تضارب تركي ـ أميركي يخلِّف انقساماً بين المسلحين السوريين
يبدو أن اندفاعة أنقرة العسكرية في الشمال السوري تحت مسمى «درع الفرات» تحاول استغلال الوقت الضائع ريثما تتم معرفة هوية المقيم الجديد في البيت الأبيض، من أجل الالتفاف على سياسة التوازن التي تتبعها الإدارة الأميركية الحالية بينها وبين والأكراد.
وهي تهدف من وراء ذلك إلى تغيير حقائق الجغرافيا على الأرض، تمهيداً لفرض الأمر الواقع على أي إدارة جديدة. لكن هذه الاندفاعة التركية برغم تحقيقها بعض النجاحات الميدانية، إلا أنها باتت تشكل عاملاً أساسياً يهدد بانزياح خطوط التماس في منطقة شديدة الحساسية، وخلق جبهات قتال جديدة قد يكون بعضها غير محسوب تركياً. كما باتت تُهدد ليس بفشل مساعي الاندماج بين الفصائل المسلحة وحسب، بل بتشرذمها وانقسامها نتيجة ميل بعض الفصائل لتأييد السياسة التركية وبعضها الآخر للسياسة الأميركية، فيما يقف قسم آخر ضد كلتا السياستين.
وما حصل يوم الجمعة الماضي من قيام بعض الفصائل بطرد جنود أميركيين من بلدة الراعي بطريقة مهينة ومُذلّة، لم يكن ليتم لولا وجود ضوء أخضر تركي، ليس بسبب تبعية هذه الفصائل للجانب التركي وحسب، بل لأن هذه الفصائل تدرك عدم قدرتها على تحمل أثمان هذا التصرف لوحدها، وأنها بحاجةٍ إلى ظهيرٍ تتقي به ردة الفعل الأميركية، وهو ما يشير إلى أن تركيا أرادت من خلال تحريض الفصائل ضد الجنود الأميركيين، توجيه رسالة واضحة إلى واشنطن بأنها قررت تغيير قواعد اللعبة في الشمال السوري مستفيدةً من حالة العرج التي تصاب بها الإدارة الأميركية في آخر أيامها.
وما يعزز من ذلك أن معظم الفصائل التي شاركت في طرد الأميركيين، أو سارعت بعد ذلك إلى إعلان تعليق مشاركتها في عملية «درع الفرات» من باب الرفض للمشاركة الأميركية فيها، هي فصائل مقربة من الاستخبارات التركية، وعلى رأسها «أحرار الشرقية» التي هي تجمع مسلحين سابقين من كل من «جبهة النصرة» و «أحرار الشام» وفصائل أخرى ممن قدموا من دير الزور بعد هزيمتهم هناك على يد تنظيم «داعش» منتصف العام 2014 وتحولوا إلى مرتزقة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى «لواء صقور الجبل»، فهو فصيل تركماني مدعوم من تركيا منذ نشأته قبل سنوات عدة، شأنه شأن التنظيمات التركمانية الأخرى. وهذه العلاقة الخاصة بين هذه الفصائل وبين الاستخبارات التركية تمنع تخيل قيامها بتصرف ضد القوات الأميركية من دون وجود قرار تركي بذلك.
ويعود الرفض التركي لتواجد جنود أميركيين في منطقة الراعي، أو في أي منطقة من مناطق شمال وسط حلب، إلى خشيتها من سياسة التوازن التي تتبعها الإدارة الأميركية، وأن تؤدي هذه السياسة إلى منح الأكراد ممراً ما، مهما كان ضيقاً أو غير آمن، يصل بين عين العرب وبين عفرين عبر بعض القرى في ريف الباب الشمالي وصولاً إلى بلدة احرص، ويكون كافياً لتأمين الحد الأدنى من حدود التواصل الجغرافي اللازم لاستكمال مشروع الفدرالية الكردية، لا سيما أن مجيء الأميركيين إلى الراعي تزامن مع تمركز مجموعات منهم في مدينة تل أبيض، الأمر الذي أثار مخاوف الأتراك من أن يكون الهدف هو احتواء عملية «درع الفرات».
وجاءت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أمس، كي تؤكد هذه الحقائق، إذ أكد على أن «عملية «درع الفرات» ستستمر إلى حين التأكد من أن المنطقة لا تشكل تهديداً لتركيا» وأن «المعارضة السورية المسلحة سوف تتقدم نحو مدينة الباب»، وذلك في تعديل للمخطط التركي الذي كان يتحدث عن التوجه نحو منبج أولاً لاستعادتها من قوات «سوريا الديموقراطية».
غير أن اللافت في ما قاله أردوغان هو إشارته إلى طرد الجنود الأميركيين من بلدة الراعي، وتشديده على أن «الجيش الحرّ لا يرغب في تدخل قوات خاصة أميركية في سوريا»، ملقياً باللائمة على «سلوك المسؤولين الأميركيين في تزايد التوتر مع مقاتلي المعارضة». وبالطبع، فإن أردوغان لم يكن يحاول هنا لعب دور المتحدث الرسمي باسم «الجيش الحرّ»، بل كان يوجه رسالة واضحة تفيد بوقوف بلاده خلف اعتراض هذه الفصائل، وأنه هو الممسك بزمام قيادتها وتوجيهها كيفما يشاء.
وأحرزت بعض فصائل «الجيش الحرّ» المدعومة بقوات خاصة تركية، أمس، تقدماً جديداً في ريف مدينة الباب، حيث سيطرت على بعض القرى بعد اشتباكات بسيطة مع عناصر من تنظيم «داعش»، فيما سُجّل انسحاب التنظيم من قرى أخرى من دون أي قتال.
وذكر ناشطون إعلاميون أن تنظيم «داعش» قام خلال الأيام الماضية باتخاذ بعض التدابير الاحترازية والدفاعية لحماية مناطق سيطرته في ريف حلب. وبحسب تنسيقية مدينة الباب، فإن التنظيم أقدم على حفر خنادق بعمق مترين وعرض مترين، حول مدينة الباب، التي تُعدّ بوابة مناطقه في ريف حلب الشرقي، وذلك بسبب مخاوفه من تنفيذ المنطقة العازلة التي تحدثت عنها تركيا في وقت سابق. غير أن تجربة التنظيم مع القوات التركية في مدينة جرابلس وعدم إبداء أي مقاومة تجاهها تركت شكوكاً حول حقيقة موقفه من التقدم التركي، مع عدم إغفال أن التنظيم قد يكون بانتظار توغل الجيش التركي في عمق الأراضي التي يسيطر عليها للقيام بضربات انتقامية ضده.
ونتيجة حساسية الوضع في منطقة شمال حلب المسماة «الشهباء»، فإن أي خطوة بأي اتجاه تنعكس تلقائياً على مواقف الفصائل المسلحة وعلاقتها ببعضها البعض. فكما أدى التدخل التركي في جرابلس إلى إطلاق حملة اتهامات متبادلة عن تأثير ذلك على الوضع في جنوب حلب، فإن ظهور الجنود الأميركيين أدى إلى تصعيد «جبهة النصرة» عبر «إعلامييها» في مواقع التواصل الاجتماعي لحملتهم ضد المشاركين في عملية «درع الفرات» متهمين إياهم بالردة نتيجة استعانتهم بطرف «كافر» على آخر «مسلم».
كذلك فإن طرد الجنود الأميركيين أحدث مواقف متضاربة، إذ بينما أيده مناصرو «جبهة النصرة»، رأت فيه بعض الفصائل «مراهقة سياسية» وعدم تعمق بـ «فقه الواقع». والمحصلة أن الأحداث منذ الدخول التركي إلى جرابلس وصولاً إلى طرد الأميركيين أظهرت خلافات عقائدية عميقة بين الفصائل، لا تكشف عن مدى صعوبة نجاح مساعي الاندماج وحسب، بل تهدد بتفاقم الخلافات في ما بينها. وما يعزز من ذلك أن «أحرار الشام» المقربة من تركيا ـ لدرجة أن إياد الشعار، وهو الراسم الحقيقي لخطط جناحها السياسي، وصف العلاقة بينهما بـ «التحالف والشراكة»- أقدمت للمرة الأولى على توقيع بيان مشترك مع فصائل أخرى بخصوص حي الوعر، والمهم في هذا البيان أنه صدر تحت شعار «الجيش الحر» ما يعني غلبة التيار السياسي على التيار «القاعدي» ضمن الحركة، أي انعدام فرص التوحد مع «جبهة النصرة» ما لم تتغير موازين القوى داخل الحركة، وهو ما يعتبر احتمالاً مستبعداً في ظل التسريبات حول التمديد لقائدها أبو يحيى المصري لولاية جديدة.
ليس هذا فقط، بل بدأت بعض الجهات المختلفة بتأسيس فصائل جديدة في المنطقة، بعضها لمقاومة ما تسميه بالاحتلال التركي، مثل «المقاومة الوطنية السورية»، وبعضها للمشــاركة فــي محاربة الارهاب سواء «داعش» أو «قســد»، وكان آخرها تشكيل «ثوار الجزيرة». كما تحــاول بعض الفصائل القديمة إعادة إحياء دورها بعــد سبات طويل، مثل إعلان «ذئــاب الغاب» انشقاقه عن «جبهة ثوار سوريا» وقرب عودته إلى الداخل السوري.
في المقابل، فإن استمرار تقدم الجيش التركي مصحوباً ببعض فصائل «الجيش الحر» من شأنه أن يخلق خطوط تماس بينه وبين الجيش السوري المتمركز جنوب مدينة الباب. وهذا كله قد يؤدي إلى وضع هذه المنطقة بالغة الحساسية أمام جملة من الاحتمالات المعقدة والخطيرة التي يمكن أن تدخلها في مسارٍ غير متناهٍ من الاقتتال.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد