تقرير مؤسسة راند
لا يعني الانسحاب المباشر للولايات المتحدة من منطقة الشرق الأوسط بعد تورطها ومأزقها التاريخي في العراق، أنها ستكف أيديها عن التدخل في المنطقة، ومحاولة التأثير على توجهات النظم السياسية الموجودة.
ويُرد ذلك الى سبب بالغ البساطة مؤداه ان الولايات المتحدة حتى ولو لم تصبح امبراطورية كبرى تحكم العالم الى الابد كما كان يطمح أركان ادارة الرئيس بوش من المهووسين ايديولوجياً بأفكار المحافظين الجدد، إلا أنها - ولا شك في ذلك - قوة عظمى مؤثرة على مستوى العالم. وهي بهذه الصفة لا يمكنها أن تتخلى عن التدخل - بصورة أو بأخرى - في الشرق الاوسط. ذلك أن الشرق الاوسط منطقة استراتيجية محورية تربط بين قارات متعددة، وهو قبل ذلك كله مصدر النفط الاساسي في العالم، والذي لو نضبت آباره فإن الحضارة الصناعية في مشارق الارض ومغاربها ستنهار كلياً، وخصوصاً في غيبة مصادر بديلة للطاقة، تتسم بسهولة الاستخدام من ناحية والتكلفة المعقولة من ناحية ثانية.
وبغض النظر عن المحاولات الاميركية الخائبة لفرض الديموقراطية على الصورة الاميركية فرضاً على دول الشرق الاوسط، والدول العربية خصوصاً، والتي مورست بعد غزو العراق عسكرياً، فإنه يمكن القول إن القوة العظمى لن تتوقف عن القراءة المستمرة للتغيرات الكبرى والصغرى التي تحدث كل يوم في خريطة الشرق الاوسط. وقراءة الخرائط السياسية لم تعد مهمة سهلة ولا ميسورة كما كانت الحال أيام الحرب الباردة. وذلك لأنه في ظل النظام الثنائي القطب كان العالم مستقراً نسبياً بتأثير الرعب النووي المتبادل، وقسمة العالم الى عالم أول تقوده الولايات المتحدة والدول الغربية الرأسمالية، وعالم ثان يقوده الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية، وعالم ثالث يتشكّل من الدول النامية.
غير أن هذا الاستقرار النسبي في أوضاع العالم سقط بسقوط النظام الثنائي القطب، وأصبحنا أمام عالم رئيسي تتزعمه الولايات المتحدة والعالم الباقي، الذي يتشكّل من البلاد النامية القديمة، وغيرها من الدول التي تسير في طريق النمو.
- ومن هنا حرصت الولايات المتحدة على القراءة الدقيقة للتغيرات في بيئة الأمن في الشرق الاوسط، ومفرداتها هي الصراع والاستقرار والتغير السياسي.
ويلفت النظر في هذا المجال تقرير استراتيجي بالغ الاهمية أصدرته عالم 2004 "مؤسسة راند" الاميركية والتي تمثل العقل الاستراتيجي الاميركي في هذا الموضوع المهم.
والتقرير معد لتقديمه لسلاح الجو الاميركي، ولا ينبغي أن يدهشنا ذلك لأنه الهيئة التي أنشأت "مؤسسة راند" منذ أكثر من خمسين عاماً، قبل أن تتحول مركزاً شاملاً للدراسات الاستراتيجية.
والتقرير الاميركي يرصد ابتداء تغير المناخ الاقليمي في الشرق الاوسط عقب نهاية حرب الخليج عام 1991، حيث تصاعدت التهديدات للأمن السياسي. ومن المعروف ان التوترات بين دول المنطقة التي دامت سنين طويلة قد أدت الى عدم الاستقرار، بل إن التوترات أدت في بعض الاحيان الى حرب مفتوحة، أثرت على الأمن السياسي والاقتصادي مما أدى الى أزمات انسانية عديدة.
واليوم يبدو الموقف بالغ الخطورة وخصوصاً بعد انهيار عملية السلام الاسرائيلية - العربية وما تلا ذلك من موجات عنف بالغة، ويقصد التقرير - وإن كان لا يصرح بذلك ابداً - موجات الارهاب الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني وضروب المقاومة الفلسطينية المختلفة له. كما أن شيوع اسلحة الدمار الشامل قد أدى الى ازدياد احتمالات الحرب في المنطقة. وأخيراً يمكن القول إن تصدير الشرق الاوسط الارهاب حول العالم أدى الى انعزاله السياسي والاقتصادي.
ولعل السؤال الذي ينبغي إثارته هو ما هي مفردات القراءة الاستراتيجية والاميركية للشرق الاوسط في أوضاعه الراهنة؟
اهتمت هذه القراءة بموضوعين اساسيين، هما النتائج السلبية بالنسبة للولايات المتحدة والتي يمكن أن يسببها لها عدم الاستقرار السياسي في المنطقة. والموضوع الثاني تحديد الاتجاهات البازغة في المنطقة والتي قد تؤدي الى عدم الاستقرار.
بالنسبة الى الموضوع الاول هناك إدراك اميركي راسخ مؤداه أنه منذ الهجمات الارهابية التي وجهت ضد الولايات المتحدة في 11 ايلول 2001 فإن الشرق الاوسط اصبح يلعب دوراً أكثر محورية بالنسبة لها، مقارنة بالماضي. والولايات المتحدة - كما يرى التقرير - تركز على شركاء في الشرق الاوسط مثل السعودية وقطر لكي تساهم في الحرب ضد الارهاب، وتشترك في الجهود الرامية لوقف الحصول على اسلحة الدمار الشامل بالنسبة للدول التي تعتبرها واشنطن - بحسب التعبيرات الرسمية - دولاً مارقة. وفي نظر الاميركيين فإن فقدان أي شريك رئيسي نظراً الى تغيرات عدائية تطرأ على طبيعة أي نظام سياسي من النظم الحليفة وكذلك تصاعد موجات العداء ضد السياسات الاميركية، قد يقيد حركة الولايات المتحدة في محاربة الارهاب. وقبل ذلك كله فإن عدم الاستقرار قد يؤدي الى الخلل في عملية تدفق النفط العربي الى الولايات المتحدة.
- ويمكن القول إنه أهم من المقدمات السابقة، النتائج الرئيسية التي خلص اليها تقرير "مؤسسة راند" في ما يتعلق بالتأثير السلبي للاتجاهات البازغة في الشرق الاوسط والتي قد تؤدي الى عدم الاستقرار مما يهدد المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة.
ويلفت النظر منذ البداية ان الولايات المتحدة تراقب بدقة كل التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تتفاعل في منطقة الشرق الاوسط مع تركيز بالطبع على الدول العربية.
وفي ضوء هذا الرصد تم استخلاص نتيجة مهمة وهي ان الليبرالية تتقدم ببطء في العالم العربي، والنزوع الى الديموقراطية سيكون محدوداً.
ودول الشرق الاوسط – في الادراك الاميركي – تحكمها نظم سياسية سلطوية وغير ديموقراطية. وتمت ملاحظة انه في السنوات الاخيرة حاولت هذه النظم بتأثير المطالب الشعبية وبضغط من القوى الخارجية، تخفيف السيطرة الحكومية على وسائل الاعلام ومنابر اخرى للتعبير عن الرأي.
وبعض هذه النظم فتحت بقدر ما بوابة الليبرالية، وهي السماح بممارسة الحريات العامة مثل حرية التعبير وحرية الاجتماع، في حين انها حاصرت الاتجاه نحو الديموقراطية، مثل تنمية المؤسسات الديموقراطية والقيام بانتخابات اشتراعية دورية. وهناك نظم اخرى سمحت للمواطنين ان ينضموا الى المؤسسات المدنية التي ما زالت مربوطة الى اجهزة الدولة، ولا ترتبط بالقواعد الشعبية.
وخلاصة هذه النتيجة الاساسية ان تجمد الموقف العربي سواء على جبهة الليبرالية او على الصعيد الديموقراطي، من شأنه في الادراك الاميركي ان يلحق اضرارا بالسياسة الاميركية.
ويبدو ان هناك سوء ادراك اميركي راسخ في ما يتعلق بهذه القضية بالتحديد، وذلك لأسباب متعددة. لعل اهمها ان الشعوب العربية لا تقبل في غالبيتها الضغوط الخارجية على نظمها السياسية ولو كانت تعترض اساسا على بعض توجهات هذه النظم.
والسبب الثاني ان السياسات الاميركية المنحرفة في الشرق الاوسط وخاصة في العراق وفلسطين، من بين المعوقات الاساسية لتأسيس الليبرالية والديموقراطية في الوطن العربي.
وعلى ذلك يمكن القول ان النموذج الاميركي للديموقراطية الذي يمثله ما حدث في العراق، يشكل اكبر عقبة تقف دون التحول الديموقراطي الحقيقي.
- والواقع ان التحليل العميق لسلوك الامبراطورية الاميركية المتهاوية، سيكشف عن احد الاسباب الحقيقية لتحول الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة، لتصبح هي بذاتها اكبر بؤرة من بؤر تهديد السلام العالمي، وهو سيادة التفكير الاحادي لدى نخبتها الحاكمة. ومن المعروف ان هذه النخبة الحاكمة من اقطاب المحافظين الجدد صاغوا قبل وصولهم الى الحكم ايديولوجيا "القرن الجديد"والتي تؤمن ايمانا قاطعا بأن اميركا هي محور الكون، وان الله سبحانه وتعالى قد اختارها لتقود البشرية ليس لحقبة محدودة ولكن الى ابد الآبدين!
وجدير بالذكر ان هذا التفكير الامبراطوري الاحادي لم يؤد فقط الى اشاعة التوتر في النظام الدولي، وانما ادى الى تغيير نوعي في طبيعة النظام السياسي الاميركي ذاته، والذي يتحول بالتدريج – بناء على آراء عدد من ثقات المفكرين الاميركيين – من نظام ديموقراطي الى نظام سلطوي، اقرب ما يكون الى نظام فاشي جديد. وهي ظاهرة تستحق تحليلا ثقافيا متعمقا.
ويلفت النظر الى ان الانتقادات التي يوجهها في الوقت الراهن عديد من المفكرين الاميركيين من اتجاهات شتى لا تعبر فقط عن حدود رصد زوال لحظة الاحادية القطبية، او تحليل اسباب نهاية الامبراطورية الاميركية، ولكنها تتجاوز ذلك لتمارس نقدا اجتماعيا للآثار السلبية الخطيرة التي ترتبت على سياسة ادارة الرئيس بوش بعد 11 ايلول 2001.
ويعني ذلك ان الحرب الاميركية ضد الارهاب التي اريد منها النيل من الاعداء، حقيقيين كانوا او متوهمين، قد ارتدت الى صدور الساسة الذين انساقوا اليها بغير تدبر او تبصر!
السيد يسين
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد