الكاتب الرجيم أورهان باموق يشعل نيران الأتراك
الجمل- عبد القادر عبد اللي: يُعتبر الكاتب التركي "أورهان باموق" الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 2006 من أكثر الكتّاب الأتراك إثارة للجدل. فقد حظي بشهرة عالمية واسعة جداً لمازال في الأربعين من عمره، وتُرجمت رواياته إلى لغات العالم الأكثر انتشاراً لتزيد عن أربعين لغة حية، وسجل في تركيا لقب "الكاتب الأكثر مبيعاً". ولا يمر يوم تقريباً إلا ويذكر فيه اسم أورهان باموق. وهو مرشح لهذه الجائزة منذ سنوات طويلة، حتى إن الكاتب الإنكليزي "هارولد بينتر" عندما حصل في العام الماضي على جائزة نوبل للآداب قال: "عندما اتصلوا بي من الأكاديمية السويدية اعتقدت بأنهم يبشرونني بفوز صديقي أورهان باموق بجائزة نوبل.
وهو إضافة إلى رواياته يكتب في كبريات الصحف العالمية مقالات فكرية وسياسية متنوعة.
* أورهان باموق النشأة والبدايات:
لم يبق جانب يتعلق بهذا الكاتب إلا وقد وضع تحت البحث والتمحيص الدقيق، وهنالك باحثون كثيرون غاصوا في جذور أورهان باموق العائلية، وفي نسبي أبيه وأمه، وهذا بسبب طرح إشارات استفهام كثيرة حول أسباب شهرته العالمية المبكرة. وكأي مشهور لا بد من إدخال نظرية المؤامرة في قضية شهرته، وربط هذه الشهرة بعوامل غير فكرية أو إبداعية. فهناك من ادعى بأنه يهودي من مدينة "سالونيك" (تقع ضمن الأراضي اليونانية اليوم، ونشأت فيها أولى التنظيمات العلمانية التركية، والفكر القومي الطوراني التركي، ويربط المؤرخون الإسلاميون هذه التيارات بأقلية يهودية تعيش في تلك المدينة)، وهنالك من ادعى أنه ماسوني، وأن التنظيم الماسوني يقف وراء شهرته العالمية الواسعة، حتى إن الكاتب التركي (جمال كلينجو) طرح هذا الادعاء، والكاتب التركي أيضاً، والذي يحظى باحترام واسع (يالتشن كوتشرك) أيضاً أورد هذا الادعاء في واحد من كتبه. وهذا ينطلي على ناظم حكمت الشاعر اليساري التركي الكبير، فقد ولد في سالونيك، وغارها حين كان في الثانية من عمره، ويتهم إنه يهودي أيضاً.
ليس في جذور عائلة باموك (للجد الثالث) من طرفي الأب والأم أي جذر يعود لمدينة لسالونيك. حتى إن جد أبيه "ثابت بيك" كان مفتي مدينة (غوردس) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتنتمي أمه إلى أسرة هاجرت من القوقاز ضمن موجة الهجرة إلى مدينة "غوردس" ما بين عامي 1850-1860، فهو بحسب قوله: "شركسي مترّك"، أو يمكن القول إنه شركسي من ناحية الأم. ويتحدث عن نسب جدته في كتابه "اسطنبول- الذكريات والمدينة"، ويقول إنها كانت تؤمن فتيات ممشوقات قوقازيات لحرم القصر العثماني. وحول الادعاء بأنه يهودي يقول: "لم أقرأ حول هذا... الناس ينقلون لي هذه الادعاءات. وأجد أن هذا معيباً. أنا لستُ يهودياً، أنا لست سالونيكياً، ولو كنت كذلك لأفصحت عنه، ولما خجلت منه. والله أنا لست يهودياً..".
لعل إفصاحه عن إلحاده، وعلمانيته، ودفاعه عن النظام العلماني لعب دوراً مساعداً في توجيه هذه التهم إليه. إذ صرح لجريدة La Vanguardia الإسبانية في لقاء معه إثر صدور روايته "الحياة الجديدة" بالإسبانية: "أنا مُلحد من أسرة ملحدة". ولكن هذا التصريح أثار حفيظة أمه حين نقلته جريدة "حريت" التركية، وردت عليه في الجريدة نفسها قائلة: "ليتكلم ابني باسمه، وأنا أتكلم باسمي. نحن لسنا ملحدين. كرهت ابني حين قرأت الخبر... إن أسرتنا تقوم بواجباتها الإسلامية كلها." ونقلت استغراب الأقرباء والمعارف من ذلك التصريح. ولا يخفي باموق هذه الواجبات، فيتحدث عن مائدة رمضان التي كانت تحضر رغم إفطار الجميع، وعن صومه يوم واحد في حياته تحت تأثير مدرس التربية الأخلاقية في المدرسة، وعن أضحية عيد الأضحى التي توزع على الفقراء، ويشترى لحماً بائتاً من عند القصاب لضرر اللحم الطازج... أي عن شكليات التقاليد الإسلامية التي تقوم بها عائلته.
ولد أورهان باموق في حي (نيشان طاش) في اسطنبول عام 1952 لأسرة ميسورة. ويُعتبر الحي الذي ولد فيه أحد أحياء اسطنبول الراقية. بدأ الدراسة الابتدائية في مدرسة يمتلك أبوه نصفها، وتركها بعد أن صفى أبوه حصته منها لينتقل إلى أنقرة فترة قصيرة، ثم يعود إلى اسطنبول ويتابع دراسته المتوسطة في "روبرت كوليج". أراد في تلك الفترة أن يكون رساماً، واصطدم برفض العائلة الشديد، وخاصة أمه التي كان يعيش في كنفها بعد انفصالها عن أبيه. أمام إصرار العائلة، انتسب إلى الجامعة التقنية في اسطنبول لدراسة الهندسة المعمارية تيمناً بأبيه وجده المهندسين. ولكنه ترك الجامعة قبل نهاية السنة الثالثة "من أجل أن يكتب الروايات" كما يقول. ويتحدث عن هذه الفترة بإسهاب، وتفصيل في كتابه "اسطنبول –الذكريات والمدينة " ولكي يحصل على تأجيل الخدمة العسكرية سجل في كلية الصحافة في جامعة اسطنبول، وتخرج فيها. وللحصول على تأجيل آخر سجل في الماجستير، وتابع حتى حصل على الدكتوراه. وفي هذه الأثناء استفاد من قرار اللجنة العسكرية إبان انقلاب 12 أيلول 1980، وخدم في الجيش عام 1982 "خدمة قصيرة" إذ بموجب هذا القرار يمكن لمن يستحق الخدمة كضابط، ويتخلى عن رتبته أن يخدم خدمة قصيرة مدتها أربعة أشهر.
حين ترك دراسة الهندسة المعمارية ليتفرغ لكتابة الرواية لم يكن قد طبع أية رواية، ولم يكن قد أنهى كتابة أي رواية، أو قد بدأ في الكتابة بعد، ولم يفكر قبل هذا التاريخ بكتابة رواية. وكان تفكيره كله منصباً على الرسم، وسعى طوال حياته التي سبقت هذا القرار لأن يكون رساماً. ولكنه كان قارئاً ممتازاً، اطلع على أعمال كبار أدباء العالم في سن مبكرة، وتنعكس ثقافته الواسعة في كتبه.
لفت الأنظار إليه بعد بدئه الكتابة مباشرة، فقد حاز جائزة "أورهان كمال" للرواية عن روايته الأولى "الظل والنور"، والتي غير عنوانها فيما بعد إلى "جودت بيك وأولاده" عام 1979 وأمضى أربع سنوات في كتابتها، ولكنه لم يستطع طباعتها إلا بعد ثلاث سنوات عام 1982. ويقول إنه عاش في تلك الفترة أكبر أزمة في حياته لعد تمكنه من نشر تلك الرواية، إلى حد أنه فكر جدياً بأن ينشر في المجلات الأدبية إعلاناً يقول فيه: "رواية حائزة على جائزة معروضة للبيع".
*علاقات زوجية وعائلية مفككة:
عاش الروائي باموق انطوائياً. ويعترف بأنه خجول. انعزل عن زملاء المدرسة المنتمين إلى طبقة غنية. واعترف أيضاً بأنه يجد صعوبة بإقامة علاقة مع فتاة. فقال ذات مرة: " بدأت الكتابة لأتمكن من إقامة علاقات مع الفتيات." ولكنه على الرغم من هذا وجد (آيلين) التي استطاع أن يقيم علاقة معها، وقال عنها: "إنها الوحيدة التي وقفت إلى جانبي حين بدأت الكتابة." وأهداها روايته الحياة الجديدة، وتزوجها فيما بعد، وأنجب منها طفلة اسمها (رؤيا). ولم يستمر زواجه هذا، وهو الآن يعيش منفصلاً عن زوجته، ويقول إنهما في حكم المطلقين.
أبوه وأمه أيضاً منفصلان. وتزوج أبوه بعد انفصاله، وأنجب فتاة تدعى "حميرة" وهي من مواليد عام 1980. وعاش أورهان مع أمه لأن أخاه شوكت كان يعيش في الولايات المتحدة في تلك الفترة. وعلى الرغم من عيشه مع أمه إلا أنه على خصومة معها. واعترف بهذا في لقاء أجرته معه (نورية أقمان) لجريدة (زمان) قائلاً بأنه سخر من والدته وشقيقه بشكل خفيف في روايته "اسمي أحمر" انتقاماً منهما. وقد أسمى بطلة الرواية شكورة وهو اسم أمه، ولها في الرواية أيضاً ولدان الأكبر شوكت والأصغر أورهان.
وعن الفترة التي عاشها مع أمه يقول باموق: "في تلك الفترة لم تتفهمني أمي. كانت تقول لي: إنك تكتب رواية. ضع في عقلك بأن الرواية لن توصلك إلى نتيجة، ولأقول لك هذا بالتركية الفصيحة!.. كانت تخرب معنوياتي، وتؤمن بأنني أعبث، ولكن هذا غير مهم. كان والدي في تلك الفترة أكثر تسامحاً.."
ولكن الكاتب يعترف بأن هذه الضغوطات والعلاقات السيئة حرضته أكثر على الكتابة، ولعبت دوراً مهماً في نجاحه الأدبي، لإثبات أن الرواية ستحقق له نتيجة.
وعن علاقته بأخيه شوكت يقول: "بيننا توتر. وهو على حق بتذمره من حديثي عن هذا التوتر. ولكنني كاتب، وأكتب. وأقول له مبتسماً: سأستمر بالكتابة عن هذا الأمر. وبالطبع لا أريد أن أبدو متخاصماً معه، لأن هذا غير صحيح. نحن صديقان." ويرجع أورهان (توتره) من شقيقه إلى بنية المجتمع التركي، فيقول عن هذا الأمر: "في المجتمعات الأبوية كمجتمعنا يضع الولد الذكر الأول القواعد كلها، ويقترح القوانين، ولا يبقى شيء للثاني... يبقى له اللعب والتخيل."
وعن خلافات أبيه مع أمه يتحدث قائلاً: "الترعرع في أسرة متخاصمة ترك فيّ أثراً. ولكن يمكن أن تكون نسبة 70-80% من العائلات التركية على هذا النحو. حين يتشاجر أبي وأمي يأخذانني إلى أسرة "راضو" (زوج خالته، وهو كاتب وناشر شهير)، ويأخذان أخي إلى مكان آخر."
*حياته ورواياته:
أدخل باموق شيئاً من شخصيته في رواياته، وهذا ليس غريباً، إذ يفعله كثير من الكتاب. وعند باموق تنوع هذا الاستخدام، من استخدام الاسم بشكل مباشر أحياناً كما فعل في رواية "اسمي أحمر". فكان ثمة تطابق بين الأسرة التي عاش فيها وأسرة الرواية من خلال الأسماء "شكورة- الأم، شوكت- الأخ الأكبر، أورهان- الأخ الأصغر" وقال بأن أورهان الطفل في الرواية يشبه أورهان باموق الطفل في الواقع، إضافة إلى أنه قال: "يشبهني كل من (قرة) و(القاتل) في الرواية نفسها." كما استخدم اسمه واسم زوجته، وابنته، وشخصيته الروائية الحقيقية في رواية ثلج. وقد علق على هذا الأمر قائلاً: "أبدو في رواية ثلج بشكل ضبابي باسم أورهان، ولكن الذي يُشبهني في الرواية هو الشاعر (كا). وقال إنه استخدم كثيراً من التفاصيل التي عاشها في مدينة (قارص) في الرواية. وإن جغرافية الأحداث الروائية تتطابق تقريباً مع جغرافية الواقع.
وحول علاقته بشخصياته الروائية يقول باموق: "(رفيق) في رواية (جودت بيك وأولاده) هو الأقرب إلي. ولدى (عمر) في الرواية نفسها شيء مني أيضاً. لا توجد شخصية قريبة مني في رواية (البيت الصامت). البطلان في رواية القلعة البيضاء يشبهانني كثيراً، ولكن من بعيد. بطل رواية (الحياة الجديدة) يشبهني قليلاً، لعل (غالب) في رواية (الكتاب الأسود) أقرب شخصياتي جميعها مني، واستمديت علاقة (غالب) وزوجته (رؤيا) في الرواية من علاقتي مع زوجتي."
يمنح باموق المكان في حياته أيضاً أهمية كبيرة في عمله الروائي. فهو اسطنبولي، لذلك أعطى اسطنبول مكانة كبيرة في رواياته (عدا رواية ثلج التي تجري أحداثها في مدينة قارص. وتجري أحداث رواية البيت الصامت في بلدة قرب اسطنبول، وفيها تبرز ظلال اسطنبول المدينة، من خلال الأبطال الإسطنبوليين). في روايتي "القلعة البيضاء" و"اسمي أحمر" غاص في اسطنبول المتخيلة في أواخر القرن السادس عشر، والقرن السابع عشر. وفي روايته "الكتاب الأسود" كان الحي الذي نشأ فيه "نيشان طاش" أحد أبطال الرواية.
لم يذهب اهتمامه بفن الرسم، واشتغاله عليه حتى بلوغه الثانية والعشرين من عمره سدى، وقد استفاد من هذا الجانب في روايته "اسمي أحمر" فكتب عن الرسامين في القرن السادس عشر، وفن المنمنمات، وبطل الرواية (قرة) كان يتعلم فن الرسم (كان يسمى نقشاً في ذلك الوقت) وترك رسم المنمنمات ليعمل وسيطاً في ترويجها بين النقاشين والباشوات، ومن هنا جاء التشابه بين شخصيته الحقيقية، وشخصية (قرة) الروائية.
* إشكالية الصدام الحضاري، ووحدته:
يعتبر موضوع العلاقة بين الشرق والغرب بحد ذاته من أكثر الموضوعات إشكالية. ومن الطبيعي أن يشد هذا الموضوع اهتمام مختلف الأوساط، ويوضع من يتناول هذا الموضوع في مركز الهدف، وخاصة في تركيا حيث تشكل هذه العلاقة حداً فاصلاً بين قطاعين يقسم إليهما ذلك المجتمع، وخاصة في الفترة الأخيرة. وهما القوميون، والإسلاميون من جهة، والعلمانيون والليبراليون من جهة أخرى. وبقدر ماشكل له هذا الموضوع متاعب داخل تركيا، كان سبب منحه جائزة نوبل، فقد جاء في تقرير الأكاديمية السويدة التي قررت منحه الجائزة: "أبدع رموزاً جديدة في صراع الحضارات ووحدتها في أثناء بحثه عن روح السوداوية للمدينة التي عاش فيها".
تناول باموق هذا الموضوع في رواياته "القلعة البيضاء" و"الحياة الجديدة" و"اسمي أحمر" بشكل واضح ورئيسي، وشغل حيزاً أقل في رواياته الأخرى. وعلى الرغم من تكرار المحور الرئيس للرواية فإن الكاتب استطاع أن يقدم كل رواية من رواياته بقالب جديد، ولغة مختلفة، وبناء مبتكر. وهذا ما يعترف به خصومه ومنتقدوه، بقدر ما يبرزه أنصاره ومحبوه.
في رواية "القلعة البيضاء" يعود إلى القرن السابع عشر، ويتناول شخصية "الأستاذ" التركي و"عبده" الإيطالي الأسير، ليبني تكاملاً بين الشخصيتين الشرقية والغربية. تجري أحداث الرواية في القرن السابع عشر، ومنذ ذلك الوقت بدأ شعور الشرقي بتفوق الغربي عليه، وانجذاب الغربي إلى سحر الشرق. يعرض الكاتب نظرتين كل منهما قاصرة وأحادية للآخر. لتندمج الشخصيتان في النهاية وتضيع إحداهما في الأخرى، وتختلطان بحيث لم يعد بالإمكان تمييز إحداهما عن الأخرى.
في رواية "اسمي أحمر" يعود مرة أخرى إلى التاريخ، وإلى بضعة أيام من أواخر القرن السادس عشر. ويتناول هذه المرة الصراع (أو العلاقة) بين الشرق والغرب في منعطف تاريخي هام على صعيد الفن التشكيلي. وهي لحظة تألق فن عصر النهضة في الغرب، وبدء زحفه نحو الشرق، وفقدان فن المنمنمات الشرقي تألقه. أو بمعنى آخر سقوط المراكز الفنية الشرقية في اسطنبول وبغداد وتبريز وهراة، وانتعاش مركز الفن وعاصمته الجديدة "البندقية"، ومحاولة الفنانين الشرقيين (النقاشين) تقليد الغرب. ويتخذ باموق موقفاً حاداً من قضية التقليد، ويعتبر أن المقلد لا يمكنه أن يصل إلى مستوى الأصل، ولا يضيف لفنه شيئاً بهذا التقليد، حتى إنه يذهب إلى اعتباره أساس التخلف الإبداعي. وهذا لا يعني أنه ضد الحداثة، فهو معها، وتبناها في أعماله الروائية، ولكنه معها كحياة، ولا يمكن فصل الحداثة عن حياة الحادثة.. لأن المقلد كالغراب الذي قلد مشية الطاووس، لم يتحول إلى طاووس، ولم يعد يستطيع أن يعود غراباً.
وحول هذه الرؤية للفن تحدث باموق إلى إذاعة (CBC) الكندية قائلاً: "دُفِعت الثقافة العثمانية إلى الخلف، وأُيّدت القيم الغربية الليبرالية الإنسانية مكانها. ولكن لم يتحقق النجاح في هذا الأمر.."
ويصف علاقته بالعثمانية الإسلامية قائلاً: "إنها علاقة ثقافية. وعبرت عنها بالشكل الأفضل في رواية (اسمي أحمر)."
في رواية "الحياة الجديدة" صور باموق رحلتين قام بهما إلى الأناضول. تفصل بين الرحلة والأخرى مدة عشر سنوات. في الرحلة الأولى رصد الذين يعملون للمحافظة على الهوية القومية من خلال المحافظة على الأشياء التركية الأصيلة، والأشياء التي دخلت إلى هذه الثقافة، وغدت جزءاً لا يتجزأ منها. ويمكن تسمية هذا الفعل "محافظة مادية". في الرحلة الثانية وجد أن تلك الأشياء قد اندثرت، وفُقد أصحابها، وحل محلها شكلانية مختلفة، ولوحات الكولا وهي رمز عصر الاستهلاك الغربي، وفي هذا يصور "التغريب المادي" منتقداً الحالتين. وفي حوار معه يؤكد باموق على الضياع ما بين حالتين قائلاً: "تركيا الواقعة بين الشرق والغرب تنتمي إلى أوربا جغرافياً، ولكن انتماءها سياسياً ما زال إشارة استفهام."
في روايته البيت الصامت يتناول الصراع الدموي بين اليمين واليسار في تركيا الستينيات والسبعينيات، ولكن الحداثة والتحديث، والتغريب لا تغيب عن الرواية. يبحث بطل الرواية عن كتاب كان يعده جده. والكتاب موسوعة شاملة. ويبين كيف كان جده من أنصار الحداثة والتغريب، ولكنه يربط شخصية الجد بالمغربين السذج الذين لم يستطيعوا غير رؤية بريق الغرب الظاهري فقط.
لم يبتعد عن الصراع بين الشرق والغرب كثيراً في روايته الكتاب الأسود. ولعله في هذه الرواية يقترب أكثر من رواياته الأخرى كلها إلى الشخصي، والعائلي. وهي مبنية على قصة ذهاب البطل "الراوي/ الروائي"إلى البيت، وعدم إيجاده زوجته، وانطلاقه في رحلة بحث طويلة عنها. والبحث في اسطنبول طبعاً، والغوص في تاريخها، وحياتها، وعلاقاتها الاجتماعية، وماضيها، وحاضرها. وهذا البحث في الوقت نفسه هو بحث عن الذات، وعن الهوية.
في روايته "ثلج" غاص في الإشكالية المحرقة في تركيا، ودخل الموضوع الأخطر وهو "الإسلام السياسي" وهذا الموضوع يشغل حالياً الرأي العام التركي كله والسلطات كلها وهو أكثر القضايا سخونة في تركيا. وتحت عنوان رواية "ثلج استفزازية" كتبت الناقدة التركية "نجمية ألباي": "رواية أورهان باموق ثلج- التي غدت الموضوع الأكثر نقاشاً في الأيام الأخيرة- جريئة إلى حد الاستفزاز. في الرواية أحداث، وقوالب فكرية، وعبارات اتهامية كثيرة تثير ردود فعل سلبية لدى غالبية قرائها.."
وغالبية القراء هؤلاء يتوزعون على مختلف الاتجاهات الفكرية بين دعاة العلمانية التركية والإسلاميين. وهي رواية مخيفة، واعترف باموق بخوفه حين كتب هذه الرواية قائلاً: "كتبتها وأنا خائف، يمكن أن يغضبوا مني.." وقد غضب منه الجميع فعلاً..
في كتابه "اسطنبول- الذكريات والمدينة" يطرق باب أسلوب أدبي مختلف. فهنالك من اعتبر الكتاب رواية، ولكن الكاتب نفسه لم يعتبره رواية. (الطريف في الأمر أن صحفياً/ أديباً عربياً اعتبره رواية، وبنى ضعفه الروائي على ضعف الترجمة، في ضرب من ضروب المهنية الصحفية العالية المعتمدة على التنجيم). الكتاب هو مزج بين سيرة ذاتية، وسيرة مدينة، ولكن الكاتب روائياً بالدرجة الأولى، فلابد من وجود خصائص روائية في عرض تلك السيرة. وإذا كان باموق قد اعتمد على الخمسين سنة الأخيرة من تاريخ اسطنبول، فهو يغوص في تاريخ المدينة الأقدم، ويقدم تشويه شخصية المدينة، وبدء إحراقها، وهدمها، لبناء شخصية شوهاء لمدينة شوهاء.
* فكر أورهان باموق السياسي:
يقول أورهان باموق بأن أسرته تميل إلى "الاشتراكية الديمقراطية"، ولكنه يعتبر أن هذا الميل ليس عقائدياً، ويربطه بكسب جده المهندس أموالاً طائلة في مشروع السكك الحديدية الذي عمل فيه في عهد رئاسة "عصمت إينونو" للحكومة، وقربه –أي الجد- من حزب الشعب الجمهوري الحاكم في ذلك الوقت. ويبدو أنه ليس من المصادفة أن يتزوج والده من السيدة "فاطمة فيظا" التي شغلت بين عامي 1989-1993 منصب عضوة لجنة الانضباط المركزية في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي تأسس على أنقاض حزب الشعب الجمهوري في مطلع الثمانينيات.
يعلن أورهان باموق يساريته السابقة، ولكنه لم يعمل مع أي حزب بشكل منظم، وهو ديمقراطي ليبرالي أعلن احترامه لفوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات، وأسفه لعدم تمكن زعيم هذا الحزب "رجب طيب إرضوغان" من تشكيل الحكومة بعد فوز حزبه مباشرة، وبقي فترة حتى إجراء تعديل دستوري تمكن من خلاله الفوز بالانتخابات، وتشكيل الحكومة. ولكنه لا يؤيد هذا الحزب، وأعلن هذا صراحة، وفي أكثر من مناسبة.
يبدي باموق آراءه السياسية في كل مناسبة، وحول أقوال العلمانيين المتشددين بأن "رجب طيب إرضوغان" يخفي توجهه الإسلامي، ويدعي أنه تغير، تناول باموق الأمر من زاوية مختلفة جداً، فقال في مقالة نشرها في جريدة "الغارديان" عن "رجب طيب أرضوغان": "إذا كان يتستر على شيء ما فهو ليس الأصولية الإسلامية، وليست حرية انتقال الفكر والبضائع، بل يتستر على كونه مرتبطاً بالمصلحية الأميركية."
وتعرض لقمع القوى القومية المتطرفة "مآوي المثاليين" إثر تصريحات قدمها للتلفزيون القومي حول القضيتين الأرمنية والكردية، فهو يميل إلى تناول هذين الموضوعين بعيداً عن المواقف المسبقة، وقد أثار حفيظة القوى المسيطرة في تركيا عندما قال: "إن الذين قتلوا في الصراع بين السلطة والأكراد جميعاً ضحايا، ولا يمكن لنا اعتبار قتلى الجيش شهداء، والآخرين قتلى" وقد تعرض للمحاكمة بتهمة الإساءة إلى الوطن، ولكنه حصل على البراءة.
إنه كاتب غير ميال إلى الصدام، ويقول: "أريد أن الكاتب التركي الذي لم يدخل السجن" هذا لأن أعلب الكتاب الأتراك دخلوا السجن، ويباهون به، فأراد أن يباهي هو بعكسه.
يكتب باموق في مختلف الصحف العالمية مقالات سياسية، ويقدم تحليلات للوضع السياسي التركي. وفي مقالة له كتب بأنه على العالم أجمع أن يعرف الضرر الذي أحدثه نظام بوش بالديمقراطية التركية، وأضاف: "اعتدنا عبر سنوات طويلة أن نسمع انتقاداً صحيحاً من الولايات المتحدة الأمريكية هو: "لا توجد في تركيا ديمقراطية كافية" وبفضل إدارة بوش تحولت هذه العبارة إلى شكاية من أنه "في تركيا ديمقراطية زائدة عن الحد" وبهذا يشير باموق إلى انتقادات رموز إدارة بوش للجيش التركي لعدم تدخله في الوقت المناسب لفرض رأي داعم للولايات المتحدة على البرلمان، ويسمي باموق الديمقراطية الأمريكية بأنها "حرية حصول الجيش الأمريكي على ما يريد، وعلى الحق بضرب المكان الذي يريد أو قصفه."فهو معارض للسياسة الأمريكية، ويعتبر ادعاءات الولايات المتحدة بنشر الديمقراطية كاذبة، يدلل على هذا عدم قبولها الديمقراطية عندما يكون القرار لغير مصلحتها.
* الكاتب الأكثر مبيعاً:
كثيراً ما توجه تهمة "الكاتب الأكثر مبيعاً والأقل قراءة" للكاتب. فأرقام مبيعاته في تركيا تخطت الأرقام القياسية كلها، فهو يبيع أي طبعة من كتبه حوالي 200 ألف نسخة خلال فترة زمنية قياسية لا تتجاوز الأشهر الثلاثة. وهذه الحقيقة لا يمكن نكرانها، خاصة وأن كتبه تزور، وتباع على البسطات وهذه لا تدخل في الإحصاءات المذكورة.
سئل عن رأيه في مقولة: "الأكثر مبيعاً والأقل قراءة" فقال باموق: "لا أعتقد أنه يوجد في تركيا 200 ألف قارئ يمكنهم فهم رواية الحياة الجديدة، ولكنني أؤمن أن في تركيا حوالي 180 ألف قارئ يمكنهم فهم راوية اسمي أحمر" وحين أدلى بهذا التصريح كان قد وصل رقم مبيعات رواية اسمي أحمر إلى 180 ألف نسخة .ولكن رغم هذا يمكن القول إن كثير من الذين انتقدوه حول جذوره اليهودية ضربوا رواية اسمي أحمر مثالاً على هذا النسب. والغريب في الأمر أن هؤلاء لم يقرؤوا الرواية، فقد التقيت بكتاب، ومدراء ثقافة أتراك في أكثر من مناسبة أدبية وندوة، وحكوا لي حكايات من رواية اسمي أحمر غير موجودة في الرواية أصلاً، وعندما أقول لهم إنني مترجم الرواية، ولا يوجد شيء من هذا القبيل فيها، يبهتون، ولا يعرفون كيف يتنصلوا من الأمر، ولكنني أذكر شخصاً أو اثنين جادلا بوجود تلك الادعاءات في الرواية حتى بعد معرفتهم أنني مترجمها، وكان رد أحدهم بسيطاً: "يمكن أن يكون قد أزاله من الرواية في بعض الطبعات"، وآخر قال: "لن يكون غبياً ليكتب هذه الأمور بشكل مباشر، لابد أنه أخفاها بين كلمات الكتاب" يبدو أن هذه النوعية من المثقفين هي وراء ادعاء "الأكثر مبيعاً، والأقل قراءة" لأنهم لم يقرؤوه، وهكذا يعتقدون أن أحداً لم يقرؤه.
*منتقدوه معجبون به... أحياناً:
ثمة قضية طريفة في منتقدي باموق، وهي أن عدداً كبيراً من النقاد الأتراك ينتقدون باموق بحدة، ويكيلون له مختلف التهم. فأحياناً يقولون عنه: "إنه يستهين بنا" و"يستخف بعقولنا.."... وإقدامه على تصرفات كانت سبقاً في ميدان الثقافة التركية، فقد نظمت حملة دعائية متكاملة، من إعلانات طرقية، ملصقات لروايته "ثلج" وهذا ما لم يحدث مع غيره من قبل، وأثار غضب الكثيرين معتبرين أن هذا الأمر يخالف القواعد المعمول بها في الحياة الثقافية التركية. ولكن الملاحظ أن منتقديه هؤلاء معجبون به. كيف؟ كثيراً ما نقرأ مقالة نقدية يوجه فيها كلام من "تحت الحلة" لباموق ورواياته تصل إلى حد عدم وجود جملة فنية واحدة في رواياته، ولكن الناقد يستثني واحدة من تلك الروايات قائلاً: "إنها غير عادية، وهامة، وهي الرواية الوحيدة التي تستحق المديح." وحين نتناول عشرات المقالات من هذا النوع نجد أن كل ناقد يستثني رواية غير التي استثناها الآخر، وهكذا نجد رواياته كلها قد أعجب بها منتقدوه.
الجمل
إضافة تعليق جديد