الدراما التلفزيونية السورية أفول الفانتازيا التاريخية وحلول البداوة
غمرنا الكتبة الدراميون السوريون الأحباء بكم هائل من مسلسلات نهلت من التاريخ خيالاً ليس من الصدق في شيء. الصدق الذي هو باب الفن على الحقيقة والحقيقة على الإبداع. لا الورق المطبوع صحافة ولا الصورة المبثوثة فضاء كانا عوناً للفكر أو المخيلة. مؤخراً، من قبل ومن بعد، دمجت (الثورة) في (تشرين) مزجاً أين منه مزج زيت بالماء! خيال التلفزيون كخيال وتوافقات الكتب المدرسية ـ هو خيالنا الصحفي فلا فرق ـ التي يلزم فيها التلاميذ على تحفظ وتعلم وتذكر واستيعاب مبادئ الحزب ومنطلقاته النظرية ومحطاته النضالية. لكل مرحلة اسم ومعنى وتاريخ وحوادث وشخصيات ومهمات ونتائج. والمسلسلات على هذه التراتبية المحصنة الدقيقة تصنف وفق مزاج من وضع التواريخ والدروس والأحداث والنماذج. على الدراما أيضاً أن تستوعب (الحالة التاريخية السورية)، عليها أن تفي بواجبها تجاه الفكر الشمولي والنضال القومي. تناولت تلك المهازل الصورية تاريخ النضال ضد العثمانيين ـ توقف عندهم النضال، وبسببهم تأخرت نهضة الأمة ـ ثم ضد الفرنسيين ـ اللذين شوهوا تاريخنا ونهبوا ثرواتنا، لكننا هزمناهم شر هزيمة ـ ثم ضد الفراغ في الجغرافيا وفي الزمان بعد أن حولتهما قدرات أب الفانتازيا التاريخية السورية (المخرج نجدت أنزور مثالاً والكاتب هاني السعدي مع الكاتب قمر الزمان علوش مثالين اثنين) إلى صور مشعشعة ماصة كالاسفنج، وضخامات مشهدية مرسلة على اعتباط وارتجال سفَّهَا العينَ التي – مع ثراء مدوخ كهذا ـ لا تحتاج ذاكرة ولا فكراً، جدلاً ولا رفضاً. لا ننسى – في هذا المقام المستعاد على عجل ـ كمّ من الآهات سيلت وقيلت على القضية الفلسطينية، فنحن منذ نعومة أظفارنا نعرف، بالصورة والكلمة والتاريخ رقماً،عن القدس ما لا نعرف عن دمشق، وعن غزة ما لا نعرف عن حوران أو جبل العرب (جبل الدروز)، ونعرف عن أحداث نابلس وغزة ما لا داعي لمعرفته عن أحوال القامشلي النائية. الخيال السوري في الدراما التلفزيونية ـ لا يختلف أمره في معظم ما أنتج من أفلام بعون وصدقات الدولة الراعية الحانة على المؤسسة العامة للسينما السعيدة بتمكنها من تدويل مهرجانها السينمائي، في وقت يجهل معظم السوريين مجرد إحساس الدخول إلى قاعة سينما ـ غدت تلك الدراما نوعاً من الذكرى، فالحمولة نفدت والخيال استهلك حد اليباس، وعلى الذكاء المسلي التجاري ـ عوناً وصديقاً للذكاء السياسي ـ أن يعثر على حمل جديد ووهم تال، فإذا بدمشق العريقة المحافظة المنزهة تكشف عن معين لا ينضب وحارات لا تنتهي حكايا نسوانها وبياعتها وزعمائها (العكيدون المحافظون الجدد). على هذا الحال كان من (باب الحارة)، مثلاً، ثلاثة أجزاء. مروراً بـ(الحصرم الشامي) في جزءين يليهما ما قد يليهما، وعطفاً على (بيت جدي)، (أهل الراية) و(لك يا شام), بعد سنوات من إنجاز هاني الروماني لـ(حمام القيشاني الذي أرّخ ـ كما من قبل أرخت الكتب على هدي الفكر السائد ـ لتحولات السلطة ومطبات الأحزاب وانقلابات العسكر في دمشق وجوارها القريب المحصن دون أن يمس السلطة ولا الأحزاب ولا العسكر في شيء)..إلخ. مع التنويه بتفريع الحارة على البداوة والبداوة على الرؤية الجديدة. فالحارة والبداوة مسلسلات متناسلات ـ وفق أحدث ابتكاراتنا المحلية الموضوعية ـ تتضامن وتنسجم، إذ لا مفر من الانسجام الإلزامي، حتى في حارة ليس لها من مشاكل عدا ثرثرات الباعة الصغار والأزقة النظيفة وساحات الدور المفتوحة على السماء والملطفة بالمآدب والأعراس والموالد المحمدية وحفلات الختان وقعدات الشاي ومجالس القهوات. لا مفر من التضامن عوناً وتأييداً على كل حال. ثم إنها – أي الحارات المحصنات الجميلات ـ من الأصالة والشهامة والتعفف بحيث إن لا غلطة دون عقاب، ولا جفاء دون وئام، ولا فقير دون معين. ثمة دائماً حل ومنفذ وثمة دائماً السند والأخ والزعيم والشيخ. النماذج كاملة إذ لا شخصيات تتعذب أو تخسر أو ترفض أو تشذّ، لا نماذج غريبة أو مريضة أو رافضة، فالنماذج لا تعرف الأفراد قدر ما تعرف السمات العامة الواضحة، ولا تعرف الوجوه المختبئة أو المنسية قدر ما تعرف الألفاظ التي يمكن بها إفحام كل نظرة وكل وجهة، ولا تعرف من الأشياء عزوفها وتحولاته السرية قدر ما تتبجح بكلماتها عن كل شيء. الوقت يرن مثل معصم العروس يشع، والأمثال، كالأفكار المستقرة، على قارعة الطريق. لم يفكر أحد بأن فتاة قتلت بسبب زواجها من طائفة أخرى، لم يفكر أحد أو يتذكر أن أخرى انتحرت، لأن صورها بثت بالبلوتوث، لا أحد يجادل في خصوص القانون ( المادة 192 من قانون العقوبات السوري) الذي يبيح أو يتهاون حد الإباحة على القتل بدافع الشرف؛ فالحارة لا تعرف البلوتوث قط، وليس لها من مشاكل مع طوائفها المجاورة، ودفاعها عن الشرف يماثل أحقية دفاعها عن الأرض. الكل يشي بالكل، الكل يشبه الكل، بل هي المفردة الواحدة بصيغ جمعها الكثيرة، إذ لا مفرد هنا قط سوى في تشميله وإسكاته وتذويبه بالجمعي المنصور بيد الشعب؛ ثمة الروح التي لا تعرف المرض، روح الحارة الوارفة المرفرفة، ثمة الروح الوطنية الجبارة المقدامة، ولا أحد يمكنه إنكار الروح، فهي روح ومن يمكنه مجادلة روح بهذه الشفافية وهذا الجلاء؟! الياسمين برهان، الغناء الحماسي اللفظي برهان: (يا أهل الطيبة والنخوة والشرف والشهامة / ننسى الأيام الصعبة، بالمحبة نلم جراحنا/ والدنيه تضحك لما بنزين أفراحنا /ورد بتحرق نارنجي.. أحلى الأسامي/ زينة الحارة فرجة بالياسمين الشامي)، وردة الجوري برهان، بياع الفول برهان، الحارس الليلي برهان، والبرهان الأوحد الأشمل هو الزعيم العكيد النبيه الشجاع! من نحن وماذا كنا في السالف الذي لا يمكن لأي آخر ـ أياً كان ـ أن يرفضه أو يقيمه على ميزان آخر. أما من غريب في هذه البلاد، أما من شبح، أما من لكنة أجنبي، أما من سكير أو هاذٍ؟ أما من أحد يكفر أو يجادل أو يشذ؟ وبسبب ضآلة مساحة الاختيار الممكن، إن لم نقل بسبب توافق الميل النفعي الرخيص مع الرقابة وتضييق التعبير المسموح ـ سواء فيما كان من عهد التاريخ أو مما يكون وينشأ (ويحدث) في الحاضر ـ اتجهت وارتضت الحياة الدرامية التلفزيونية ـ بكتابها وممثليها ومخرجيها نجوماً ومبدعين مكرمين. سيقال إنهم أخلصوا (للحالة التاريخية). والإخلاص في الفن باب ركيك وطيع ومطلوب من أبواب الثناء على منجزات الدراما التلفزيونية من جهة الأخلاق لا من جهة الخلق. وإننا نشك في الإخلاص قدر شكنا وخشيتنا وخيبتنا من التضامن والأخلاق. هذا إذا استثنينا مسلسل أسمهان (أخرجه التونسي شوقي الماجري)، الذي تدبر علوش أمر توفيقه وتشذيبه وتهذيبه وعدم خدشه لأسس الرقابة الرسمية السورية والعائلية الدرزية وكذا مسلسل ليس سراباً الذي ظهر فيه للمرة الأولى ربما ـ حسب متابعتنا المتواضعة ـ حضور المسيحيين، عدا المنع الكلي والدائم لحضور الأكراد بالطبع والدراية التي تجعل من النسيج الوطني السوري وطنياً بامتياز خلوه من الكردي كلمة وصورة، فإن قدرة دمشق القديمة المحصنة على الاستحواذ والضم والتسلط تزداد عاماً بعد عام على فضـاء الصــور ومعها على فضاء القرى والمدن في آن.
مقارنات
من وجه آخر لا يمكن مقارنة باب الحارة بـ(ليالي الحلمية) ولا حمام القيشاني بـ(زيزينيا) الاسكندرية؛ ألفهما أسامة عكاشة. الحارة والحمام حكايات عن دمشق البعيدة والقريبة محصورة بضيق مكاني واجتماعي وسياسي، إنها من مادة الحكي الذي لا يعرف ضبطاً ولا وقفاً عدا النقل والخبر والتكرار بين الأخبار والحوادث منتقاة معقمة ومتشابهة، بين المنازل والحوانيت والمقاهي في دوائر لا تعرف التجاوز ولا الاختلاف. لا غريب ولا زائر ولا ضيف، وإذا كان من اتصال فهو (مع الثوار في فلسطين)! والصورة على ذي الحال تتحول إلى صوت خطابة مرئية، إنها تخدم الصوت ناقلاً بلا تبئير ولا حرف. وأنت ترى كأنك تسمع، وتسمع من لم يختبر من الحكاية سوى صوتها الواحد اليتيم. عين لا تتذكر ولا تحن ولا تخلع قدر ما تسجل وتتغافى وتتناسى، وصوت لا يفكر ولا يثور ولا يجرح قدر ما يستعيد أو يتغنى أو يثرثر؛ ليته كان يثرثر وحسب. أما الليالي ـ بطولة يحيى الفخراني وصلاح السعدني وصفية العمري وهشام سليم ـ فشكلت سجلاً موثقاً وزاخراً بأحوال مصر متنوعة ومختلطة بين الساسة والمجتمع، بين الريف والمدينة، بين الطمع والطموح، بين العائلة وتحولات الزمن القدرية المرة. كانت المقابل الصوري والتمثيلي والفني الأكثر قرباً ووفاء وتناولاً لعقود طويلة من التغيرات والتبدلات في بيئة خصبة ولودة ومتشابكة، وهي تذكر بقرابات محفوظ الحميمة والذكية من الحارة والمقهى وعالم الموظفين والسياسيين. الحوار الليالي والاسكندري لا يخلو من الفطنة والجرأة والعادية والنخبوية والتعدد، إنه يتوازى مع الذوق العام ويضيء الأقل الصامت والطائف المنعزل والوحيد الدرويش في آن. الحوار الذي يمسك الليالي ويسلسلها يأتي من الأدب والدراية والحرص والخيال قدر ما ينشئ ويرفع من وقائع هي مزيج من الخيال والحقيقة دون غلبة ودون توزيع آلي. ينطلق باب الحارة، مثالاً، من الضيق ويمكث فيه، ضيق المكان وضيق الثقافة معاً. ثمة لدى مجمل الدراما السورية التلفزيونية هذا التأبيد للحظة أو حدث أو حكاية تظل تنسخ وتتوارث وجوهها الألف بلا توقف ولا ارتداد ولا تبديل. لذلك ربما هو وزر وزور الجنوح الصوتي المنفر والحماسة العليلة المسهبة تعويضاً عن جمود الصورة ورتقاً لخيال بلا شساعة لم تجد خصوبة حوار وسرد يمكن للصورة معها أن تتزود وتتمعق وتهاجر وتحفر بلا إعاقة ولا تكلف ولا اجترار. صورة لا تسأل قدر ما تنقل، ولا تجادل أو تحاكم قدر ما تغري وتهادن، لا تتغرب قدر ما تتآلف، لا ترى قدر ما تصوت. إنها ابنة انسجامها الخاضع وأسبقية الفكر الجامد والمحاصر بتفضيل تعطيل الأعمال على خلقها، مراقبتها على رعايتها، وترويجها المرخص على تمردها، ونجاحها الجماهيري على ممانعتها الفنية إن لم نقل نفورها عن الذوق العام. ربما لأن كاتباً مثل أسامة أنور عكاشة جاء من الأدب والرواية ولم يأت من الوظيفة التنفعية ولا المؤسسة الحكومية. مع عكاشة يمكنك تذكر حوار ولو صغير ونافل عن لوتريامون أو ريلكه أو كافافيس، فيما من تكن الحارة حدوده والباب رجاءه وليله معاً لا يعرف أن بالقرب من سفح قاسيون قبر الشيخ محيي الدين ابن عربي، أو أن شخصية مثل بازوليني قدّم دمشق في بداية السبعينيات، وعرض فيلماً بسينما الكندي بعد أن صوره في قلعة سمعان، حيث خاطب سمعان العامودي الناسك المعلق بين السماء والأرض (هل من مكان لترقد عظامي جنب عظامك؟). والحال أن الوهم وحده سيدنا وممدوحنا المحلي، الحال أننا أبناء الحارة ولا يبدو أننا غادرناها قط، ولن نرفع عيناً فوق بابها المغلق. لكن بعون الشاعر: (افتح الباب، ثمة هواء على الأقل). ربما علينا نسيان الصورة، فالتصوير انتهى، ربما علينا العودة إلى الأذن، إلى محمد عبد الكريم مثلاً أو سيد درويش.
علي جازو
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد