الناسخ والمنسوخ وتداخل المفاهيم التفسيرية والفقهية والكلامية
تحدث الدكتور محمد عابد الجابري في سلسلة مقالات أسبوعية على صفحات «الاتحاد» الإماراتية (من 29/05/2007 إلى 03/07/2007) عن النسخ في القرآن، وحاول حل هذه الإشكالية بالانطلاق من فرضية لا تخلو هي نفسها من إشكالية، وهي بتعبيره «إن حل مشكلة النسخ لا يكون نهائياً ما لم ينطلق من القرآن نفسه، فإذا نحن استطعنا إثبات ألا دليل في القرآن على وقوع النسخ في نصوصه، صار بإمكاننا حل المشكل من أساسه». إن الإشكالية في هذه الفرضية تكمن في الخلط بين التفسير والفقه ومقاربة مشكلة النسخ على أنها مسألة تفسيرية (نسبة إلى علم التفسير التقليدي) من دون مراعاة، أولاً، كونها مسألة فقهية بالدرجة الأولى لا يلتمس حلها بالانغلاق داخل النصوص القرآنية بل بقراءة هذه النصوص في ضوء واقع الفقه، ومن دون مراعاة، ثانياً، كونها مشكلة كلامية – تأويلية ترجع إلى مشكلة كبرى، هي طبيعة القرآن ككل.
إن المقاربة السليمة لهذه المسألة الشائكة لا تكون بالمجادلة في الآيات التي يقال إنها تتحدث عن النسخ ومحاولة نفي أن هذه الآيات تتحدث فعلاً عنه، بل تكون بدراسة موضوعية لآيات الأحكام وكيف تم تلقيها في الفقه، فهذه ليست مسألة تفسيرية نتأرجح فيها بين آراء المفسرين، بل هي مسألة فقهية تحسم بالمقارنة بين الأحكام المقررة في آيات الأحكام من جهة والأحكام المقررة في واقع الفقه من جهة أخرى، كما أنها إشكالية ثيولوجية - هرمنطقية لا تحسم ببساطة بتحليلات فلولوجية.
وهكذا من دون الانطلاق من خلفية فقهية أو رؤية تأويلية بل بالانطلاق من سلسلة مناقشات منغلقة داخل النصوص القرآنية وتحليلات لغوية معجمية لمعنى هذه اللفظة أو تلك وتفسير هذه الآية أو تلك (explication de texte)، خلص الدكتور الجابري إلى انعدام الدليل القرآني على النسخ بمعنى نسخ آية قرآنية بأخرى، وإلى أنه «لا نسخ في القرآن إلا بمعنى أن الله يبدل معجزة نبي سابق أو شريعته ككل بمعجزة أو شريعة أخرى لنبي لاحق أو ينسخ أو يمحو ظاهرة طبيعية مثل الليل ليجعل مكانها ظاهرة طبيعية أخرى مثل النهار»، وأنه، باختصار، «ليس في القرآن ناسخ ومنسوخ».
إن أول ما يستوقفنا هو التسليم بنسخ شرائع الأنبياء السابقين، على رغم التسليم بأنها وحي إلهي، وإنكار النسخ في الوحي القرآني. فإذا جاز النسخ في الوحي الإلهي من حيث المبدأ، فلماذا الإصرار على نفي وقوعه في القرآن؟ هل هي فقط مسألة يهودية ومسيحية متقدمة في الزمان وإسلام جاء بعدها فحق له أن ينسخها، أم هي عقدة استعلائية سجالية تميز بين وحي ووحي لأجل التمييز لا غير، أم هو إشفاق من النسخ ونأي عن مواجهة إشكالية التوفيق بين أزلية الوحي في جوهره بالنظر إلى مصدره الإلهي وحدوثه في الزمان والمكان بالنظر إلى متلقيه البشري؟
إن الإحجام عن مواجهة هذه الإشكالية الجذرية واضح من دعوة الدكتور الجابري إلى «الاستغناء عن مقولة الناسخ والمنسوخ التي تجعل الناسخ يحل محل المنسوخ ويبطل حكمه، وكأن المنسوخ كان خطأً وأن إرادة الله قد تغيرت».
ولكن هذا التبرير للتخلص من مقولة الناسخ والمنسوخ هو الذي يجب أن يدعونا إلى التوقف عندها. فحل هذا المشكل لا يكون بالنقاش على مستوى «الخطأ» و «تغير إرادة الله»، بل بالنفاذ إلى لب المسألة وهو إزدواجية الطبيعة القرآنية، أي أن نتساءل، بلغة علم الكلام، عما إذا كان القرآن قديماً وحادثاً معاً، أو، بتعبير آخر، عما إذا كان القرآن، وهو كلام الله، كلام حادث في الزمان بالنظر إلى أحكامه التشريعية التفصيلية المنظمة للمجتمع البشري يطرأ عليه من النسخ قدر ما يطرأ على هذا المجتمع من تغيير، ولكنه كلام إلهي، أي أنه في أم الكتاب، وثابت أزلي في اللوح المحفوظ، بالنظر إلى ثقله الروحي ومقاصده الأخلاقية، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فإدراك مغزى مسألة طبيعة القرآن يجب أن يشمل، أولاً، أبعادها السياسية، إذا قد تكون مثلت صراعاً في عهد العباسيين بين الحكام والعلماء، وثانياً أبعادها الفلسفية، باعتبارها تعبيراً عن الحيرة الأزلية بين التنزيه والتشبيه، وثالثاً أبعادها التأويلية - الأخلاقية - التشريعية لما تستدعيه من موقف محدد بين مقاصد الشريعة والنصوص الفردية.
إن نظرية «التدرج في الأحكام» ليست حلاً موفقاً لإشكالية النسخ، بل هي مجرد محاولة للخروج من المأزق. فعلى رغم أن التدرج موجود في القرآن كمفهوم عام وكنتيجة طبيعية لتنجيمه في الزمان، فما زال التدرج في أحيان كثيرة يتخذ معنى خاصاً هو النسخ عندما لا يمكن التوفيق في العمل بين الآيتين إلا على أساس أن أخراهما بديل لأولاهما.
ففي مسألة تحريم الخمر، على سبيل المثال، هناك تدرج بين آيات سورة البقرة (219) وسورة النساء (43) وسورة المائدة (90-91)، من حيث بيان غلبة إثم الخمر على نفعها أولاً ثم تحريم الصلاة تحت تأثيرها ثانياً ثم تحريمها نهائياً ثالثاً، فلا توجد بالضرورة علاقة ناسخ ومنسوخ بين هذه الآيات، إذ يمكن الجمع بين أحكامها جميعاً، فلا زالت غلبة إثم الخمر ثابتة وكذلك تحريم صلاة السكران إلى جانب حرمة الخمر في جميع الأوقات. ولكن الأمر ليس بهذه البساطة في كل الحالات، إذ يكتسب التدرج معنى خاصاً محدداً هو النسخ في الحالات التي لا يمكن الجمع فيها بين الآيتين.
فمثلاً في مسألة الوصية للمتوفى عنها، لا يوجد مذهب فقهي معتبر يوجب الوصية لها على رغم صراحة نص الآية (البقرة: 240) في وجوب الوصية لها بالمتاع والسكنى مدة حول. إن هذا هو الدليل المستقل الخارجي الذي يعول عليه في فهم الآية وليس السجال التفسيري اللغوي المنغلق على نفسه داخل النص. إن هذه أحكام فقهية شرعية لا يرجع فيها إلى الأفهام الذاتية بل إلى ضوابط موضوعية تقوم على أدلة مستقلة. ولا مانع من تعضيد هذه الأدلة الخارجية المستقلة بقرائن قرآنية داخلية على سبيل الاستئناس فقط عندما يقوم الدليل الخارجي المستقل. فهنا نجد آية البقرة الأخرى (234) تقصر عدة المتوفى عنها على أربعة أشهر وعشر، وتبتدئ بنفس عبارة «والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً» وتنتهي بنفس جملة «فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن»، مما قد يعني أن التكرير هنا إشارة إلى النسخ، بخاصة مع عدم إمكان الجمع بين الحكمين والمدتين المختلفتين في الآيتين، ومع تفصيل ميراث المتوفى عنها في سورة النساء (الآية 12).
أما تأخر الآية (240) في ترتيب المصحف عن الآية (234) فليس دليلاً على التأخر في النزول، فمن المعروف أن ترتيب المصحف عموماً لا يخضع لترتيب النزول، كما أن التأخر في ترتيب المصحف قد يدل على نسخ الآية وتقديم الآية الناسخة عليها لأهميتها العملية، وهو أمر يتضح بمجرد إلقاء نظرة على وضع الآية (240) الحالي في المصحف وعزلها عن بقية آيات أحكام الأسرة في السورة (هي والآية 241 التي سنأتي إليها فوراً) بآيتين متعلقتين بالصلاة. ولكن هذه تبقى قرائن لا ترقى إلى مستوى الدليل الخارجي المستقل المستقى من الفقه والذي يقطع بأن الآية منسوخة.
وكذلك لا يوجب الفقهاء، وعلى الأخص الحنفية والمالكية، المتاع لكل مطلقة على رغم صريح حكم الآية (241) من السورة نفسها. وهذا الدليل الفقهي العملي تدعمه أيضاً قرائن داخلية هي الآية (236) من نفس السورة التي تقصر الحق في متعة الطلاق (وهي غالباً كسوة بحسب العرف) على المطلقة قبل الدخول التي لم يسم لها مهر، مع تكرير وصف المتاع بأنه «بالمعروف حقاً» في كلتا الآيتين، ومع تقديم الآية الناسخة على المنسوخة في ترتيب المصحف وعزل الأخيرة عن بقية آيات أحكام الأسرة في السورة مع الآية (240) المذكورة أعلاه.
وأيضاً لا يوجد قول يؤبه له يجيز الفدية بدل الصيام للقادر عليه، على رغم صريح حكم الآية (184) من سورة البقرة (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين). وكذلك لا يؤبه هنا لبعض التخريجات اللغوية المبالغ فيها التي تفترض «لا» قبل «يطيقونه»، لتجتنب الإقرار بالنسخ، ومن ثم تؤدي إلى فرض الفدية على الشيخ الكبير، بدليل أن مالكاً رحمه الله لا يوجب الفدية عليه.
ويؤيد هذا الدليل الخارجي الفقهي القرينة الداخلية المتمثلة في الآية التالية مباشرة التي فرضت صيام شهر رمضان بدل الأيام المعدودات في الآية السابقة، وفرضت ذلك على جميع القادرين غير المرضى أو المسافرين من دون اعتبار للفدية والتخيير في الصوم، مع ملاحظة تكرير «مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر» في هذه الآية الأخيرة، كما لو كان ذلك هو الجزء الوحيد الذي ظل محكماً في الآية السابقة وبإعادته في الآية الأخيرة أصبحت السابقة كلها منسوخة.
وهكذا لا يتسع المجال لاستعراض الأمثلة العديدة الشاهدة على الناسخ والمنسوخ، والتي تشهد أيضاً على أصالة الفقه الإسلامي وأنه لم ينشأ بمعزل عن القرآن الكريم. بل إن هناك بعض النصوص القرآنية التي لم يدّع المفسرون فيها النسخ بينما يقوم الفقه دليلاً على النسخ فيها. ومن ذلك آية القصر (النساء: 101) التي قد يفهم من ظاهرها أن الخوف شرط لقصر الصلاة، بينما يدل القدر المتيقن من الإجماع (أي فقه المدارس السنية الأربع والشيعية الثلاث مع الإباظية) على جواز القصر في السفر دون شرط الخوف، مما قد يشير إلى أن الآية قد عُرضت، أي أعيد نزولها في عرضة من عرضات الوحي (حيث كان القرآن يُعرض، أي يعاد وحيه، كل عام في شهر رمضان) واتخذت شكلها النهائي الحالي بنزول «وإذا ضربتم في الأرض» في أولها، بحيث نسخ شرط الخوف بإباحة القصر في السفر في حال الخوف والأمن، وصار الجزء المحكم منها هو «وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة»، أما الجزء الباقي منها فهو منسوخ حكماً ولكنه باقٍ تلاوة، لأن مبدأ النسخ مقصور على الحكم بينما الذكر باقٍ بمقتضى مبدأ الحفظ («إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»)، فالنسخ بمعنى من المعاني صورة من صور الحفظ وليس العكس كما يشفق المشفقون (أما ما يسمى بـ «نسخ التلاوة»، سواء «نسخ الحكم والتلاوة» أو «نسخ التلاوة دون الحكم»، فهي دعاوى لا ينهض عليها دليل وتتعارض قبل كل شيء مع مبدأ الحفظ).
بعد هذه الإلمامة السريعة بالأبعاد الفقهية والكلامية لمسألة النسخ، تبقى الإشارة لمضامينها التاريخية. فلهذه المسألة أبعاد خطيرة تتعلق بنشأة الفقه ونشأة الدين الإسلامي بصورة عامة، إذ أن إنكار النسخ قد يعني في التحليل الأخير أن الفقه قد نشأ بمعزل عن القرآن، للتعارض الواضح بين بعض أحكام الفقه وظواهر بعض النصوص، مما قد يلقى شكوكاًً كثيفة حول أصالة الفقه أو قد يتخذ دليلاً للنظريات المعاصرة لـ «المراجعين الجدد» في بعض الأوساط الأكاديمية الغربية التي تذهب إلى أن القرآن لم يجمع إلا بعد القرن الثاني الهجري وتدعي الاستدلال على ذلك بنشأة الفقه بمعزل عنه. فلا أدري كيف نبيح لأنفسنا الخوض في هذه المسائل الحساسة من دون أن نحسب حساباً لهذه النظريات المستجدة وللنتائج الخطيرة التي قد تترتب على إنكار النسخ ومن ثم تأكيد هذه النظريات، بدل الانتباه إلى أن النسخ دليل على تاريخية المصحف كما هو بين أيدينا وعلى معاصرته للمراحل المختلفة من بعثة الرسول (عليه الصلاة والسلام) من ناحية وعلى تاريخية الفقه وقيام أسسه الأولى على القرآن وسنة الرسول الكريم من ناحية أخرى.
إن النسخ ليس ببساطة نظرية تفسيرية يمكن دحضها بمحاججات لغوية معجمية لنفي هذا المفهوم عن النصوص القرآنية التي ذكر فيها النسخ أو بالمحاولات الاعتذارية التبسيطية للتوفيق بين النصوص الناسخة والمنسوخة، بل هو مفهوم فقهي أصيل ذو أبعاد كلامية ودلالات تاريخية.
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد