العرب على الشبكة العنكبوتية:«شم ولا تذوق»
تحقيق ـ سعاد جروس:عندما بدأت الإنترنت بالانتشار في عالمنا العربي، ظن كثيرون وبالأخص العاملين في حقول الرأي، والشأن العام، أنهم حققوا انتصاراً بالضربة القاضية على الرقابات، وأصبح بوسعهم التعبير عن آرائهم بمنتهى الحرية، والتواصل مع أي إنسان في أقاصي المعمورة دون حواجز أو معوقات. إلا أن هذا الانتصار لم يدم، ولم يكن سوى جولة أولى، تبعتها أخرى كانت فيها الغلبة للرقابات التي واكبت، وربما سبقت تطور وسائل الاتصال، وتمكنت من وضع اليد على الداخلين إلى الشبكة.
التقرير الثاني الذي أصدرته «المبادرة العربية» (www.openarab.net/reports) عن استخدام الإنترنت في العالم العربي، من إعداد الصحافي إيهاب الزلاقي والباحث القانوني جمال عيد وسالي سامي، لا يدعو إلى التفاؤل، ليس من جانب سوء استخدام الإنترنت، أو مخاطرها على أخلاق الشباب، وإنما لحجم الحجب والمنع الممارس في البلدان العربية على هذه الشبكة، التي تحولت الى مصيدة لوضع اليد على المعارضين والمشاغبين الذين يمثلون خطراً من وجهة نظر السلطات الحاكمة. ويبدو أنه كلما ازداد عدد المستخدمين، زاد عدد الواقعين تحت الرقابة المباشرة. وحسب آخر المعطيات فإن عدد المستخدمين للانترنت في البلاد العربية تضاعف خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ليقفز من نحو 14 مليون مستخدم في منتصف حزيران 2004، ليصل في نهايات عام 2006 إلى نحو 26 مليوناً. كما زاد عدد المواقع العربية، فهناك العشرات من المواقع التي تظهر يومياًُ، وبالسرعة ذاتها يتم أيضاً حجب العشرات منها أيضا.
غلبة المواقع الدينية، هذا ما يلحظه تقرير «المبادرة». فبين المواقع المائة الأكثر شيوعاً باللغة العربية، هناك عشرة مواقع متشددة. وهذا لا يرد الى اهتمامات المستخدمين العرب بقدر ما يعكس التوجهات السياسية للحكومات العربية، التي تُخضع المواقع السياسية والعلمانية والحقوقية.. للمنع. الاستشاري في تقنية المعلومات الأيهم الصالح يقول، إن النموذج الرقابي المطبق على الإنترنت هو ذاته المتبع في رقابة المطبوعات، وقد تطور هذا النموذج من الرقابة المسبقة إلى رقابة لاحقة، فيمكن للمستخدم نشر أو إرسال أي معلومات، ومن ثم يحاسب عليها.
وينوه التقرير إلى أن اجتماع وزراء الداخلية العرب في شباط 2006 بتونس، كشف عن توافق كامل بين الوزارات العربية فيما يخص حجب المواقع المشجعة على الإرهاب.
وتحت هذا البند يمكن أن يدرج كل ما تراه الحكومات معارضاً لسياستها، طالما لا يوجد تعريف محدد ومتفق عليه لماهية الإرهاب المقصود.
يضاف إلى الرقابة المحلية المفروضة، رقابة خارجية تحت الزعم ذاته، وللسبب نفسه؛ أي محاربة الإرهاب. وهكذا يجد المستخدم العربي الباحث عن فضاء أوسع يعبر فيه عن نفسه، من خلال التواصل مع الآخرين، انه واقع في أسر الشبكة والرقابة معاً. إلا أن الاستشاري التقني الأيهم الصالح يعتبر أن الرقابة «التجسس» على الإنترنت لا تحد من الحرية، وإنما تخرق الخصوصية، فكل مستخدم هو حر في نشر ما يشاء، رغم ان كل داخل إلى الشبكة يخضع للرصد؛ وهي حالة لا تستثني أحداً، وبموجبها يعتبر الرئيس جورج بوش مثله مثل أي مستخدم عادي.
يسجل تقرير المبادرة قائمة لسجناء الإنترنت في العالم العربي، وقد كانت غالبية الاتهامات الموجهة إليهم هي نشرهم مقالات على الشبكة، وغالبيتها نشرت في المواقع الإخبارية السياسية أو الحقوقية، وبوسعنا التقليل من جدوى حجبها، لأن محتواها يمكن أن يوجد في وسائط أخرى. لكن نبه الأيهم الى الخطورة التي تنطوي عليها عملية حجب المدونات الشخصية، فهناك موقع (بلوغزبات) محجوب في سوريا، ويحتوي على أكثر من خمسين مليون مدونة شخصية، أي خمسين مليون مصدر معلومات أصيلة غير متوفرة في وسائط أخرى!! ويعتبر أن الذي «اتخذ قرار الحجب، قد اتخذ قراراً بالتسبب بكارثة معرفية للمجتمع السوري». والكارثة هنا لا تقتصر على حجب كم هائل من المعلومات فقط، وإنما في منع المساهمة في بناء المعرفة الإنسانية.
العام الماضي أثارت مدونة سورية الكثير من الأقاويل والشائعات حول الأشخاص الذين يقفون خلفها، حيث اعتمدت على تركيب صور بشكل كاريكاتوري ساخر يوضح موقف المجموعة، من السلطة والمعارضة معاً. كما نشرت معلومات عما يتم تداوله في الجلسات الخاصة عن بعض الشخصيات المعروفة، وبعد فترة اختفت المدونة لبعض الوقت، وعادت من جديد لكن بدون محتوى، وقيل حينها أنه تم اكتشاف مجموعة من الشباب القائمين عليها. ولدى السؤال حول وجود أجهزة تقنية رقابية تتيح الوصول الى هوية المستخدم، شكك الأيهم في وجود هكذا تقنية، ورجح أنه غالباً يتم الوصول الى هؤلاء عن طريق التقارير الاستخباراتية العادية كالوشاية أو الثرثرة بين الأصدقاء. لكن الأمر بالنسبة للبريد الالكتروني مختلف، فهناك تسجيل لكل الرسائل، لكنه لا يجزم بوجود كادر يقرأ ويحلل كل المعلومات المسجلة، وبالتالي التجسس على البريد الالكتروني يشبه عملية التنصت على الهاتف. ويلفت النظر إلى وجود وسائل لحماية خصوصية مستخدم البريد الإلكتروني أهمها «التشفير» وهي تقنيات عالية، لكنها غير متاحة، لسببين: الأول وهو الأهم، قيام الولايات المتحدة الأميركية بمنع تصديرها لعدد من الدول بينها سوريا، إذ يتم استخدام تطبيقاتها في المؤسسات الحكومية والعسكرية الدولية والتي تحظى مراسلاتها بالسرية التامة.
وثانياً لأن الحكومات المحلية تحظر إرسال رسائل مشفرة، ومن يقوم بذلك معرض لتهمة خطيرة جداً وهي «التجسس». هذا ناهيك عن كون هندسة الشبكة في سوريا لا تتيح استخدام هذه التطبيقات العالية.
وعلى الرغم من التشدد والمنع الممارسين على الإنترنت في العالم العربي، باستثناء لبنان حيث تتمتع الإنترنت بحريات تكاد تكون كاملة، حسب تقرير «المبادرة العربية»، إلا أن الكثير من المراقبين يحذرون من تحديات كبرى فرضها دخولها الى المجتمعات العربية، لتكون أحد وسائط التواصل والاتصال والمعرفة المفروض توفرها في المنزل، إلى جانب التلفزيون والفيديو والهاتف والكتاب. تنطلق التحذيرات من أرقام تفيد بأن المراهقين والشباب هم الأكثر استخداماً لها، والغالبية تستخدمها للترفيه وتبديد الوقت بالتجوال في مواقع الدردشة والتسوق والنكات، والمواقع التي تقدم نغمات للموبايل ومقاطع بلوتوث. وتتركز التحذيرات على المواقع الإباحية لما تمثله من خطورة على الأخلاق. وهناك من يرى ان وضع مراقبة على دخول الإنترنت يحد من الانفتاح الكامل على العالم، فيما يدعو آخرون الحكومات إلى وضع استراتيجيات تربوية تحد من مخاطر الولوج الرقمي، والتوجه نحو استثمارها إيجابياً. انطلاقاً من هذه الخلفية، ظهرت عدة شركات من مزودي خدمة الإنترنت تعرض على زبائنها خدمة عائلية، تقوم على مبدأ «الفلترة»، فيتم منع الوصول الى المواقع التي تحتوي على المواد غير المرغوب فيها. ويرى (فاتح .ع) خريج كلية الآداب أن الإنترنت العائلية «المفلتر» تقدم حلاً آمناً للأسرة، وتشجع على الاشتراك فيه. فمن غير المقبول، بل ومن الخطير دخول طفل الى موقع جنسي والتعرض لصور فاضحة، أو حتى مواقع تنشر صور جرائم أو قتلى. مع أن فاتح كان منذ خمس سنوات يعد من بين مدمني الإنترنت ومن المواظبين على زيارة مواقع الدردشة والمواقع الإباحية، وقد أقام علاقات عاطفية عن طريق النت، وحاول التعرف على ما يدعى بالسايبر سكس «الجنس الافتراضي» لكن ذلك كان في مرحلة سابقة عانى خلالها من الفراغ بسبب البطالة، لكن منذ وجد عملاً، وكان بالمصادفة مرتبطاً بالإنترنت، حدد علاقته بالمواقع التي تفيده في مجال عمله فقط، وصار تردده على مواقع الترفيه نادراً، إذ لا وقت لديه كي يضيعه بالثرثرة والتعرف على آخرين غالباً يُعرفون عن أنفسهم بمعلومات كاذبة. يضحك فاتح وهو يتذكر أنه كان يكذب كالآخرين، ولم يذكر أي معلومة حقيقية عن نفسه، لأن «الصادق في الإنترنت يتعرض للبهدلة».
