الحرب حطّمت الدير إلا ربع: مخطط تنظيمي جديد سيحتوي كل شيء إلا دير الزور
أية دير الزور تلك التي لا عصمان بيك فيها ولا حج رزوق وحمود العبد وحسون وعيد الصياح؟.
وفوق ذلك بلا منديل الأسعد، ومعجوم المدلج، وفرحان فياض، وهادي الهدهد، وحتى بلا فنوش العبد؟..
مرّ عامان على خروج دير الزور من الحرب، لكن المدينة لم تعد كما هي في ذاكرة أبنائها الذين يتقاسمهم الشتات بين الداخل ودول الجوار، ولسان حالهم يقول: “لن نعود قبل أن تعود الدير ديراً”.
“المعلق” خارج الخطط
ما تزال المدينة معزولة عن الضفة الشرقية لنهر الفرات، ذلك أن الحرب حطمت الجسور وأولها أيقونة دير الزور: الجسر المعلق.
تقول حكايا الديريين إن قواعد “المعلق” الإسمنتية لا تزال تحتفظ بجثامين عدد من العمال الذين وظفتهم الشركة الفرنسية في عمليات بنائه (بدأت في العام 1925 وانتهت في آذار من العام 1931)، وهو مؤلف من أربع ركائز حجرية، بارتفاع 36 متراً للواحدة، ويبلغ طول الجسر 450 متراً، وبعرض 4 أمتار، وظل مستخدماً للسيارات إلى العام 1980، وهو تاريخ افتتاح “جسر السياسية”، والأخير سيكون أول الجسور العائدة إلى الحياة في دير الزور، إذ أن حجم الدمار في جسمه لم يتجاوز 50%.
و”المعلق” هو أهم المحاور الرابطة بين ضفتي نهر الفرات في المحافظة، كما إنه المكان الذي اعتاد أن يسهر عليه الديريون، طيلة الليل مع عوائلهم في فصل الصيف، لتناول كأس من الشاي بانتظار أن “تغمز السنارة”، التي يتدلى خيطها من أعلى الجسر إلى الفرات.
لا تزال ذكريات الديريين معلقة على “المعلق”. يروي الحاج أبو مازن، الذي ولد بعيد افتتاح الجسر بسنتين، إن الكهرباء وصلت إلى المعلق في العام 1947، وقد أخذت الركائز لونها الأصفر خلال العام 1955، وهو العام نفسه الذي قامت فيه بلدية دير الزور بتركيب أضواء ملونة على السطح السفلي للجسر لتنعكس ألوانها على مياه نهر الفرات، ما أضاف جمالية بصرية للجسر والمدينة، ويقول أبو مازن: “صورة عرسي في العام 1959 كانت على الجسر المعلق، حينها ركبنا الحنتور إلى الجسر أنا وزوجتي، وكان المصور يتبعنا على دراجة هوائية، التقطنا مجموعة من الصور التذكارية قبل أن نتوجه إلى المنزل”.
حسب المعلومات القليلة المتوفرة، فإن الجسر المدمر منذ السنة الثالثة للحرب غير موضوع حالياً على لائحة إعادة الإعمار، ولم يتم حتى دراسة أضراره، علماً إن تكلفة إعادة إعمار الجسور في مدينة دير الزور تتطلب تدخلاً حكومياً لكونها تحتاج لموازنة أضخم بمرات من موازنة مجلس مدينة دير الزور ومجلس المحافظة معاً.
بتجوالك قرب الجسر ستسأل من يرافقك: “وين الكورنيش؟!”، وسيشير هو إلى موقع في الغرب من “المعلق”، لترى حجم دمار هائل في المباني هناك، خاصة في حي “علي بك”، أو “العرضي”، الذي يعد إليه إلا القليل من سكانه، وبحسب المعلومات فإن “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” سيعمل خلال شهر أو اثنين على البدء بإعادة تأهيل المنطقة التي كانت مكاناً لإقامة “سوق التسوق”، طيلة النصف الثاني من فصل الصيف من كل عام، والتي كانت تؤمن احتياجات المدينة وسهراتها طيلة الليل، فـ “الدير لا تنام”، كما يقول سكانها..
قلب المدينة المحترق
الدخول إلى حي “الرشدية”، يعني الوصول إلى قلب “الدير العتيق”، إذ إن هذا الحي الذي بناه المتصرف العثماني “محمد راشد باشا”، كان يحتوي على “مرفأ نهري”، مقابل “فندق السعيد”، ينقل البضائع بين ضفتي النهر، وإلى المدن الواقعة بالريف الشرقي، كما أن الحي يروي فصلاً مهماً من تاريخ “الدير”، ففيه نشأت دور السينما مجاورة لدور العبادة، فإلى جانب كنائس “الكبوشية، الوحدة، القديس يوسف، السريان، الأرمن”، وعدد كبير من المساجد، كان هناك أيضاً “سينما فؤاد”، التي بقيت إلى ما قبل الحرب كـ “دار وحيدة عاملة في المدينة”، وسينما القاهرة ـ الكندي”، إضافة إلى اثنتين من دور السينما الصيفية (المكشوفة)، وهي “سينما فؤاد الصيفية” و”سينما الشرق”. تتذكر السيدة منى بقجه جي، التي هجرت دير الزور منذ سنوات، طقوس السينما في المدينة، وتتحدث عن الفتيات اللواتي كن يتجمعن لحضور أفلام أسمهان ونجاة الصغيرة وعبد الحليم بعد الخروج من الثانوية، وتقول: “كانت الميني جوب (التنورة القصيرة)، واحدة من الأزياء الدارجة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، إلا أن حال المدينة بدأ بالتبدل في مرحلة الثمانينات، وكانت العباية الديرية زي كثير الاستخدام من قبل النساء الأكبر سناً”. وفي زيارتها الأخيرة لدير الزور فقد رأت الكثير من ذاكرتها مدمرة، لتعود إلى منزلها وتبحث عن “ألبوم الصور”، وتقارن بين ما رأته وبين ما حفظته الصور من ذاكرة الأماكن التي عاشت فيها.
في الرشدية، الذي يعد من أكثر الأماكن تضرراً بالحرب، ثمة منطقة كانت تعرف باسم “بقجة الباشا”، وفي هذه المنطقة، وفقاً للمرويات التاريخية، مكان بيت المتصرف العثماني، و”الكتابة خانة”، أو المكتبة الوطنية، وفيها نشأت أول حديقة عامة في دير الزور، والـ “بقجة الباشا”، وهي تسمية تركية تعني حديقة الباشا، اختفت قبل سنين طويلة، ليحل مكانها “مبنى البريد” ومجموعة من المباني الأخرى، التي قد تعود إلى وضعها الطبيعي ضمن المخطط التنظيمي الجديد الذي مازال قيد الدراسة.
شارع التكايا الذي يجاور الأسواق القديمة في مدينة دير الزور، يحوي على الكثير من الحكايا أيضاً، بنيت التكية الأولى في العام 1885 وهي “تكية الشيخ ويس”، وبناها الشيخ “أحمد العز النقشبندي”، أما الثانية فقد بنيت في العام 1886 من قبل الشيخ “أحمد الراوي”، وتعرف باسم “تكية الراوي”، في حين أن التكية الثالثة التي بناها الشيخ “أحمد النقشبندي الصغير” في العام 1906 كانت تعرف باسم “تكية الشيخ عبد الله”، وفي هذا الشارع نشأت أول ثانوية للبنات في دير الزور وتعرف باسم “ثانوية البنات الأولى”، والتي افتتحت في العام 1924، لكن اليوم لم يبق شيء من هذا الشارع، سوى الاسم وأكوام الركام.
أكثر ما يثير القلق هو الأسواق القديمة في المدينة، فالإهمال مازال يلف هذه الأسواق التي بنيت في دير الزور في أواخر العام 1865، على يد خليل بك ثاقب الأورفلي، المعين من قبل السلطان العثماني آنذاك كـ “قائمقام الدير”، واستقدم حينها عمالا ومهنيين من “أورفا” التركية، لينشئ “السرايا القديمة”، التي كانت تضم مبنى قيادة الشرطة ومتحف التقاليد الشعبية والبوابة العثمانية ومقهى السرايا، وعلى يد البنائين أنفسهم نشأ “السوق الميري”، أو “السوق الحكومي”، الذي يعد أول الأسواق التي بنيت في دير الزور، ليتبعه “السوق المقبي” (المسقوف)، والذي كان يضم سبعة أسواق هي “العطارين، الحدادين، الخشابين (النجارة)، الحبوب، الحبال (لبيع الخيام وبيوت الشعر وكل لوازم البدو والريف)، سوق خلوف”، والأخير يختص بتجارة الأقمشة والصوف والقطن والسمن العربي، وهذه الأسواق مستملكة من قبل مجلس مدينة دير الزور، وفقاً لقانون الاستملاك الصادر في العام 1980، إلا أن المحلات أبقيت بيد أصحابها الأصليين لكونها المورد الأساسي الذي كانوا يعتمدون عليه في معيشتهم، وما بقي من هذا السوق لم يذهب نحو إعادة التأهيل بعد، وفي هذا الإطار ينفي رئيس مجلس بلدية دير الزور، رائد المنديل، مخاوف الأهالي من توجه الحكومة نحو إزالة هذه الأسواق نهائياً في مخططها التنظيمي الجديد لدير الزور، مؤكداً أن الحفاظ على المباني الأثرية وخاصة منطقة “السوق المقبي”، ستكون من أولويات الخطط التي ستوضع لإعادة إعمار المدينة وتأهيلها.
بين المقاهي والجراديق.. والدواوين
خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي، تزايدت المقاهي في مدينة دير الزور، ويعد مقهى “عصمان بيك”، من أشهر مقاهي المدينة، وما أن تقف أمام ركام المبنى الذي لا يعرف السكان المحليون متى أكلته الحرب تحديداً، يبدأ كبار السن بقص الحكايا عن عصمان بيك الذي عاش بين عامي 1895 و1981، والذي كان له منزل قريب من المقهى الذي يملكه، فالرجل الذي يقص كبار السن الكثير من القصص عن قوته، هو أول من ركب سيارة خاصة في المدينة، وأول من استقدم بذور الملوخية من مصر لزراعتها في دير الزور على ضفة الفرات، ولشدة حب الناس لهذا الرجل وكرمه، يقولون إنه كان إذا ما خرج إلى الصيد وصادف ساقية للماء، حمل سيارته إلى ضفتها الأخرى ليتابع الرحلة، لكن اليوم لا وجود لمنزل عصمان بك ولا لمقهاه.
إلى ما قبل الحرب كانت المدينة تحتوي على 48 مقهى وناد ثقافي واحد، وقد كانت النوادي الثقافية، قبل ذلك، عديدة مثل “نادي الفرات” الناشئ في عام 1933، و”نادي الجراح” في عام 1933 وصدرت عنه جريدة الفرات في العام 1942، و”البيت الثقافي” عام 1944، و”النادي الثقافي” في العام 1944 وأغلق مرتين من قبل حكومة الانتداب آنذاك وصدرت عنه مجلة الثقافة، و”رابطة الكواكبي” في العام 1954، “رابطة الوعي” في العام 1963، “نادي ابن خلدون” في العام 1963.
لم تعد “الجراديق” إلى الحياة بعد، التجوال على ضفة نهر الفرات اليوم يثير الكثير من الذكريات لدى أبناء المدينة، وإن سألت أياً منهم كالسيد برهان عبد الوهاب، لقال لك: “في الجرداق كنا ندفع على عدد الأطباق التي تنزل على الطاولة أياً كان محتواها، نأكل ونشرب بأسعار لا تقارن بأسعار المطاعم الأخرى في المدينة، ومن باب الممازحة كنا نخبئ بعض الأطباق قبل أن نطلب النادل لدفع الحساب، وما إن يكتشف ممازحتنا حتى يصر على ألا يأخذ ثمن الأطباق التي خبأناها، الكرم كان سمة عامة لدى أصحاب الجراديق”.
و”الجرادق” كلمة فارسية تعني السقيفة التي تبنى من أربعة أعمدة خشبية وتسقف بالخيزران، وكل الجراديق التي كانت في دير الزور مبنية على ضفة نهر الفرات وأشهرها “جرداق حج رزوق، جرداق حمود العبد، جرداق حسون، جرداق عيد الصياح..”، وكانت هذه الأماكن تعرف بأسماء أصحابها، حالها في ذلك حال “الدواوين”، التي كانت مضافات تفتح على مدار الساعة لاستقبال الغرباء عن مدينة دير الزور وتقديم واجب الضيافة لهم، إضافة لكونها دار لحل المشاكل بوساطة عشائرية، ومنها دواوين كل من “منديل الأسعد، معجوم المدلج، فرحان فياض، هادي الهدهد، فنوش العبد”، وإذا ما عرفت كل هذا وأنت تجول في المدينة المدمرة، فمن الطبيعي أن تتحسر على مدينة الخير التي تؤكد المعلومات إن المخطط التنظيمي الجديد سيبتلع كل ذاكرتها، رغم نفي المسؤولين الحكوميين.
نبض المدينة.. إلا ربع
الشارع الأكثر شهرة في مدينة دير الزور، كان يعرف باسم “ستة إلا ربع”، وهناك روايات عدة في سبب التسمية، فبعض سكان المدينة يقول إن الشارع يبلغ عرضه 5،75 متر، أي: “ستة إلا ربع”، في حين إن بقية شوارع المدينة تبلغ ستة أمتار، والبعض الآخر يقول إن كثرة الصبايا الفاتنات في الشارع يجعل من عقول الشبان “ستة إلا ربع”، في تعبير يراد منه ذهاب العقل، كما يراد به أن نظر الشبان يصبح قاصراً حين التحديق بالمارات، فيصبح “ست درجات إلا ربع”، ويقول البعض إن الشارع يزدحم في الساعة السادسة إلا ربع صباحاً بـ “بائعات اللبن والحليب”، اللواتي يقصدن المدينة باكراً قادمات من الريف، فيما يزدحم في التوقيت نفسه مساء بالمتسوقين.. وأياً كان سبب التسمية، فلم يبق من هذا الشارع إلا الذكرى التي لا تجد هنا جدراناً كافية لتعلق صورها.
في الشارع، أيضاً، ثمة مقام أو بقية مقام للشيخ “أبو عابد”، وهو محمد السائح بن عبد الله الحسيني، ولقب الشيخ الذي عاش بين 728 ـ 794 م، بالسائح، نتيجة لرحلاته الدعوية التي بدأها مع دخول المغول إلى بغداد، ليزور الجزيرة العربية واليمن ومصر، وانتهى به المطاف في دير الزور، التي حاولت الفصائل المسلحة التي تعاقبت عليها أن تقوم بإتلاف مقامه لكن الأمر كان صعباً نتيجة لطبيعة البناء، فاكتفت بحرق الأبنية دون نبش المقابر التي تعود لـ “أبو عابد”، ومجموعة من تلاميذه.
رئيس مجلس مدينة دير الزور، رائد منديل، أكد في حديثه لـ “الأيام”، أن إعادة تأهيل الشارع الأكثر شهرة في دير الزور ستتم في مرحلة قريبة من خلال التعاون مع منظمة “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي”، فمن المقرر أن يكون هذا التعاون شاملاً لـ “ستة إلا ربع”، وشارع “حسن الطه”، كجزء من الاتفاق المعمول على تنفيذه حالياً في “شارع سينما فؤاد”، ويقع على عاتق مجلس المدينة تأهيل المرافق العامة في هذه الشوارع، وتجهيز البنى التحتية، فيما يعمل البرنامج الأممي على إزالة الأنقاض وإعادة تأهيل الممتلكات الخاصة، وربما سيكون على مديرية الأوقاف التدخل لصيانة “مقام أبو عابد”، الذي يزوره الناس اليوم برغم صعوبة الوصول إليه.
لا يقبل سكان المدينة أن تكون دير الزور خالية من “ستة إلا ربع”، حتى ولو مؤقتا، الأمر الذي دفعهم لإطلاق مسمى “عطرة إلا ربع” على شارع “عطرة”، في منطقة “الجورة”، بالطرف الغربي من دير الزور، والذي تحول إلى أحد أبرز الأسواق التجارية في المدينة خلال سنتين تلت فك الحصار.
همساً..!
يهمس بعض السكان عن “مخطط تنظيمي جديد لا دير عتيق فيه، ولا شارع التكايا، ولا ستة إلا ربع”، إلا أن المعلومات التي حصلت عليها “الأيام”، تقول إنه تم إنجاز مرحلتين من المخطط، الذي مازال قيد الإعداد، الأولى قيمت الأضرار ودرست وضع البنى التحتية في دير الزور، والثانية وضعت التصورات الأولية للمخطط التنظيمي، لكن المرحلة الثالثة، المعنية بالتصور النهائي والحلول والبدائل التي يجب تنفيذها للمدينة لتعود بصورة حضارية، لم تنته بعد.
الأيام
إضافة تعليق جديد