الدرس الموريتاني والتغني بديمقراطية تختزل الحرية بصندوق اقتراع
الجمل ـ د. ثائر دوري : بعد نكبة حزيران كتب الشاعر الكبير سليمان العيسى ( أمد الله في عمره ) قصيدة يقول في أحد أبياتها :
أطلي علينا وحدة طيف وحدة بريقاً سراباً كيفما شئت فاقدمي
لست هنا بواردة إجراء محاكمة عقلانية لما ورد بهذه القصيدة . لكن بسهولة يمكن قراءة حالة اليأس التي تسيطر على الكاتب و مدى إحساسه بالفجيعة و الخيبة مما حل بأمته ، و هذه الأحاسيس لم تكن تخص الشاعر وحده بل كانت مشاعر عامة ، فالشاعر هنا يعبر عن حالة عامة سادت في المجتمع بعد هزيمة حزيران التي حطمت الآمال الكبيرة الواعدة التي كان يتغنى بها المشروع القومي و على رأسها الوحدة، و التي تأخر تحققها ،و عندما تحققت بين سوريا و مصر فشلت خلال زمان قياسي . لذلك فهو يتطلع إليها كسراب و ينتظرها كانتظار المهدي المخلص في العقائد الدينية . فهو لا يدقق لا بالمحتوى و لا بالمضمون لأنه
يريد أي شيء يحمل اسم الوحدة ، ففي جو من الهزائم و الانهيارات التي تلت هزيمة حزيران باتت الوحدة هي الحل السحري لكل شيء لذلك يجب أن تأتي بأية طريقة "وحدة ، طيف وحدة، بريقاً سراباً " .....
بالطبع لا يمكن لإنسان في ظروف طبيعية أن يفكر بهذه الطريقة ، فالوحدة لها شروطها ، كما أن لها وظائفها الإنسانية و التقدمية، و إلا لماذا رفض المجتمع العربي السوري في خمسينيات القرن الماضي ببسطائه و بنخبه الوطنية مشروع الوحدة الرجعي بين سوريا و العراق و المسمى مشروع الهلال الخصيب ، الذي كان نوري السعيد يسعى عبره للإتحاد بسوريا تحت العرش الهاشمي و برعاية بريطانية . فلم يكن أبداً المطلوب وحدة أي وحدة ، بل المطلوب وحدة بوظائف إنسانية تقدمية تحرر الإنسان و تعيد للأمة وظائفها التاريخية الإنسانية في المجتمع البشري المعاصر .
أثناء نقاشات طويلة مع شرائح مختلفة التوجهات الفكرية و السياسية حول قضية الديمقراطية كنت أتذكر على الدوام قصيدة الشاعر سليمان العيسى . لأني أكتشف أن غالبية النخب الفكرية و السياسية ما زالوا يفكرون بنفس الطريقة السابقة ، لكن بدل الوحدة أحلوا الديمقراطية ، و كأن أحدهم ينشد بيت شعر سليمان العيسى ، فيقول :
اطلي علينا ديمقراطية طيف ديمقراطية بريقاً سرابا كيفما شئت فاقدمي .
ما يهم في نهاية الأمر هو أن تكون هناك عملية اقتراع بغض النظر عن الشروط المحيطة بهذه العملية ،و عن إمكانية التغيير التي ستنجم عن هذه العملية ، و عن القوى الخفية التي تحركها . و قد رأينا بعض المثقفين يشيد بالتجربة الديمقراطية تحت حراب الاحتلال الأمريكي في العراق . و لسان حالهم يقول ألم يذهب الناس إلى صناديق الاقتراع و ينتخبوا ممثليهم بحريتهم ، و تختزل الحرية هنا إلى حرية إلقاء الورقة في صناديق الاقتراع بغض النظر عن الجندي الأمريكي الذي يحرس صندوق الاقتراع ،و بغض النظر عن تهديد الناس بلقمة عيشها عبر البطاقة التموينة ...... و ضمن نفس النسق الفكري حظيت تجربة "التغيير الديمقراطي "في موريتانيا بتقييم عال بين النخب العربية ، و بعض هذه النخب رصين و جدي . مع أن ما جرى في موريتانيا هو انقلاب داخل القصر تم بموافقة القوى الدولية المسيطرة على العالم ( أي أمريكا ) بعد أن استشعرت هذه القوى أن الأمور في موريتانيا ، نتيجة الاحتقان السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي ، تسير عبر مسارات قد لا يمكن التنبؤ بنهايتها ، أو لا يمكن السيطرة عليها . فقد سبق انقلاب القصر الناجح انقلاب ثوري حقيقي أفشلته القوى الغربية التي أيدت الانقلاب الثاني . و هذا النموذج من تناوب الدكتاتوريات العسكرية الصريحة مع ديمقراطيات برلمانية كسيحة لا تقدر على تغيير شيء في المجتمع نموذج معروف في أمريكا اللاتينية فقد ظل سائداً تحت رعاية الولايات المتحدة لمدة تزيد عن قرن و نصف . فأمريكا كانت تدعم الدكتاتوريات حتى تستنفذ
أغراضها فتشجع قيام نظام برلماني سرعان ما يخيب آمال الناس فتعيد الدكتاتوريات إلى الواجهة ، و عندما أفلتت الأمور من يدها في حالة سلفادور الليندي في تشيلي فعلت به و بتجربته الديمقراطية ما فعلت . أما في حالة كاسترو و شافيز فقد حاولت إلحاقهم بسلفادور و ما زالت تحاول إلا أنها فشلت . و مع كل هذه التجارب التاريخية يصر بعض المثقفين على إعادة اكتشاف البارود .
بالنسبة لي لا يمكنني أن أقبل بوحدة أي وحدة ، و لا يمكنني أن أقبل بديمقراطية أي ديمقراطية . فلقد تحررت من سحر الكلمات و صرت أدقق بوظائف الأشياء و بجوهرها بغض النظر عن مسمياتها . فكم من أشياء سميت بأسماء لا علاقة لها بجوهرها ، بل إن بعض الأمور سميت على طريقة جورج أوريل بعكس وظيفتها ، فالحرية تعني العبودية ، و السلم يعني الحرب ، و التنمية تعني مزيداً من الفقر ، و الإصلاح الاقتصادي يعني تخريب ما تبقى سليماً من اقتصاد البلد ، و حرية التجارة تعني احتكارها من قبل حيتان صغيرة محلية و حيتان كبيرة دولية
.....الخ .
فالكلمات في النهاية كلمات لا تضر و لا تنفع ، و ما هي إلا أسماء سميتموها . لكن بعض البشر يصرون على عبادتها و السجود لها ، لأنهم يؤمنون بتأثيرها السحري و هذا سلوك قديم قدم البشرية .
الجمل
إضافة تعليق جديد