تجارة الخوف والأمن : مكاسب مالية واقتصادية أحداث لندن نموذجاً
الجمل ـ د. ثائر دوري : إن ما يجري حولنا من أحداث و من تغطية إعلامية لهذه الأحداث يستهدف شيئاً واحدا هو المادة الرمادية في عقولنا . هذا ما رددته بيني و بين نفسي و أنا أستمع للتغطية الإعلامية لما سمي بتفجيرات لندن و غلاسكو !
إن الكلمات السابقة ليست كلماتي بل هي كلمات جورج أوريل مؤلف رواية 1984 . حيث تصور هذه الرواية مجتمعاً توليتارياً يتحكم فيه الأخ الأكبر بالمجتمع بواسطة جهاز معقد فيتدخل بكل شاردة و واردة . و يلعب الإعلام دوراً بارزاً كأداة من أدوات التحكم فالأخ الأكبر يحدق بكل فرد من أفراد المجتمع بشكل دائم عبر جهاز التلفزيون حتى في لحظاتهم الحميمة. يقول جورج أوريل على لسان بطل الرواية ونستون سميث:" إنهم لا يريدون اعترافاته بل يريدون عقله ..لم يكن يهمهم أن يحصلوا منه على هتاف بحياة الأخ الأكبر . بل إنه يعتقد إن الأخ الأكبر لا يمكن أن يخطيء ..كان ونستون يشعر بأن الشيء الوحيد الذي ما زال يملكه حقاً و يسيطر عليه و يتحكم فيه وحده ، هو عدة سنتمترات مربعة هي مركز التفكير في رأسه و كان يشعر على نحو ما ، انه إذا استطاع أن يحتفظ بهذه السنتمترات المربعة حية في رأسه ، و أن يردد ما يدور بها من أفكار ، و لو لنفسه وحدها ، فإنه يستطيع على الأقل أن يضمن أن يستمر ..)) و يتابع :((إني أحافظ على التراث الإنساني و أحميه ، ليس بالضرورة عن طريق إسماع صوتي، بل فقط بأن أحتفظ بقواي العقلية )). و كي يحافظ على أبسط الحقائق نراه يكتب في مذكراته من حين لآخر: ((إن الحرية هي حقك بأن تعتقد بأن 2+ 2 = 4)) و لأننا ما زلنا نؤمن أن 2+2=4 ، و ما زلنا نعتقد أن الحفاظ على سنتمترات مربعة حية في مركز التفكير يشكل أعظم خدمة للبشرية فقد استوقفتنا أحداث لندن الأخيرة .
فما إن حل غوردن براون مكان توني بلير في رئاسة الوزراء حتى سمعنا عن سيارتين مفخختين تكتشفان قبل أن تنفجرا في شوارع لندن،و عن سيارة أخرى محترقة تصطدم بمطار غلاسكو فيما قيل إنه محاولة لتفجير المطار ! و تلا ذلك إجراءات أمنية رهيبة و انتشر الخوف و الهلع . و بدل أن تقوم السلطات بتسكين الرأي العام و نشر الطمأنينة ، كما تتصرف السلطات في كل أنحاء العالم، شاهدنا السلطات البريطانية تتصرف عكس ما هو متوقع منها فرأيناها تنشر الهلع و تثير رعب من لم يصب به بعد . ثم دارت طاحونة الإعلام لتصب مزيدا من الزيت على النار فتصدرت أخبار تفجيرات لندن، التي لم تحدث، نشرات الأخبار و صدر الصفحات البريطانية . و بعدها أدخلت المطارات البريطانية إجراءات أمن معقدة كفيلة بتعطيل حركة هذه المطارات إن استمر تطبيق هذه الإجراءات . و ليكتمل "الأكشن" على الطريقة الهوليودية أعلنت السلطات المختصة أن العصابة التي نفذت الاعتداءات (التي لم تحدث) لم يتم التوصل إليها بعد وأنه من المتوقع أن تضرب اعتداءات أخرى مدنا في المملكة المتحدة (مايكل إيفانز وآدم فريسكو التايمز البريطانية نقلاً عن موقع الـ بي بي سي ) . هذا مع التذكير كما هو معتاد بأن ملامح الإرهابيين أصحاب السيارة التي ضربت مطار غلاسكو هي شرق أسيوية في إشارة واضحة إلى أنهم مسلمون ، حيث أن المسلمين في بريطانيا في غالبيتهم من الهند و باكستان .
حاولت خلال بحثي على الأنترنت و من خلال ما تابعته أن أصل إلى قصة منطقية لما حدث لكني لم أستطع. فبقيت أسئلة عدة في ذهني بدون إجابة أولها: ما هذا التصادف الغريب بين تولي غوردن براون السلطة و بين التفجيرات ؟ إذ أن المنطق يفترض أن تتم في عهد سلفه توني بلير إذا كان الفاعل مجموعة إسلامية تتحرك بدافع ما يجري في العراق و فلسطين و أفغانستان . لأن رئيس الوزراء الجديد لم يفعل شيئاً بعد، بل يشاع ( و أعتقد أن هذه الإشاعة ضمن سياسة مدروسة) أنه لم يكن موافقاً على سياسة بلير في الملف العراق . و إن كنت أشك بذلك فأنا أعتبره توأماً سيامياً لبلير.
إن توقيت هذه التفجيرات يثير الريبة، فأي شخص يمتلك حداً أدنى من سلامة المنطق يدرك أن على المفجرين المفترضين أن يعطوا رئيس الوزراء الجديد فترة سماح قبل أن يبدؤوا بتوجيه الرسائل له، إذا كان هدف التفجيرات توجيه رسالة كما قيل.
الأمر الثاني أن اصطدام سيارة مشتعلة بالجدار الخارجي لمبنى مطار أمر لا قيمة له حتى و لو كانت مفخخة، فماذا ستفعل سيارة اصطدمت بجدار خارجي لمطار تبلغ مساحته عشرات الهكتارات. مع أن هناك طريقة أبسط لمن يريد أن يلحق الأذى بالناس، إذ يكفي أن يدخل رجل وحيد مسلح بسلاح فردي سهل الإدخال ثم يفتح النار على المسافرين كما يحدث بشكل متكرر في أمريكا. و كذلك فإن قصة السيارتين اللتان اكتشفتا على ما يقال بسبب رائحة البنزين المنبعثة منهما غير مقنعة و هناك أقوال متضاربة عن نوعية المتفجرات بداخلها!
إن من يقرأ التفاصيل و لو كان له خبرة بسيطة بهذه الأمور يدرك أن القصة غير منطقية على غرار ما حدث قبل أشهر في قصة الراكب، الذي قالوا إنه حاول أن يصنع متفجرات سائلة على طائرة بريطانية ليفجرها فقامت الدنيا و لم تقعد حتى اليوم إذ منعت شركات الطيران في كل أنحاء العالم الركاب من حمل السوائل من الزيت النباتي إلى الويسكي خوفاً من المتفجرات السائلة. في حين أن أي مدرس كيمياء يدرك أن تصنيع متفجرات من السوائل أمر معقد و يحتاج إلى مختبرات خاصة. لكن صوت العقل يغيب في حالات الهلع التي تقترب من الهستريا فلا تنجو إلا بعض الأصوات المتناثرة هنا و هناك و منهم الكاتب البريطاني الساخر "توماس غرين" الذي وجه النصيحة للشباب الباكستانيين المتآمرين، يوصيهم فيها بالسفر بالدرجة الأولى، وطلب قنينة "شمبانيا" ومعها وعاء ماء مثلج. ونبَّههم إلى أخذ معداتهم إلى التواليت بحذر شديد حال ما تحلِّق الطائرة فوق المحيط الأطلسي، وأن يفعلوا ذلك على دفعات لتجنب إثارة الانتباه. و"عند وضع العُدّة في مكانها ضع الوعاء، الذي يحتوي على مزيج فوق أكسيد الهيدروجين والأسيتون داخل حوض الماء المثلج في وعاء الشمبانيا، وابدأ بإضافة الحمض قطرة فقطرة، فيما تقوم بخلط المزيج باستمرار. وراقب حرارة التفاعل بعناية، فالمزيج قد يصبح ساخناً ولا تحصل إلاّ على انفجار ضعيف، وإذا اشتدت جداً سخونة المزيج فيحتمل أن تحصل على انفجار مبكر كافٍ لقتلك أنت فقط. وبعد بضع ساعات ستحصل على المادة الانفجارية، إذا نجوت بمعجزة من الاختناق بالأبخرة المتصاعدة عن التفاعل، وكل ما عليك الآن هو تجفيفها فترة ساعة أو ساعتين". ((نقلاً عن الكاتب العراقي محمد عارف))
إن حكام الغرب يتاجرون بالخوف فقد استعملوا الجمرة الخبيثة ، و السارز، و انفلونزا الطيور ، و قبل كل ذلك وحش لا شكل له و لا طعم و لا رائحة و لا يستقر في مكان أسموه الإرهاب لينشروا الخوف في مجتمعاتهم كي يسهل حكمها بعد أن تتعطل ملكة الفكر النقدي عند الناس بسبب الخوف، فالتفكير السليم و حس موازنة الأشياء يفتقدان عند المصاب بالهلع . يضاف إلى ذلك المكسب الاقتصادي المباشر المتمثل بتجارة الأمن . فالأمن و مستلزماته من تكنلوجيا و بشر باتوا اقتصاداً كاملاً يدر مئات المليارات سنوياً ، و كي يزدهر لا بد من نشر الرعب و الهلع ليزداد الطلب على أحدث منتجات التكنلوجيا الأمنية، من كاميرات المراقبة، إلى أجهزة التصوير و فحص البصمات، إلى أجهزة أشعة اكس لفحص الركاب و أمتعتهم ، وصولاً إلى توظيف آلاف الأشخاص كحراس أمنيين ...الخ .
بعد أن انتهيت من الكتابة أحببت أن أستمزج رأي صديقة تعيش في لندن ، فسألتها عن رأيها بما حدث ،فأجابتني بما يلي و ها أنا أنشر رسالتها دون إذنها لعلمي أنها لن تعترض . تقول :
((إن عملية لندن وغلاسغو مقطع في موال مستمر منذ تفجيرات لندن في الصيف قبل الماضي ،ويبدو أنهم يشعرون بالحاجة لجذب زمام انتباه الناس كلما أحسوا باحتمال أن يصاب اهتمام العامة بالفتور بفعل التكرار..رغم أن الشد الإعلامي لم يفتر ولم يكل، لقد ضمنوا هلوسة جماعية بشان الأمن و(الإرهاب) تكفيهم لسنة قادمة على الأقل، مع العلم بأن كل جذبة للزمام تعطيهم مزيداً من إحكام القيد على العوام الذين تزداد ركبهم ارتجافا عن قبل ويزداد توسلهم بالسلطات لأن تتدخل لتنصب مزيدا من كاميرات التجسس عليهم وتسلبهم مزيدا من الحريات لتؤمن أمنهم....إن الذين استفظعوا جورج أورويل وعدوه مبالغا بشأن سلطات (الأخ الأكبر) لم يتصوروا أن الحقيقة ستكون أغرب من ذلك الخيال( هذا إذا قبلنا أن ما كتبه اورويل كان محض خيال( لأنه في الرواية كان الناس يخضعون للسلطات على كره ولكنهم لم يتوسلوا إليها لتفرض القمع عليهم كما في السلطات الحالية، ويبدو أن هذا هو حقا الفرق بين الديكتاتورية والديمقراطية:الأولى تقمعك رغما عنك والثانية تجعلك تتوسل إليها أن تقمعك برضاك .......
ولكن إذا كان الإعلام الإنكليزي يلعب هذه اللعبة مع شعوبهم فما بال الإعلام العربي يركض وراءه حتى صارت صور الشرطة الانكليزية تطالعنا من كل محطة ناطقة بالضاد ..صديق انكليزي اشتكى بأنه تحمس لإدخال قناة الجزيرة في تلفزيونه ولكنها (عدا القليل الذي تنفرد به عن العالم العربي) خيبت آماله في لجوئها للتكرار والمبالغة على طريقة الـ بي بي سي.هذا الشخص كان معنا البارحة عندما أذيع نبأ الهجوم على السياح الأجانب في اليمن فقال أوه يا إلهي لو كان فيهم شخص انكليزي فمعنى هذا إننا سنشاهد وجهه على وسائل الإعلام لبضعة شهور قادمة...))
لن أضيف شيئاً بعد هذا فأنا سعيد أن كثراً ما زالوا يؤمنون أن 2+2 = 4 . و هم مصرون على الحفاظ على المادة الرمادية في عقولهم سليمة فهذا هو الأمل الوحيد بأن البشرية ستتخلص في يوم بات قريباً من هؤلاء الأوغاد الذين يحكمونها.
الجمل
إضافة تعليق جديد