق جديد