العلاقات السورية- الروسية في ميزان المصالح المشتركة
ثمة روابط وثيقة جمعت كل من سوريا والاتحاد السوفيتي السابق على قاعدة تقاطع المصالح أولاً، والتقارب العقائدي ثانياً، ما مكَّن الطرفين في أوقات كثيرة من استثمار الكثير من المسائل التكتيكية والاستراتيجية. وعلى الرغم من تغيّر العقائد والأنظمة بعد انهيار الكتلة الاشتراكية ظلت العلاقات بين دمشق وروسيا على مستوى مقبول على رغم دخول العديد من المؤثرات الخارجية فيها للنيل منها أو حرفها في اتجاهات لا يريدها الطرفان. فالدولتان هما في حاجة إلى علاقة تكاملية تحفظ تبادل المصالح والتنسيق في القضايا الإقليمية القابلة للصرف في المواقع الدولية، ولهذا سعى الطرفان إلى نسج علاقة غير قابلة للانفكاك حتى لو تضاربت المصالح باعتبار أن ما يجمعهما أكثر ما يفرقهما، ولا سيما بعد محاولة واشنطن الدائمة عزل كل من روسيا وسوريا عن المسرحين الإقليمي والدولي كأطراف فاعلة. ومن هنا أتت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو لتؤكد هذا الانطباع في وقت يجهد فيه العديد من المواقع الدولية لزيادة الحصار على دمشق لتدفيعها أثماناً كبيرة لملفات إقليمية عمرها من عمر الكيانات السياسية في المنطقة. فماذا في خلفية هذه الزيارة؟ وهل الرغبة بين البلدين كافية لإبقاء هذه العلاقات على المستوى نفسه أم ثمة مؤثرات أخرى ستؤدي دوراً سلبياً فيها؟
فقد شهدت الفترة الأخيرة تحركات روسية لافتة في الشرق الأوسط وخارجه، من الدور المباشر في أزمة الملف النووي الإيراني، مروراً باستقبالها وفد حركة المقاومة الإسلامية «حماس» وزيارة الرئيس الروسي بوتين الجزائر وتوقيع صفقة لشراء الجزائر طائرات حربية من روسيا، ووصولاً إلى الاتفاق الهندي الروسي على إمداد الهند بتكنولوجيا نووية على شاكلة الاتفاق الأميركي ــ الهندي، فضلاً عن عقد اتفاقات لتزويد الصين بالنفط. ومن بين هذه التحركات كان استقبال موسكو في 13 و14 آذار 2006 وزير خارجية سوريا وليد المعلم، في زيارة تعكس استكمال سوريا ما يعرف بسياسة «التوجه شرقًا»، وهي سياسة بدأها الرئيس السوري بشار الأسد منذ زيارته موسكو في 24 ــ 28 كانون الأول 2005 في محاولة لجذب قوى دولية تعيد قدراً من التوازن للسياسة السورية بعد التغيرات التي طرأت على المنطقة عقب أحداث 11 أيلول 2001، وبات هذا التوجه أكثر إلحاحاً بعد فقدان دمشق الحليف الفرنسي على خلفية اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
وفي الواقع ثمة وجهتا نظر تفسر مستوى العلاقة ونوعيتها حالياً، ترى الأولى أن دخول روسيا على ملف دمشق ــ لجنة التحقيق الدولية هو بإيحاء أميركي بهدف ممارسة الضغوط على سوريا لاستكمال تنفيذ بقية بنود القرار 1559، ما يعني محاصرة سوريا من كل الأطراف حتى ممن تتصور دمشق أنه حليفها، بينما ترى الثانية أن تحركات موسكو الأخيرة في مجملها تصب في جانب السعي الروسي لاستعادة جزء من مكانتها المفقودة على المستوى الدولي. وفي الواقع تبدو وجهة النظر الثانية أقرب إلى الحقائق الموضوعية ومنها:
ــ أن تفعيل السياسة الخارجية الروسية كان ثمرة جهود سعى إليها بوتين لإعادة مكانة روسيا الدولية في نظام دولي متعدد الأقطاب إلى جانب الولايات المتحدة.
ــ اقتناع بوتين بأن عودة روسيا إلى الساحة الدولية تستلزم أولاً وأخيراً الاعتماد على الذات وعدم طلب أي مساعدة اقتصادية من واشنطن أو الدول الصناعية السبع الأخرى، وبالفعل تحسن أداء الاقتصاد الروسي منذ عام 2000، بل حقق نمواً بنسبة 6.9% منذ عام 2003. وقد كان هذا التحسّن وراء إعلان روسيا نيتها الالتزام دفع الدين الخارجي المستحق عليها عن عام 2002 والمقدّر بـ17.3 مليار دولار. وأعلنت إلغاء 35 مليار دولار من الديون المستحقة على الدول الأفريقية، وهو ما يعادل نصف ما ألغته الدول الدائنة الأخرى مجتمعة من الديون الأفريقية.
ــ لقد وضع بوتين الاستقرار الاقتصادي والسياسي الداخلي في برنامج أولوياته، وسعى إلى توظيف السياسة الخارجية لخدمة الإصلاح الاقتصادي ما أدى إلى هيمنة الاعتبارات المصلحية وبخاصة الاقتصادية على أولويات السياسة الروسية. وكلما تعاظمت هذه المصالح، ازدادت فاعلية الدور الروسي ومحاولات التأثير والمناورة. ومالت روسيا إلى ترجمة أهدافها ومصالحها إلى علاقات تعاونية تخدم مصالحها ومصالح الأطراف الأخرى، وهي في ذلك تختلف عن المنظور الاميركي القائم على محاولة الهيمنة.
ومهما يكن من أمر المتغيرات الطارئة في الشرق الأوسط تبقى هذه المنطقة بالتحديد موقعاً وموئلاً تجاذبته دول كثيرة طامحة لتأدية أدوار إقليمية ودولية مؤثرة، ويبدو أن موسكو تحديداً آخذة في هذا الاتجاه نظراً إلى الحاجات والمصالح المتبادلة بينها وبين دول المنطقة وتحديداً سوريا، ويظهر ذلك جلياً عبر العديد من المسائل منها:
ــ أن الانتشار الأميركي الكثيف جنوب روسيا في العقد الأخير من القرن الماضي، تحوَّل في كثير من مواقعه إلى قوى احتلال بعد حروب إقليمية كبيرة خاضتها بغطاء دولي، مثل نموذجيْ أفغانستان والعراق، الأمر الذي حوَّل هذه القوات إلى قوة تهديد للمصالح الاستراتيجية الروسية. ومن الزاوية عينها تشكل هذه القوات خطراً مباشراً على أنظمة دول المنطقة مثل نموذجيْ سوريا وإيران.
ــ أن حاجة روسيا إلى النمو الاقتصادي المستمر للتخلص من سيف المساعدات الخارجية المشروطة، مرهونة بحيازتها العملات الأجنبية التي لا يمكن أن تتأتى إلا من مصادر بيع الأسلحة لمن يحتاج إليها، وفي المقابل تبدو دول المنطقة مهتمة بهذا المجال لإعادة بعض التوازن المفقود أصلاً في المنطقة.
ــ أن تعثّر مشاريع التسوية إن لم نقل إحباطها في المنطقة بقوة الدفع الإسرائيلية الأميركية بعد مؤتمر مدريد ومدرجاته، أتاح لبعض دول المنطقة ومنها سوريا، وكذلك للدول الكبرى ومنها روسيا وتركيا، إعادة رسم سياساتها وعلاقاتها من جديد، بدافع تقاطع المصالح السياسية والاقتصادية. فتركيا الباحثة عن دور ضائع منذ قرن تقريباً وجدت النزاع العربي الإسرائيلي مدخلاً له في الآونة الأخيرة للتقرب من إسرائيل وسوريا، فيما التوجه السوري شمالاً نحو أنقرة وعدم ممانعتها هذا الدور لم يُنسِها المتابعة شمالاً في اتجاه موسكو، أما الأخيرة المتوجّسة من إعادة إحياء دور تركيا على حدودها الجنوبية، فلن تألو جهداً في تجاوزها للوصول نحو مركز الجذب الإقليمي المتمثل بسوريا.
ــ أن محاصرة سوريا شرقاً بالقوات الأميركية، وغرباً بالقرار 1559 وبنظام لا يؤتمن له كلياً، وجنوباً بإسرائيل، حدا الدبلوماسية السورية على المضي قدماً في خيارات استراتيجية بعدما جرَّبت البراغماتية لحقبة ما ولم تعد تجدي نفعاً. وفي هذا الإطار، إن العودة إلى فترة الثمانينيات من القرن الماضي لمقاربة العلاقات السورية السوفيتية آنذاك وما تخللها من معاهدة صداقة هدفت دمشق من خلالها إلى إنشاء توازن استراتيجي مع إسرائيل، فهل تحاول دمشق عوداً على بدء في هذا المجال وتكرر التجربة؟ وهل موسكو ستخطو في الاتجاه نفسه أيضاً؟ إن تقاطع المصالح بين الطرفين هو شرط لذلك، إلا انه في المقابل غير كاف، ويستلزم شروطاً إضافية استراتيجية أخرى.
ــ أن اقتناع موسكو بأن المشروع الإمبراطوري الأميركي لن يتوقف عند حدود أوروبا القديمة ــ الجديدة، بل سيتعداه إلى روسيا نفسها، أوجد نقاط تقاطع كثيرة مع رؤية بعض قوى المنطقة ومنها سوريا لمشروع الشرق الأوسط الكبير ــ الجديد، المصنّف خريطة طريق لإعادة رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة برمتها.
ــ أن إخراج روسيا عملياً من عقود نفط العراق يشكل مناسبة مهمة للانفتاح الروسي على دول المنطقة ومنها إيران والسعودية، وان ترتيب بيئة اقتصادية نفطية جديدة تستلزم تركيز بيئة سياسية ملائمة من الضروري أن تكون دمشق من بينها بالنظر إلى علاقتها مع طهران وموقعها بالنسبة إلى دول المنطقة.
طبعاً، ثمة عقبات يمكن أن تواجه هذا التحليل المتفائل للعلاقة بين البلدين وخاصة إذا ما أدرجت المصالح الإسرائيلية الروسية لجهة عدم قدرة موسكو تجاهل ثقل المليون يهودي روسي في إسرائيل، ومدى تأثر الأمن الاستراتيجي الإسرائيلي بصفقات الأسلحة الروسية المحتملة لدول المنطقة ومنها سوريا، معطوفة على الموقف الروسي من المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ورؤيتها وجوب التعاون السوري وحدوده في هذا الملف.
لكن مهما يكن من أمر، ثمة مصلحة روسية سورية مشتركة تتقاطع في الكثير من المحطات السياسية والاقتصادية وحتى في الحسابات الجيو سياسية، وهذا ما يستدعي تقوية العلاقات القائمة ومحاولة الاستفادة من بعض المتغيرات قدر المستطاع ومنها التعثر الأميركي في العراق وما أنتجته توصيات لجنة هاملتون بيكر، وكذلك نصر المقاومة الإسلامية الأخير على أميركا وإسرائيل. فهل تمكنت سوريا من تجاوز الألغام الإسرائيلية الأميركية المزروعة على طريق موسكو؟ وهل قرأ الرئيس بوتين في كتاب الرئيس الأسد نفسه أثناء زيارته موسكو؟ إن الرئيسين مضطران إلى القراءة في كتاب واحد، إلا أن الامتحان الإقليمي والدولي هو الذي سيحدد مستوى نجاح أو فشل هذه القراءة، وبقدر ما تكون القراءة هادئة ومعمّقة يأتي حساب الحقل مطابقاً لحساب البيدر!
خليل حسين
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد