تاريخ أنابيب
الجمل ـ رشاد أنور كامل:
عندما يرسل لك صديق دراسة عن العلاقات الصهيونية مع اعضاء الكتلة الوطنية السورية وبعض رجال الدولة والثورة في الثلاثينيات واثناء الثورة العربية الكبرى، فتبدأ بالانزعاج من العنوان، لأن تكوينتنا السورية التي بنيناها عبر المسلسلات التلفزيونية، والمناهج المسطحة والعقائدية، قد حددت شكل وكيف نقارب تاريخنا ورجالاته، فلايمكن مثلا لابطال الثورة السورية مثل جميل مردم، ولطفي الحفار، ونسيب البكري، وبقادة المعارضة الشهبندرية، مثل عبد الرحمن الشهبندر، ومحمد الأشمر، ونصوح بابيل، أن يكون لهم أي علاقة أو تعاطف بلفوري مع القضية الصهيونية، ولكن الوثائق التي تم الافراج عنها في اروقة المخابرات العالمية والصهيونية تثبت عكس ذلك.
وتنغمس بحزن بالقراءة، حول كيف تمكنت الوكالة اليهودية في شباط/ فبراير 1938 من تحقيق إنجاز مهم جدًّا عندما نجحت في تجنيد نسيب البكري، أحد قادة الكتلة الوطنية في سورية، للعمل جاسوسًا لها مقابل مبالغ مالية دفعتها له.
ويتبين من الوثائق الصهيونية أن نسيب البكري ظل عميلًا للوكالة اليهودية سنواتٍ وحصلت الوكالة منه على معلومات دقيقة عن الثوار الفلسطينيين، وعن أنصارهم السوريين، وعن طرق دخولهم إلى فلسطين، وطرق تهريب السلاح من سورية إلى فلسطين، وعن مصادر السلاح وكمياته، إضافة إلى تقريب الوكالة اليهودية من محمد الأشمر والأهم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر.
وتستمر الدراسة في سرديتها المحزنة ، تلك السردية لا تنفصل عن قصص قرأتها سابقاً في مذكرات الفريق حسين تحسين باشا الفقير قائد الفرقة الاولى في معركة ميسلون والذي كان عندها برتبة قائم مقام (عقيد)، والذي وصف في مذكراته تسلسل الخيانات التي ساعدت الفرنسي في دخول سورية، ومنها نسف وتخريب جسور سرغابا والتكية على خط القطار الذي كان يحمل 1700 متطوع للقتال في ميسلون و 700 بندقية ، وكيف هرب معظم المتطوعين بالبنادق التي استلموها ، ولم يصل الى القتال منهم الا 300 متطوع، والباقي فر وسرق معه ما استلمه من سلاح.
وكيف أن أعوان الفرنسيين من السوريين واللبنانيين مثل نسيب أبو داود ، وتوفيق العريان ومن معهم هاجموا الهجانة من الخلف وقتلوا منهم الكثير ، الهجانة التي كانت تندفع ضد الفرنسين، بعملية شجاعة. وخيانة القائم مقام جميل الألشي الذي كان قد اطلع على الجيش في ميسلون وقام بتعريف الجيش الفرنسي على مواضع الضعف فيه، وكيف تم قطع خطوط الاتصال بين الجبهة وبين دمشق عبر العميل هاشم القباني ومعاونيه ... والسلسلة تستمر ، لتصل الى قيام أبو شكري الطباع ورفاقه بفك لجام بغال عربة غورو الداخل الى دمشق وجرها الى اماكن الاحتفال بقدومهم.
والسرديات من هذا النوع ، ربما تطال الكثير من العائلات السورية واللبنانية والفلسطينية والاردنية، ربما بعضهم اقرباء لنا ... فهل نفتح دفاترنا القديمة ، وهل نتخلص من هذا اللغم التاريخي .
في سهرة منذ 25 سنة جمعتنا بالصدفة مع عائلة مرموقة فلسطينية، تعيش بين لندن وبيروت، استطردت أمهم الكبيرة متحدثةً عن ذكاء زوجها وعلاقته الطيبة باليهود الذين هم نصحوه بالبيع والخروج من فلسطين، أي أنهم انذروه بما هو قادم ، واساورها الألماس الذي كان بيدها كان شاهداً على مافعل ، فما كان من زوجتي الفلسطينية الصغيرة التي كانت تغلي بجانبي، إلا أن تقول لها : يفترض أننا من نفس البلد، ومن نفس البلدة ايضاً، ولكن أبي خرج ولم يبع وخسر كل شيء ... وأنا اليوم لا ابيع لو عرض علي ... وساد الصمت ... في الوقت الذي كان فيه الحديث مطلوب.
الفلسطينيون فتحوا مركزاً لتوثيق من باع ، ومن خان، ليتركوه للتاريخ ، وليتركوه على الاقل مكافأة تاريخية للشرفاء والوطنيين، فهم غالباً من يدفع الثمن، لينتهي الأمر باولادهم واحفادهم، يعملون عند من باع .
نحن في سورية عشنا أكذوبة أن تاريخنا كله شرفاء، وهذا غير صحيح ، فلا كلهم شرفاء، ولا حتى كلهم اذكياء، وبالطبع ولا كلهم وطنيون.
نحن كعرب عشنا أكذوبة تاريخية مفبركة قوامها انتصارات، وفتوحات، ودولة علم، لدرجة أننا نستطيع تلخيص تاريخنا بأنه كان تاريخ مشرق .... وهو ليس كذلك ... على الاقل ليس فيما يتعلق بالأمن والأمان وثبات الحكم، والصراعات، وسرقة الأمم الاخرى، وصولاً الى سقوط متتالي ، اوصلنا الى ما اوصلنا اليه اليوم.
وما وصلنا إليه اليوم على الأقل سورياً، هو مايهمني الآن ، لأنه سؤال مفتوح، من حق الاجيال القادمة أن تعرف كيف خسرنا اخلاقياً وتنموياً وبشرياً في معركة لانعرف عنها الإ أنها صنيعة الآخر، وهذا ايضاً غير صحيح.
التاريخ الحقيقي، هو تاريخ صراعات، وأموال تقبض، وأموال تهدر، وأيضاً تاريخ اشخاص وطنيون.
فمقابل كل خيانة هناك بطولة ، ومقابل كل سرقة وهدر، هناك من يحاول فعلاً البناء، ومقابل كل أكذوبة، هناك من يحاول ان يسرد الوقائع.
ولكن هل نريد فعلاً أن نعرف الحقيقة ، أم نريد نسخة تشبه كتب التاريخ وكتب التربية القومية والاشتراكية المدرسية لدينا؟
لنبدأ مثلاً من أين ؟
من فتح دمشق ، من قبل الجيوش الإسلامية ، تلك الجيوش التي حاصرت دمشق ستة اشهر، وعندما دخلتها باتفاق نقضته، وقتلت من قتلت، وبعدها أخذت نصف اموال واملاك الدمشقيين وللابد، هذا ولم يذكر لنا أحد أن السوريين حاربوا الخلافة الاسلامية حوالي سبع سنوات كاملة الى ان انهاروا تحت حكمهم.
وصولاً الى تاريخنا المعاصر، الذي نعرفه جيداً
هل نذكر كيف فشلت الوحدة مع مصر ، نذكره فعلاً لا كما ورد عن الانفصاليين وكأنهم من الفضاء ، وليسوا سوريين ، عبروا عن امتعاض الكثير الكثير من السوريين من التدخل المصري المخابراتي في شؤونهم، وسورية لم تكن بعد قد خبرت مثل ذلك.
هل نسرد، لما لم نسعَ حتى بعد سقوط الانفصاليين ، ان نعيد الوحدة مع مصر.
هل نسرد كيف فشلت كل مشاريع التعاون والوحدة. نذكرها فعلاً بوقائعها التي اليوم تسربت واصبحت حقائقها بين ايدينا... لا كما روتها كتبنا ومنتدياتنا، وربينا عليها وكأنها حقائق.
هل نسرد كيف فشلت الاحزاب القومية في بناء اجيال مقاومة للفكر المتطرف، هل اساساً هي سعت فعلاً لبناء مثل ذاك الجيل المنيع، والاقتصاد المنيع، والجيش المنيع ، سؤال اجابته اصبحت معروفة ، مهما غطيناها باغنيات وطنية معدة بسرعة، انما الواقع ، والنتائج، واضحة.
نحن في الواقع اخترعنا تاريخ ، بحسن نية، اخترعنا تاريخ ناصع، شفيناه من كل الشوائب، بقصد تعميم الجيد، ولكن مالم يخطر لنا بالبال أنه سينعكس علينا وبالاً، فاصبح عبادة التاريخ، ضمن مفهوم السلف الصالح، وانطبق ذلك على الاحزاب القومية والثورية والاشتراكية والشيوعية السورية نفسها، فعبادة السلف الصالح وعدم تجدد الفكر، والجمود القيادي، كلها من سمات ، رسخها، أن هؤلاء ، بزمناتهم صنعوا تاريخاً ناصعاً.... وبالواقع ، هم ، صنعوا تاريخ، لا هو بالناصع، ولا هو بالأسود، هو تاريخ ... فيه ما فيه، وعليه ما عليه ... وهذا مايجب أن نضعه أمام اولادنا .... ليتخلصوا دفعة واحدة من كل السلف الصالح وعبادة تاريخ مصطنع.
كنا نستغرب طريقة بعض الدول في التعاطي مع اولادها بصدق، لافقط بالتاريخ، إنما ايضاً بحقائق الحياة، مثل الجنس، والتكاثر، فكانوا يصارحونهم ، عن الألية التي أتو عبرها وهي انهم نتاج حب وجنس، وكان ومازال ذلك إلى الآن من المحرمات في تعاطينا مع اولادنا وحقائق الحياة، نفضل نحن أن نكتب تاريخ أسرنا وكأن لاشيء من هذا القبيل حدث .... فنحن في الواقع نفضل رواية أن نكون اطفال انابيب .
أي أننا ، نتاج أم طاهرة، وأب لانعترف بدوره الجنسي، الإ على مضض.
صممنا تاريخنا، كتاريخ انابيب، أي أن لا شهوة فيه،لا حب، لا اغتصاب، لا قهر، لا خيانة، لا انتظار، لا خسارة.
تاريخنا الانابيبي هذا، غير موجود لذلك نحن غير موجودين
وإلى اليوم نبحث عن تعريف لهويتنا "هويتنا الوطنية" التي ليس بالضرورة أن تكون طاهرة إنما فاعلة .
التعليقات
الوثائق
إضافة تعليق جديد