تراجع الجيش السوري على الجبهات.. ماذا يعني؟
تسود في الساحة السورية فوضى، لكنها ليست جديدة. إلا ان الجديد هو بروز خط تراجعي يسير عليه الجيش السوري منذ أشهر عدة. فهل يدلّ تراجع الجيش السوري مؤخراً، سواء في إدلب أو تدمر أو درعا، على قرب انهياره، وأنه بات عاجزاً عن القتال، خاصةً أن بعض المواقع كانت تسقط بيد الفصائل المسلحة خلال ساعات قليلة؟ وهل يعني هذا أن مسلسل التراجعات سيستمرّ على هذا المنوال من دون وجود قدرة على إيقافه أو ضبطه؟ أم الأمر خلاف ذلك تماماً، وهو لا يتعلق بفقدان قدرة الجيش على القتال بل بسعيه للمحافظة على القدرة القتالية التي ما زال يتمتع بها ضمن إمكاناته المتاحة، وبعدم خسارتها في معارك جانبية تفرض عليه، وذلك ضمن استراتيجية عامة تخوّله مواجهة المشاريع الإقليمية والدولية المطروحة للتنفيذ فوق الأراضي السورية.
لا شك في أن ظاهر الحال كان صادماً، حتى لشريحة السوريين المؤيّدين للجيش، وكان صعباً ومؤلماً على هؤلاء استيعاب ما جرى خلال الأسابيع السابقة، خصوصاً بعد سقوط جسر الشغور وأريحا في الشمال وكل من السخنة وتدمر في الوسط و «اللواء 52» في الجنوب.
أما المعارضون، على اختلاف انتماءاتهم، فقد أخذتهم نشوة الانتصارات التي تحققت، واعتبروها مؤشراً على أن «ساعة الصفر» لإسقاط النظام قد دقّت. وما ساعد على ترسيخ هذين الانطباعين الحملةُ الإعلامية الضخمة التي رافقت التطورات الميدانية، وتركيزها على ضعف الجيش وقرب انهياره، وعدم قدرته على الدفاع عن المدن التي يشكل الموالون غالبية ساحقة فيها. ولا يمكن إنكار أن الموالين تأثّروا بهذه الحملة، وبات القلق سمة مشتركة عند معظمهم.
والواقع أن كلاً من قلق الموالين أو فرح المعارضين ينطوي على نسبة لا بأس بها من المبالغة. ومردّ ذلك أن الحرب في سوريا أكثر تعقيداً وتشابكاً مما يجري تصويره، فالأمر لا يتعلّق بطرفين فقط يتقاتلان بعضهما ضد بعض، وبالتالي هزيمة أحدهما تُحتسب نصراً للآخر، بل هناك أطراف كثيرة، وكل منها تختلف مصالحه مع آخرين، وفي الوقت ذاته تتقاطع مع غيرهم، ما يجعل تقييم المجريات على الأرض بحاجة إلى حساب دقيق لمعرفة مَن هو المستفيد أو المستفيدون.
كما أن الوقت يلعب دوراً حاسماً في عملية التقييم. فالحرب في سوريا هي حرب طويلة الأمد، وتسعى أطراف إقليمية ودولية عديدة إلى إطالتها قدر الإمكان، لذلك فهي أشبه بمسابقة الجري لمسافات طويلة، حيث يسعى اللاعبون المحترفون للحفاظ على قسم رئيس من قوتهم لاجتياز المسافة الأخيرة قبل خط النهاية بأعلى سرعة ممكنة، أما اللاعب الذي يستهلك كل قوته في المسافات الأولى فلن يكون له أيّ نصيب في الفوز. وخلال ذلك لا يمكن تجاهل عوامل مهمة مثل الروح المعنوية، وثقة كل لاعب بالقوة التي يحتفظ بها، وتساؤله الدائم عن القوة التي يمكن أن يكون منافسه قد احتفظ بها، وغير ذلك.
ومَن يراقب أداء الجيش السوري، بعيداً عن ادعاء المثالية، وبعيداً عن التأثّر بالحملات الإعلامية، يجد أن الخط التراجعي الذي يسير عليه الجيش، رغم خطورته، لا يمكن فهمه بعيداً عن السياق الاستراتيجي للحرب السورية. فهذه الحرب هي من أهم وأخطر الحروب التي يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وبناء عليها سيُعاد تشكيل المنطقة، ورسم الحدود بين دولها وتعديل موازين القوى الإقليمية والدولية، وتحديد نفوذ القوى الكبرى، سواء فوق البحر الأبيض المتوسط أو على مسارات نقل الطاقة، حيث تعتبر سوريا طريقاً لعبورها إلى أوروبا وتركيا. وأي طرف محليّ يخوض هذه الحرب بعيداً عن هذا الفهم الاستراتيجي العام سيجد نفسه قد وقع أرضاً في منتصف الطريق.
هزائم وانتصارات
في هذا السياق، لا يكفي لتقييم حصيلة الميدان، النظر إلى سقوط تدمر وإدلب و «اللواء 52»، وربما لاحقاً مواقع أخرى، ففي المقابل هناك معركة القلمون ومعركة الحسكة، وقبلهما معركة مستشفى جسر الشغور.
وكما أن هناك هزائم ونكسات فهناك انتصارات وصمود. وليس من قبيل الصدفة أن هزيمة ضد طرف (مثل «جبهة النصرة») في إدلب يقابلها انتصار ضد الطرف نفسه في القلمون، كذلك الأمر بالنسبة لتنظيم «الدولة الإسلامية» الذي استطاع السيطرة على مدينة تدمر، لكنه ما زال عاجزاً عن اقتحام مدينة الحسكة، رغم الهجمات المتكررة منذ حوالي أسبوعين، وتخللها تنفيذ أكثر من 15 عملية انتحارية.
مع الإشارة إلى أن جميع هذه المعارك، التي تتداخل في تشكيل المشهد السوري الحالي، ستتغيّر في مرحلة مقبلة، حيث سيطغى مشهد جديد من المعارك يستمرّ لفترة معينة. كما كان الأمر بالنسبة لمعارك بابا عمرو والقصير والعتيبة وغيرها من المعارك التي شكلت مشاهد السنوات السابقة.
السيطرة الحيوية للجيش
وسط هذه الفوضى من المعارك، التي يبدو أن لا أفق قريباً لانتهائها، يمكن الإضاءة على بعض النقاط التي من شأنها أن تعطي صورة أفضل لأداء الجيش السوري. النقطة الأولى، هي أن الجيش ما زال يبسط سيطرته على أهم المدن الاستراتيجية في سوريا، سواء نظراً لأهميتها السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية، وهي ما يطلق عليه البعض اسم «سوريا المفيدة»، فالجيش يسيطر على دمشق ويزيد من التحصين حولها، كذلك على حمص وحماه والساحل السوري والسويداء والحسكة والقامشلي، وفي هذه المدن حوالي 70 في المئة من المواطنين السوريين، كما أن المواصلات متوافرة بين بعضها البعض.
والنقطة الثانية، ومن خلال النظر إلى خرائط السيطرة على الأرض، يتضح أن المناطق التي تسيطر عليها الفصائل الإسلامية («جبهة النصرة» و «داعش»)، ورغم أنها قد تزيد بمجموعها عن المساحة التي يسيطر عليها الجيش، إلا أنها عبارة عن جزر متفرقة بفعل سياسة تقطيع الأوصال التي يتبعها الجيش لمنع هذه الفصائل من جمع مناطق سيطرتها. لكن تنظيم «الدولة الإسلامية» استطاع مؤخراً كسر هذه السياسة من خلال سيطرته على تدمر ومعبر التنف، وبالتالي ربط مناطق سيطرته بين العراق وسوريا من جهة ومناطق سيطرته داخل سوريا من جهة أخرى، بينما مناطق سيطرة «جبهة النصرة» متباعدة، فلها جزيرة في الجنوب وجزيرة في الشمال، أما جزيرتها في القلمون فقد تآكلت مؤخراً.
معارك القلمون وإدلب
والنقطة الثالثة تتمحور حول المقارنة بين معركة القلمون ومعركة إدلب. فالخسارة في إدلب أقلّ بكثير من الربح الذي جناه الجيش السوري في القلمون، ولا يعود هذا إلى التباين في أهمية موقع كلٍّ منهما وحسب، بل أيضاً إلى توظيف هذا الموقع.
القلمون هو الحدود البرية الأخيرة مع بلدان الجوار، وهو أيضاً صلة الوصل بين العاصمة دمشق وحمص وحماه وصولاً إلى الساحل السوري، كما أنه مهم جداً للمقاومة الإسلامية في لبنان وعلاقتها مع الجيش السوري بما ينطوي عليه ذلك من أبعاد إقليمية كبيرة.
أما إدلب، ومع عدم التقليل من شأن خسارتها كرقعة جغرافية، إلا أنها لا تنطوي على أهمية استراتيجية كبرى من شأنها تغيير موازين القوى، وربما فائدتها الأهم هي أنها شكلت منصة لشن حرب نفسية ضخمة على السوريين في الساحل السوري وسهل الغاب عبر إيهامهم بأن الهجوم على مدنهم بات قاب قوسين أو أدنى. كما لا يمكن الاستهانة بالروح المعنوية الإضافية التي اكتسبها مسلحو «جبهة النصرة» جراء تقدّمهم في إدلب. غير أن ذلك لا يُقاس بأهمية القلمون، وبالآفاق التي من شأن السيطرة عليه أن تفتحها باتجاه الزبداني والغوطة الغربية وصولاً إلى الجنوب في القنيطرة ودرعا.
وقد لا يكون من قبيل المغالاة وصف معركة القلمون بأنها «القصير الثانية». وكما كانت القصير الأولى منعطفاً استراتيجياً في الحرب السورية في العام 2013 فإن القلمون ستكون منعطفاً لها في العام 2015.
فإذا صحّ أن الجيش السوري يتبع سياسة تقطيع الأوصال أو «تجزير» (أي تحويلها إلى جزيرة) مناطق سيطرة الفصائل التكفيرية، عبر الحرص على الفصل بينها، ومنع مدّ خطوط الإمداد المتقاطعة إليها، فإنه ينبغي ملاحظة نقطة مهمة أخرى، وهي أن تعقيدات الحرب وتعدّد أطرافها وتناقض المصالح وتداخلها، يفرض أن تخاض الحرب وفق منهجية ثابتة وطويلة الأمد، بصرف النظر عن الخسائر المرحلية التي يمكن أن تترتب عليها، وبالتالي وضع سلم أولويات لتحديد المعارك التي يمكن تأجيلها، وتلك التي لا تُؤجَّل، لأن خوض جميع المعارك، وضد جميع الأطراف في الوقت ذاته هو بمثابة انتحار.
وتأتي على قائمة المعارك المؤجَّلة المعارك التي تتمتع فيها الفصائل التكفيرية بخطوط إمداد مفتوحة، كما على الحدود التركية والأردنية، لأن من شأن خوضها إدخال الجيش السوري في معارك استنزاف طويلة المدى، بخلاف الحدود اللبنانية مثلاً. كما أن حسم هذه المعارك لا يمكن أن يتمّ إلا بموجب تسويات إقليمية ودولية، تقضي بقطع خطوط الإمداد عن الفصائل المصنفة إرهابية دولياً. والبعض يطلق على هذه الاستراتيجية اسم «استراتيجية قنديل البحر»، لأن أفضل طريقة للتخلص من قنديل البحر هي قطع الماء عنه، حيث يذوب تلقائياً بعد أن ينقطع الماء عنه، وكذلك بعض الفصائل بمجرد أن تقطع خطوط الإمداد عنها، وهذا يحتاج إلى تسويات دولية تقضي بإغلاق الحدود.
وخلال ذلك، وعوضاً عن دخول الجيش في معركة استنزاف في هذه المناطق، يلجأ أحياناً إلى محاولة استنزاف خصومه من خلال الانسحاب من مناطق معينة لخلق خطوط تماس بينهم، ولا يعني هذا أن انسحاب الجيش هنا يكون بالضرورة الخيار الأفضل، لكنه الخيار الذي تفرضه التطورات الميدانية والذي لا يخلو أحيانا من فائدة.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد