الفواكه المجففة مـن المحليـة إلى العالميـة
عرفت سورية التين منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام وجعلته ينتشر في منطقة البحر الأبيض المتوسط حتى أن سقراط وهوميروس ذكراه في كتاباتهما، وكان أفلاطون يكثر من تناوله لدرجة أن التين بات يسمى آنذاك بصديق الفلاسفة، واستعمل بعد ذلك التين كغذاء ودواء خاصة بعد أن بدأت النسوة الريفيات بتجفيفه في فصل الصيف على أطباق من القش المصنوعة من سنابل القمح اليابسة أوعلى قطع قماشية سميكة بعد أن يرشوا عليه الكلس الناعم ليحفظه فيبقى متوافراً طوال السنة.
منذ عام 1882 عرفت دمشق تفنن الحرفي السوري بصناعة الفواكه المجففة التي أذهلت القاصي والداني بهذه الصناعة وقد عرفتها الأسر السورية فتسابقت المناطق لتكون مراكز وتجمعات تحتضن هذه الصناعة، فانتشرت ورش صناعة الفواكه المجففة في دمشق وحلب وطرطوس واللاذقية وحمص وحماة.... ومختلف المدن السورية وتعددت منتجات هذه الفواكه المجففة حتى وصلت إلى ما يقارب المئة والعشرين نوعاً حيث لم تترك صنفاً إلا وساهمت في صناعته، وتعتبر صناعة الحلويات الشامية هي سبب شهرة حرفيي هذه الصناعة وتفننهم فيها خاصة مع وجود غوطة غناء في دمشق طالما تغنى فيها الشعراء وافتتن بها كل زائر كانت تقدم ما لذ وطاب من الفواكه والثمار الشهية الأمر الذي جعل ولادة صناعة مميزة للفواكه المجففة قائمة بذاتها شيئا طبيعياً.
تجذر المهنة
وعرفت دمشق عدة عائلات قديمة تقوم بهذه الصناعة مثل السليق والغراوي والزنبركجي واللحام وشيخ الأرض...ألخ وإن دل تعدد وتوزع هذه العائلات على شيء فإنما يدل على تجذر وتوسع هذه الصناعة في المجتمع السوري على مدار مئة وتسعة وعشرين عاماً.
تعددت منتجات الفواكه المجففة لتصل إلى أكثر من 120 صنفاً من الفواكه والثمار المختلفة ابتداء من التفاح والدراق والمشمش والكرز والعنب والفراولة والتمر والأجاص والفريز وصولا إلى بعض الخضراوات مثل الباذنجان.
وإذا ما رغب المرء في البحث والتنقيب عن تاريخ الفواكه المجففة في سورية فلا بد أن تحمله قدماه إلى منطقة البزورية في دمشق القديمة حيث سيكتشف أن عائلة سليق هي أول من مارس هذه الصناعة بشكل آلي عام 1882حيث كان هناك حلواني شهير في البزورية يدعى نسيب سليق قام بصنع فواكه مجففة في بادئ الأمر من النارنج والمشمش والكباد وهذا ما يؤكده حفيد العائلة الحلواني محمد بشار سليق الذي أكد أن جد جده نسيب قدم هذه الصناعة المميزة للدمشقيين فأعجبت الكثيرين وباتت صناعة يقوم بها عشرات الورش والمحال في دمشق وريفها وبقية المحافظات.
أما الحلواني هيثم فلاحة الذي التقته الثورة في معرض دمشق الدولي فأكد أن جده امتهن صناعة الفواكه المجففة في أربعينيات القرن الماضي ولا يزال يحافظ عليها حتى هذا الوقت.
ووصلت الفواكه المجففة والحلويات الشامية الى مرحلة باتت قبلة لكل من يزور سورية فإذا لم يذق حلوياتها فكأنه خسر شيئا ثمينا وهي تعكس حيوية ورقي المجتمع السوري منذ القرن التاسع عشر حتى يومنا الحاضر، حيث كان عدد العاملين في هذه الصناعة بضع مئات ليصل إلى أكثر من 35 ألف حلواني.
هذا ناهيك عن آلاف النسوة الريفيات اللوات لا زلن يجففن العديد من الفواكه يدويا ويحضرنها إلى بعض التجار ليلعب التغليف والتعليب دوراً حيوياً وتسويقياً كبيراً في عملية البيع، فالمشمش المجفف بشكل يدوي بسيط ولكنه موضوع في علبة بلاستيكية تدفع المستهلك لشرائها وهي بهذا الشكل الجميل على رفوف السوبرماركات والبقاليات والمحال المختلفة والتين المجفف على الخيطان يوضع بعبوات وأكياس تزيد من جاذبيته وتشد المستهلك لشرائه.
هذا ما أكده البائع محمد خير اللبان في البزورية بدمشق فتلك العلب الجميلة رفعت من نسبة الطلب عليه كما يقول، ما وفر سوق عمل كبيرة للباعة وللنسوة الريفيات أيضا، دون أن ننسى ما ترافق مع ذلك التطور من نموحرف صغيرة رديفة أخذت تتفنن في صناعة العلب والأغلفة المختلفة التي تناسب الفواكه المجففة وهذا ماأعطى فرص عمل أخرى منبثقة عن تلك المهن الصغيرة لتأخذ طريقها إلى الازدهار وتشغيل مئات الأيادي العاملة.
البحث عن الأسباب
والمميز أن تصل اليوم هذه الصناعة إلى حالة من العالمية حيث باتت واحدة من أبرز الاستثمارات للخصوصية السورية المستمدة من الموقع الطبيعي والجغرافي لها في أرجاء العالم قاطبة وهي مطلوبة بشكل متزايد.
ولعل السيدة رسمية مواس 73 عاماً وهي تسلط الضوء على واقع كانت تعيشه في قريتها صدد بمحافظة حمص أيام صباها ترسم بشكل غير مباشر سر ملامح الازدهار الذي وصلت صناعة الفواكه المجففة إليه في الوقت الحالي حيث تشرح كيف كانوا يأتون بالعنب الأسود والأبيض ويقومون بغمسه في محلول خاص كانوا يصنعونه من الماء المغلي مع مادة القلووالقلوأصله نبتة كانوا يحضرونها من الصحراء لنباتات الأشنان والشيح ويجففونها لتتحول إلى شبه حجارة صلبة ما إن يتم وضعها مع الماء لتغلي فيه حتى تصبح مادة حافظة يغمس العنب فيها ويرش عليه بعض الزيت لمنع النحل من الاقتراب أثناء عملية التنشيف وينشف متحولاً إلى الزبيب.
وتشير مواس إلى أن صناعة الزبيب يزيد عمرها عن المئتي عام حيث لا زالت تتذكر كلمات جدتها مريم بهذا الخصوص.
ويلاحظ المتتبع لمادة الزبيب (العنب المجفف) أنه على الرغم من وضعه في سلة أوكيس خيش دون وجود علب فاخرة يوضع فيها بل يتم نقله من أسطح النسوة الريفيات إلى السوق مباشرة فإن الزبيب لايزال يحتل المرتبة الأولى من حيث الإقبال عليه، لأن العنب أصلاً واحد من أفضل أنواع الفواكه.
وفي تعليقنا على كلام السيدة مواس حول الدافع وراء الفكرة التي دفعت لاستنباط تلك الصناعة لا شك أن شباب اليوم يجدون كل أنواع الفواكه بأي وقت لدرجة أنه تم نسيان فكرة وجود فصلين تقسم الفواكه والخضار فيهما، فواكه صيفية كثيرة وأخرى شتوية قليلة كالتفاح والبرتقال فكان لا بد من إيجاد طرق ذكية للاحتيال على شح فواكه وخضار الشتاء، حيث كان المرء يجد في البيوت قديما خيطا كالسبحة تصطف فيه حبات التين أوالباذنجان أوغيرها من المواد......
إنها بداية الفواكه المجففة اليدوية لدى سيدات الأمس اللواتي كن يتسلين بمهارة لتعويض ما يمكن أن يجده الجميع اليوم من فواكه موسمية لدى السوق المحلية ولدى الدول الأخرى أيضا، تلك التي نمت في بيوت بلاستيكية بخلاف الطبيعة فلم يعد هناك وقت ولا صبر لدى سيدات اليوم لشك الفواكه والخضار وتجفيفها ليتحول الموضوع إلى عملية تجارية بحتة قدمت فوائد وأرباح طائلة للكثيرين.
المشمش وقمر الدين
السيد عبد الرزاق المنذر 79 عاما يعود بالذاكرة إلى قريته في الحميرة بريف دمشق المشهورة بزراعة أشجار المشمش حتى يومنا هذا حيث كانوا يصنعون قمر الدين من المشمش بعد غليه وتحويله لمزيج متجانس يتم بعد ذلك تجفيفه في الظل ببطء عبر نشره على ألواح خاصة مصنوعة من أشجار المشمش غالبا مما يعطيه قواماً طريا ومرنا وهوعمل يمتهنونه منذ بدايات القرن الثامن عشر، والآن ابنه محمد طوّر عمله المحدود في الماضي حيث يصدر كميات كبيرة إلى مصر.
ويؤكد الابن محمد بأن القمر الدين السوري في مصر مادة أساسية على المائدة الرمضانية حيث لا تكاد تخلومائدة رمضانية هناك منه.
التمرواللبن
ويشير المنذر أن العرب القدماء في ترحالهم كان زادهم عبارة عن تمر مجفف أوزبيب إضافة الى الحليب أواللبن فقد كان ذلك يعتبر غذاء كاملا، وهذا ما تؤكده خبيرة التغذية في كلية العلوم جامعة دمشق الدكتورة سلام فاضل حيث أوضحت أن الدراسات التي شملت الفواكه المجففة أثبتت أنها تحتوي على نسبة سكريات تعادل خمسة أمثال كمية السكريات الطبيعية في الفواكه الطازجة حيث يوجد في الزبيب 67 % من وزنه سكر طبيعي و64% من وزن التفاح المجفف و62 % من المشمش و65% من الموز المجففين كما تحتوي الفواكه المجففة على 2.75 غرام من المواد المعدنية الرئيسية والمكملة لكل 100 غراماً من هذه الفواكه المجففة وهذا يعادل أربعة أضعاف كمية المعادن الموجودة في الفواكه الطازجة.
وذكرت فاضل أن نسبة خاصة من معدن الحديد الهام للجسم توجد في المشمش المجفف ناهيك عن معدني البوتاسيوم والمغنزيوم في الموز المجفف، هذا إضافة إلى الألياف ذات النسبة العالية في الفواكه المجففة بما يعادل الضعف عما هي عليه في الطازجة.
وتطرقت فاضل إلى وجود مادة البونيفينول بكثرة في الفواكه المجففة وهي المادة الهامة في عملية إكساب الجسم لتأثيرات صحية وقائية وكبح حدة البؤر الالتهابية في الجسم.
ونظرا لوجود الفيتامينات المتنوعة في الفواكه المجففة فهي إضافة إلى دورها المغذي تقوم بتلطيف درجة حرارة الجسم وتعوضه عما قد يفقده من سوائل خاصة أثناء الصيام في شهر رمضان المبارك.
ويذكر أن العنب سواء كان مجففا أوطازجا فهوينقي الدم ويخفض الضغط الشرياني ولذلك يسمى العنب بأحد ملوك الفواكه الثلاث (الرطب والتين والعنب).
التجارة الخارجية
وفي المكتب الإحصائي بمديرية التجارة الخارجية –وزارة الاقتصاد والتجارة لفت السيد نزار بكور المسؤول عن الإحصاء في المديرية إلى تنامي كميات التصدير للفواكه المجففة حيث كانت الكمية في عام 2008 تصل إلى 1625 طناً لتصل في عام 2009 إلى 9246 طناً وهي آخر إحصائية متوفرة لدى وزارة الاقتصاد حيث وصلت كمية المشمش المجفف الذي تم تصديره 1617 طناً شمل ذلك دولا عربية وأوروبية وأميركية أما بقية أنواع الفواكه المجففة التي تم تصديرها بعام 2009 فبلغت 7626 طناً من كافة الأصناف والأنواع المختلفة.
وأشار بكور إلى أن سورية تستورد من أنواع الفواكه المجففة فقط التمر الهندي أما ما تبقى فكله يتم تصديره ناهيك عن الكميات التي تبقى للسوق المحلية.
وهنا نعلق على هذا التطور الكبير بأنه نتاج تراكمي استطاعت آلاف العائلات المحافظة عليه لتأتي بعدها أجيال أكسبته خصوصية نادرة جعلته مطلوبا في كل أنحاء العالم لأنه ببساطة انبثق من رحم الأسرة السورية المكافحة.
موسى الشماس
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد