بيار لوتي وأطياف الشرق
لم تفقد روايات الكاتب الفرنسي بيار لوتي (1850-1923) عن الشرق بريقها، ولا تزال شخصيته الغريبة الأطوار وحياته الرومانسية المملوءة بالأسفار والأهواء تتمتعان بجاذبية كبيرة حتى اليوم. ويظهر ذلك جلياً من خلال الإقبال الذي يشهده المعرض القائم راهناً في متحف «الحياة الرومانسية» (باريس) تحت عنوان «بيار لوتي – أطياف من الشرق».
ولتكريم هذا الكاتب – المسافر أبداً، نظّم المعرض على شكل دعوة إلى السفر والتذكّر: اسطنبول، الجزائر، مصر، صحراء سيناء، ولكن أيضاً «السكون الأبيض» لضباب أيسلندا وكآبة الطفولة في بلدة روشفور الفرنسية. ويسعى المعرض أيضاً إلى كشف التطابقات الكثيرة بين نصوص لوتي الشهيرة مثل «أزييادي» و «صياد من أيسلندا» و «الصحراء» و «الطفولة الأولى» و «أطياف من الشرق»، وعشرات الأعمال الفنية المعاصرة لهذه النصوص أو اللاحقة، وتتوزّع على لوحاتٍ ورسومٍ وصور فوتوغرافية وتحف فنية مختلفة. ففي الصالة التي تحمل عنوان «ألوان الشرق»، تستحضر لوحات دولاكروا ودوكان والرسامين المستشرقين أسفار لوتي إلى تركيا (اسطنبول في شكل رئيس) والمغرب العربي. وفي الصالة التي تحمل عنوان «حريم وجوار»، نشاهد بطلات رواياته: أزييادي وسُليمى ونساء القصبة الثلاث، مجسّدة في لوحات منها «بورتريه فتاة من شمال أفريقيا» الذي حققه بورتايلز ولوحة دولاكروا «داخل الخدر» التي تسكنها أسيرات جميلات. أما تمثيل «الصحراء» كما رآها لوتي، أي كحلم فضاءٍ لا حدود له وكرغبةٍ في نسيان الذات وخصوصاً كمكانٍ مثالي، فيعود إلى دوزا وجيروم وبروكمان. ويحضر لوتي شخصياً داخل المعرض عبر سلسلة بورتريهات له، أبرزها بورتريه ليفي دورمر المعروف، وعبر مجموعة صور لمنزله في بلدة روشفور الذي يتميّز بديكور شرقي ويعج بالقطع الفنية الإسلامية. وتكتمل صورة هذا الروائي الكبير عبر كشف المعرض، للمرة الأولى، عن أربعين رسماً حققها بنفسه.
ومنذ طفولته، شعر لوتي بميلٍ كبير إلى السفر. لكن جاذبية البعيد التي دفعته إلى مغادرة مسقطه لن تتمكّن من فك ارتباطه الحميم بالمنزل الذي وُلد فيه. بل كان عليه العودة في كل مرة إلى الوراء لقبول الآني: «أشياء لا قيمة لها تأمّلناها طويلاً في عمرنا الأول تكفي لدفع قدرنا في هذا الاتجاه أو ذاك». ولعل هذا الارتباط يعود إلى خوفه الباكر من الشيخوخة والموت، وبالتالي إلى هاجس مرور الزمن الذي تملّكه طوال حياته. وقاده هذا الحنين الثابت إلى مكان ولادته، إلى تنقل دائم بين الحاضر والماضي، ذلك الماضي الذي لا أحد يستطيع سلبه إياه، سنده أمام أي تهديد بالتغيير أو التقدّم: «لا أحبّ أبداً الأشياء التي تتغيّر». ولفهم هذا الموقف الخاص، يُذكّرنا المعرض بالظروف التي ترعرع فيها لوتي بين والدته وأخته وجدّته وخالاته اللواتي كنّ يعشن تحت سقفٍ واحدٍ، من دون والده. وسينمّي هذا المحيط النسائي فيه حساسية مفرطة ويطبعه بقلقٍ غامضٍ يلاحقه طوال حياته. وللهروب من مناخ المنزل الملبّد، كان يتخيّل «المستعمرات» الفرنسية التي اكتشفها لاحقاً: «آه، «المستعمرات». كيف أقول ما كانت توقظه هذه الكلمة في رأسي!».
وتشكّل لغة لوتي الروائية غرفة أصداء مسكونة بالذكريات والتأوّهات والانعكاسات. ويكفي صوتٌ أو رائحةٌ أو بريقٌ لإنارة صفحةٍ وتأجيج انطباعاتٍ ورسم أطر حضورٍ متلاشٍ أو جسدٍ. أما نصوصه المختلفة فتتجاوب وتتداخل لتشكّل رثائية واحدة. فرواية «أزييادي» تتراءى بين فصول «رواية طفل»، خصوصاً من خلال ذلك المناخ الشتائي بأنواره الشاحبة والحاضر في الروايتين. وفي رواية «نساء القصبة الثلاث»، ينبعث من موجة روائح مدينة الجزائر عطر الطفولة والياسمين الذي عرفه في حديقة منزله في جنوب فرنسا. ويكفي أن يُغلق الروائي عينيه من جرّاء خُدرة الجنوب حتى ترتفع أغنية السنوات الضائعة فوق مدن الشرق البيضاء، حيث تستحضر أصوات المؤذنين فصول الصيف النيّرة لطفولته وأصوات الجراد في غابة ليمواز المحاذية لبلدته والنوتات الرقيقة التي كانت أمّه تكررها خفيةً.
ووفقاً للكاتب الفرنسي أندريه سُوارِس الذي خطّ أفضل «بورتريه» له، عاش لوتي «تحت شعار الوداع». فبالنسبة إلى البحّار الروائي، كل ساعة تدق هي دائماً موعد إبحار، وكل بلد زاره لن يلبث أن يغادره، وكل شعلة حب عرفها فيه لن تلبث أن تبرد وتتحوّل رماداً. وفي اختلاج اللحظة وخفقان الدم، «مُلكنا الوحيد»، استشعر لوتي بشبح الموت وتهجّس بطيف النسيان. ومثل معظم الشعراء، تمتع بموهبة النظرة المزدوجة إلى حدود الدوّار: «أن أكون في آنٍ واحد ذلك الذي يرحل وذلك الذي يبقى، ذلك الذي يهجُر وذلك الذي يُهجَر، ضابط البحرية العديم الذاكرة ولكن أيضاً الزوجة الوفية». ولهذا لا يروي لوتي غالباً في كتبه إلا ذلك الارتجاف تجاه الكائنات والأشياء وانحدار الأيام المخيف. فمعظم رواياته تشبه إلى حد بعيد أسلوب المذكّرات لمقاربتها أشياء صغيرة بالكاد موجودة وبالكاد يمكن إدراكها، مثل هدير الزمن والشعور المقلق بالزوال. لكن صفحاته الحميمة هي أيضاً يوميات هروبٍ تمليه رغبة حثيثة في الخروج من الذات نحو ضفافٍ أخرى.
ليس من الصعب فهم لماذا شكّلت مدينة اسطنبول موطنه الآخر ومنفاه المرغوب فيه. فهي أيضاً مزدوجة، تنقسم مرة أولى إلى ضفة أوروبية وضفة آسيوية عند مضيق البوسفور، ومرة ثانية بين اسطنبول القديمة وتطلعاتها الغربية عند خليج المدينة. وتكرّس هذه الجغرافيا الساحرة جسد المدينة لارتعاشات نابعة من ذكريات قديمة وقصص حب مؤثرة، معلّقة فوق بُخار البحر، يحيي حضورها الغامض أطياف الشرق ويتلاءم مع تنهّدات «تلك النفوس الرقيقة المرتجفة» التي تقطن روايات لوتي. وتنقل الكاتب في كل أنحاء الشرق وتوقف في بلدان عدة مفتوناً وملهماً، وفي شكل خاص في مصر والمغرب العربي...
ويوفر المعرض لزواره فرصة ملاحظة عمق الصلات بين نصوص لوتي ورواياته الشرقية ولوحات أبرز المستشرقين، إن على مستوى المواضيع المعالجة أو على مستوى الأماكن أو المشاهد الموصوفة وتفاصيلها. ويتوقف المعرض عند اهتمام لوتي الخاص بالفنون الإسلامية بعيداً من النظرة الكاريكاتورية التي قد يمنحنا إياها ديكور منزله في روشفور أو تنكّره الدائم بزي أميرٍ عربي.
قبل سنة من استحداث «الصالة الشرقية» في «المعرض الدولي» عام 1878، وقبل المعرض الأول الذي تناول «الفن الإسلامي» في باريس عام 1893، عكست رواية «أزييادي» عمق نظرة لوتي الحية بتأمّلاتها ومساءلاتها. والهندسة الإسلامية، مثل معظم أشياء الشرق وخصوصياته، خضعت تحت ريشته لوصفٍ دقيقٍ ومثيرٍ بلغةٍ ابتعدت من المفردات التقنية وشكّلت بقدراتها التعبيرية الكبيرة مرجعاً في الوصف الأدبي لعملٍ فني حقيقي أو خيالي.
أنطوان جوكي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد