الكونغو: اغتصاب أبيض بغطاء اسود
كوارث الحرب ووحشية الاغتصاب، معروفة تاريخياً، ويمكن ردّ بدايتها إلى ما تلا المعركة، وبالتالي الهزيمة التاريخية الأولى حينما سيطر الرجل على المرأة، وهي هزيمة برسم التجاوز حتى اليوم. وعلى مدار التاريخ الذي يغطي المسافة من حينها لهذا الحين، لم يكن الاغتصاب الحربي أمراً مكتوماً ولا مموهاً، بل كان جزءاً من الحرب نفسها. وربما لهذا تحديداً تُجمع النساء على رفض الحرب، باستثناء نساء الأنظمة الحاكمة وبعض نساء الطبقات المستفيدة.
لكن البشرية في ظل راس المال، أو نظامها العالمي، ومن ثمَّ نظامها العالمي الذي أُسمي جديداً، ولا ندري بعد الأزمة المالية إن كان سيتغير اسمه، باختصار، في ظل هذا النظام، وبناء الأمم المتحدة وما تمفصلت عنها من لجان ومنظمات وشرائع...الخ، في ظل هذا جرى الفصل بين الحرب والاغتصاب! وكأن لا علاقة بين هذه وتلك، والأخطر جرت تغطية اصحاب قرار الحرب لتبدو وكأنها كارثة طبيعية، بينما يدور التركيز على المغتصب المباشر وعلى الضحية التي لا تعرف سوى من فتك بذهنها ومشاعرها وذاكرتها وجسدها وحسب.
كان لي ان استمعت صدفة لخبر في محطة بي بي سي البريطانية وهي تتحدث عن اغتصاب النساء في الكونغو وعن انجابهن من أُسموا "أطفال الحرب". وتحدث المذيع بالطبع عن الاغتصاب المتبادل بين القبائل/الدول المتقاتلة. وتوقف عند هذا!
لعل أول ما طرأ في ذهني هو هذا التتابع المتفاقم لحياة المغتصبة، وأي وقع. اغتصاب ، وحمل، وفقر، ووضع، ومشاعر مختلطة بين التخلي الاحتضان، ومواصلة التشرد والجوع والتحول إلى رب اسرة...ولا ندري ماذا بعد!
لعل أخطر ما في الموقف هو ذلك القطع الخبيث الذي قامت به المحطة حيث أوقفت الأمر عند وحشية الرجل ومعاناة الضحية منذ لحظة المطاردة حتى لحظة التحول إلى طريدتين هي والطفل وما بعدها، ليبدو الأمر كما لو كان صراعاً داخلياً في الكونغو.
وكأن ليس هناك مسبب رئيسي ومغذي رئيسي لهذه الحرب، هي الدول الراسمالية الغربية التي تنهب ثروات الكونغو، والتي تحول دون ثبات اي نظام وطني هناك. ما يدير الحرب في الكونغو هي شركات بلجيكية وفرنسية وبريطانية وأميركية وغيرها. هي حرب الشركات التي ترسل اسلحة الأنظمة وأموالها كل لعملائه ليحتجزوا تطور البلد. هي إذن حرب واغتصاب بالإنابة. وليس غريباً ان يذهب وزيرا خارجية بريطانيا وفرنسا إلى الكونغو "للوساطة" بين المقتتلين! أما اساس الوساطة فهو التيقن من سلامة الاستثمارات تحت اي نظام.
لو كنت خبيرة في شؤون الكونغو لقمت بعمل واسع عن "المتحاربين والمحتربين في الكونغو". ويكفي البدء من دخول الاستعمار البلديكي إلى هناك، وقيامه بالتحالف مع مشايخ العشائر لتخليد نمط الانتاج السلالي هناك Lineage Mode of Production الذي دعمت بلجيكا بطريركيته ليسمح لها باستعباد العمالة الكونغولية ونهب المواد الخام، مقابل رسوم معينة وإبقاء البلد تحت حكم هؤلاء. إذن، فالبطريركية المتعاملة مع المستعمِر هي التي مارست تسهيل اغتصاب الأم-الأرض، ومن ثم اغتصاب ابنتها بتواصل حتى اليوم. ولا حاجة للتفصيل كيف سهلت قوات الأمم المتحدة (1963) اغتيال لومومبا وتقسيم الكونجو ودعم موبوتو وتشومبي...الخ. وبالمناسبة، كان سعد الدين الشاذلي قائد القوة المصرية التابعة للأمم المتحدة هناك حينها، وهي القوات التي رفضت الدور الوسخ للأمم المتحدة ومن ثم سحبها عبد الناصر من الكونغو.
في تجربته في الكونغو (1965) يُدون تشي جيفارا نقده لمقاتلي حرب الغُوار (العصابات) الكنوجوليين بقيادة لورا كابيلا والد الرئيس الحالي، بأنهم كانوا ينفقون وقتاًَ طويلاً في مضاجعة المومسات. هذه واقعة لكنها ليست اغتصاباً.
هي قصة طويلة، ولكن بيت القصيد أن دول الغرب الراسمالي هي التي قامت وتقوم بمختلف الحروب، وما تحمله معها من مختلف الاغتصابات، وبعد ذلك أو خلاله، تختفي عن المسرح، هذا إذا بانت، ويبقى على المسرح مشهد الاغتصاب المحلي. وتنشط بالتالي منظمات حقوق الإنسان، وبشكل محموم في الحديث عن الاغتصاب وعرض مشاهد منه، واستنطاق المغتصبة لتعميق جراحها...الخ وكل ذلك في عملية هستيرية خطرة تجعل من الاغتصاب حالة افريقية سوداء، وتُبقي أوروبا واميركا : "بيضاء من غير سوء"!
إن الأنظمة نفسها والطبقات نفسها وما بينهما الشركات نفسها هي التي تقوم بالحرب وتهيىء للإغتصاب وتطلب حصوله عند الاقتضاء، وهي نفسها التي تمول منظمات الأنجزة وحقوق الإنسان التي تملأ الأرض نحيباً ضد الاغتصاب، وصراخاً لتمكين النساء. أيُّ تمكين مقابل تمكين الاستغلال والربح والبطريركية.
هذا في الكونغو، فماذا عن العراق والصومال وافغانستان...الخ . نعم، ما يبدو على السطح بل ويحصل هو الاغتصاب المحلي، ولكن لا بد من كشف الوحش الهائل الذي يقف بمصالحه وراء مشروع الاستعمار والاستغلال والربح الأقصى مما يجعل المغتصبين مثابة "ديدان صغيرة" في معدة الوحش اليافياثان الذي تحدث عنه توماس هوبز.
أما وهي على هذا الحال، فلا اقل من أن نتنبه ونخشى راس المال ونحن نقرأ ونحن نسمع، ونحن نمشي حتى ونحن نياماً!؟
بادية ربيع
المصدر: نشرة كنعان
إضافة تعليق جديد