علي. ج يسخر من فكرة «الإنترنت العائلي» ويعتبر أن الحكومات العربية سبقت الشركات الى ذلك من خلال فلترتها الصارمة وحجبها لغالبية المواقع. ويتساءل، من الذي يحدد ما هو المفيد وما هو الضار، إنهم يخفون الشمس بإصبع! ولا يلقي اللوم على الشباب في ارتيادهم للمواقع الإباحية، وتبديد الوقت في مواقع الترفيه، ويُحمل المسؤولية لسياسة الحكومات التي تمنع المواقع الثقافية والفكرية التنويرية، فيما تطلق العنان للمواقع الغيبية والمتشددة، وكذلك المواقع التافهة والمواقع الجنسية في وقت يعاني فيه الشباب من نسبة بطالة كبيرة في مجتمعات مغلقة مصابة بأمراض اجتماعية متنوعة لا تتيح للفرد العيش بحرية وصدق مع الذات والمحيط، ولا تمنحه الفرصة ليمارس دوراً حقيقياً وفعالاً غير دور المستهلك السلبي لكل ما تستورده الحكومة. على هذه الخلفية، تكون الانترنت بمثابة الكوة الوحيدة التي تمكن من التفاعل الإيجابي مع العالم. ويعتبر علي أن الإقبال الشديد على الدردشة ومواقع التعارف والجنس دليل على تعطش حقيقي لدى الشباب العربي للتواصل مع بعضه ومع الآخر، وعلينا حين نتناول هذا الموضوع أن ننظر اليه من زاوية أبعد من زاوية الأخلاق.
الأيهم الصالح يكاد يتفق مع ما طرحه علي، لكنه يناقش الأمر علمياً، فالدردشة مهمة جداً للتواصل الاجتماعي وبناء العلاقات، ومواقع الألعاب عادة توفر العاباً ذهنية مفيدة، وفي ما يخص تهديد المواقع الإباحية للأخلاق. يُذكّر الأيهم بحساسية المجتمع الأوروبي المحافظ حيال الحرية الجنسية في بدايات القرن الماضي، ويعتقد أن «مجتمعنا يخوض معركة هي جزء من معركة تحرر ونضوج تبدأ في داخله».
لا شك أن الهالة التي رافقت دخول الانترنت الى مجتمعاتنا بدأت تتلاشى مع انتشارها، وبالتالي زالت الكثير من الأوهام حولها، لتبدأ بأخذ حدها الطبيعي، بالتحول الى مجرد وسيلة تلبي حاجات الناس، كل حسب ظروفه واهتماماته. مثلاً ماجد طالب هندسة الكترونية سنة أولى ومدمن انترنت، لكنه لا يدخل أي موقع لا يقدم له جديداً حول تخصصه. كذلك صديقه محمد الذي يمضي الوقت بمراسلة الجامعات الأجنبية أملاً بالحصول على قبول لمتابعة دراسته العليا. وعامر (25 عاما) تمكن من اقتناص فرصة للسفر الى ألمانيا عبر التواصل مع مجموعة تعنى بالشباب والعمل الأهلي.
فيما لا يزال رضوان (17 عاماً) وهو طالب ثانوي يواظب على مواقع الأغاني والنكات بحثاً عن طرائف يتبادلها مع الأصدقاء، بينما تركز أمه اهتمامها على مواقع المرأة والأسرة بحثاً عن وصفات للتنحيف والجمال وتفسير الأحلام ومتابعة الأبراج. أما لينا (18عاماً) طالبة ترجمة، فقد تمكنت من خلال مواقع الدردشة من إقامة شبكة علاقات عامة مع اشخاص داخل سوريا وخارجها، تتبادل معهم الرأي. فقد توسعت خياراتها وعثرت على أشخاص يشبهونها، ولم تعد مجبرة على التواصل مع أشخاص لا يبادلونها الاهتمامات ذاتها. لكن ماذا إذا كان هؤلاء يكذبون، تجيب لينا بثقة، الكل يكذب ليخفي هويته، ويعبر عن رأيه بصراحة، هذا هو المهم، لا الهوية فنحن نتبادل الآراء والمعلومات.
لكن تجربة همام .هـ مهندس مدني (45 عاما) تدحض رأي لينا حول الصدق وتبادل الآراء. فقد أدمن على مواقع الدردشة فترة، كان فيها عاطلاً عن العمل، ولديه وقت فراغ طويل وممل. فكان يسهر حتى الفجر متنقلاً بين المنتديات المتنوعة، فكان في المواقع المتشددة دينياً متشدداً لا يشق له غبار، ولا يتورع عن تكفير الآخرين دفاعاً عن معتقداته، وفي مواقع اللادينيين ملحداً عنيداً، وفي مواقع الجنس دنجوان عصره، ومع المثليين، شاذاً يطالب بحقوقه. يبرر همام سلوكه ذلك بفضول عارم لمعرفة كل مجموعة كيف تفكر، ورغبة في اختبار قدراته على الإقناع. هذا بحد ذاته مثَّل له متعة ترضي غروره، وكان نجاحه في السجال يعوضه عن الشعور بالفشل والإحباط والبطالة وعدم الرغبة بالتواصل مع أصدقائه وعائلته. إلا أن علاقة همام انتهت مع المنتديات حين اكتشف أن أحد خصومه الأشداء كان فتاة لطيفة، تواصل معها خارج النت، وأثمرت علاقتهما مشروعاً تجارياً أخذهما كلياً من المنتديات.
واضح ان التحديات الكبرى التي تفرضها الإنترنت كشبكة تواصل واتصال، ليست في مواجهة التدفق المعلوماتي كما يشاع، لأن الفائدة أو الضرر تحددها الحاجات التي تلبيها، إذا ما كانت للتسلية والترفيه أو لتطوير المهارات والمساهمة في صناعة المعرفة. ويرى استشاري التقنية الأيهم الصالح، ان التحديات الكبرى الحقيقية التي تواجه العرب، هي بناء شبكة اتصالات رقمية تشبه بتقنيتها تلك الموجودة في أوروبا وشمال أميركا والهند، وبناء صناعة تقديم خدمات شركات استضافة، ومراكز لبيانات تقنيات الأمن، تعالج الحالات الخاصة للمواقع العربية التي لا تعالجها الشركات الأجنبية، والتحدي الأهم يتمثل في خلق زبائن لهذه الصناعة عبر نشر ثقافة استخدام الانترنت. ويأسف الايهم لأن سوريا وبعض الدول العربية عدا مصر والإمارات ولبنان تسير إلى الخلف فيما يخص التطوير. ففي سوريا مثلاً لم تلحظ الدولة في خطتها الخمسية أن البناء التحتي لصناعة الإنترنت متخلف جداً، وأن وضع الشبكة مترد وتحتاج الى توسيع دائم. كما أن مزودي الخدمة في سوريا لا يقومون بربط الشبكات مع بعضها ولا مع دول الجوار، بالإضافة الى بقاء المستخدمين السوريين مرتهنين لشركات خارجية، دون وجود نية لتغيير هذا الواقع. ويوضح الأيهم مغبة ذلك من خلال مثال بسيط عن أن موقع «ويكيبيديا» الشهير المتخصص ببناء المعرفة الإنسانية، يحجب مشاركة السوريين فيه، لأن مستخدماً سورياً سبق وأساء للموقع، فجرى حجب العنوان السوري. لأن هندسة الشبكة السورية تجعل سوريا تقرأ بعنوان واحد، فحُرم السوريون من المشاركة في هذا الموقع، وبالتالي من الإسهام ببناء المعرفة الإنسانية. وهكذا فقد أصاب السوريين حجب مضاعف من الداخل والخارج، وهو لا يختلف كثيراً عما يتعرض له الكثير من المستخدمين العرب عموماً، إذ ورغم ما توفر الإنترنت لهم يبقون في وضع يصح فيه المثل الشعبي الشائع «شم ولا تذوق».
الشرق الأوسط + الجمل
إضافة تعليق جديد