ثورة نبّاشو القبور و سارقو الجثث
الجمل- باريس-باسل يونس: قرأنا تاريخ الثورات الحقيقية كلها تقريبا ، الحديث منها والمعاصر، بدءا من ثورة أوليفر كرومويل البرجوازية في بريطانيا العام 1640 ، وانتهاء بآخر الانتفاضات في أمريكا اللاتينية والهند الصينية، مرورا بالثورة الفرنسية و كومونة باريس وثورة بيسمارك الألمانية والثورات "القومية الرومانسية " في أوربا ( ثورات 1848) ، والثورات الروسية كلها ، من ثورة الضباط الديسمبريين في العام 1825 ، إلى ثورة العام 1905 ، إلى ثورة كيرنسكي في شباط 1917 ، وصولا إلى الثورة المغدورة ـ الثورة البلشفية في أكتوبر من العام نفسه . ولم تقتصر قراءاتنا لها على وجهة نظر تيار واحد في أوساط المؤرخين ؛ بل شملت التيارات الثلاثة الأساسية التي أرخت لتلك الثورات: الأكاديمية ـ الليبرالية والماركسية والبنيوية. فقرأنا ، مثلا ، الثورة الفرنسية من وجهة نظر ألبرت سوبول و هنري لوفيفر و لابروس ودانييل جيران Daniel Guérin و لوي ألتوسير ونيكوس بولانتزاس . وقرأنا الثورة الإنكليزية من وجهة نظر موريس دوب وإريك هوبسباوم و كريستوفر هيل و برين مانينغ . وغني عن البيان أن وجهات نظر آباء الماركسية الحقيقيين في هذه الثورات ، ماركس و روزا لوكسمبورغ وليون تروتسكي، كانت في صدارة قراءاتنا تلك والموجه الأساسي لها.
تلتقي هذه الثورات كلها في قواسم مشتركة من حيث جوهرها . إلا أن كلا منها له سماته " ونكهته" الخاصة التي تأتي من الخصائص الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات التي حصلت فيها تلك الثورات. و نستطيع أن نزعم أنه ما من تفصيل صغير يتعلق بتلك الثورات إلا وتوقفنا عنده ، بما في ذلك حولياتها اليومية التي تؤرخ للأحداث التي كانت ترافق هذه الثورة أو تلك منذ انطلاقها حتى انتصارها أو هزيمتها ( كما فعل جون ريد ، مثلا ، في " عشرة أيام هزت العالم").
من المؤكد أن جرائم وممارسات يندى لها الجبين رافقت معظم تلك الثورات، وجرى ارتكابها من قبل أحد طرفي الصراع و /أو كليهما ، بدءا من جرائم السرقة وانتهاء بجرائم القتل ونصب المشانق والمقاصل ، مرورا بجرائم الاغتصاب وتخريب الممتلكات العامة عن سابق إصرار وتصميم. ومن المؤكد أيضا أن هذه الجرائم غالبا ما كانت ترتكب من قبل الأنظمة الملكية أو الجمهورية ـ الاستبدادية التي كانت حاكمة وكانت الثورات تهدف إلى إطاحتها . ولكن نادرا جدا ما سجلت حوليات التاريخ أعمالا مشينة تحولت إلى "ظاهرة" ارتكبها ثوار تلك الثورات ( مثل الاغتصاب والسطو). وفي جميع هذه الثورات كانت هناك "منظومة أخلاقية" تحكم سلوك الثوار وتطبع ممارساتهم كلما تعلق الأمر بجرائم مشينة من النوع المشار إليه. وغالبا ما كان المثقفون المناصرون لتلك الثورات و / أو المشاركون فيها هم الرقيب الصارم على سلوكيات الثوار، إلى حد أن مفوض (وزير) الثقافة في الثورة البلشفية أناتولي لوناتشارسكي لم يتردد ، مثلا ، في الاستقالة من منصبه بعد أيام قليلة على تعيينه ، احتجاجا على قيام ثوار "الحرس الأحمر"( جيش الثورة) باستهداف قصر "الكريملين" بمدافعهم دون قصد منهم، وتعريض جدران هذه التحفة المعمارية لأضرار بالغة جراء ذلك ، رغم أن الخبر لم يكن مؤكدا! وقد نشر بيانا ناريا شجب فيه هذا "العمل التخريبي" ، مناشدا ثوار الطبقة العاملة أن تضع تحت حمايتها جميع المنشآت الأثرية المعمارية والكنوز الفنية. ولم يتراجع عن استقالته إلا بعد أن تاكد بنفسه من أن خبر القصف كان مجرد " خبرية" وليس خبرا!؟
وبعد انتصار الشعب الفرنسي ، وشعوب أوربا عموما ، على الفاشية والنازية في العام 1945 ، أقدم المقاومون الفرنسيون الذين قاتلوا الغزو النازي لفرنسا، وكانوا في معظمهم من الشيوعيين والاشتراكيين ، على حلق رؤوس النساء المتعاونات مع المحتل النازي "ع الصفر" في شوارع باريس؛ إلا أن أيا منهن لم تتعرض للسحل أو القتل ، ناهيكم عن الاغتصاب!؟
مع ذلك ، لم نسمع في أي من تلك الثورات أو نقرأ أن الثوار أقدموا على قتل الأطفال عمدا ، سواء على الطريقة الأوربية الحديثة ( بالرشاشات) أو على طريقة الإسلام الوهابي التلمودي ( ذبحا بالسكاكين والسواطير من الوريد إلى الوريد)! كما أننا لم نسمع من تلك الثورات أو نقرأ عن أن ثوارا نبشوا قبورا أو سرقوا جثثا!؟
وحدها " الثورة " السورية من بين الثورات والانتفاضات كلها ستدخل التاريخ بكونها الوحيدة التي أقدم فيها " الثوار" على سرقة الجثث ونبش القبور وقتل الأطفال ذبحا بالسكاكين لأسباب تتصل بالكذب والدجل والتزوير، ولأسباب مذهبية في المقام الأول والأخير!؟
من المؤكد أن ما يحصل في سوريا منذ عشرة أشهر ليس ثورة ، وبالكاد يمكن أن نسميه انتفاضة شعبية . ونحن إذ نذكرها بهذا الاسم ، رغم وضعه بين مزدوجين صغيرين، فليس إلا من باب المقايسة المجازية. فما يجري في سوريا أقرب إلى الحراك الشعبي الشبيه بالانتفاضات الفلاحية وانتفاضات الدروايش ذات المضمون الصوفي التي شهدها التاريخ الإسلامي في العديد من مراحله ، لاسيما الأموي والعباسي والمملوكي . هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن تلك الانتفاضات كانت غالبا ذات مرجعية أخلاقية في غاية الانضباط ، بينما انحطت الانتفاضة السورية إلى أحط وأحقر درك أخلاقي يمكن أن تعرفه أي حركة شعبية في التاريخ .
ونحن إذ نطلق على ما يجري اسم انتفاضة ، فليس انتقاصا من مقامه أو تبخيسا له ولأهميته التاريخية، ولكن من باب " الانضباط العلمي". أما أولئك الذين يصرون على تسمية ما يجري بـ"ثورة" ، وهم غالبا من غوغاء الإعلام والصحافة والثقافة وزعرانها الذين لا يعرفون الفرق بين الثورة والانتفاضة والحراك الشعبي ، فنترك لهم حرية قول ما يشاؤون ريثما يذوب الثلج ويبين المرج وتظهر أكوام الخراء بأبهى صورها ، معلنة عن هويتها الحقيقية وهوية المجارير الثقافية والاجتماعية التي أطلقتها!؟
منذ بداية الانتفاضة ونحن نسمع ونرى بأم العين كيف يعمد "الثوار" حتى إلى "مداهمة" بيوت أصابت أهلها مصيبة بفقد عزيز عليها في حادث سير أو بسبب مرض ، وكيف يقومون بسرقة نعش المتوفى بعد مغافلة ذويه ثم الركض به إلى زاوية قصية وتصويره مع صيحات " الله أكبر ، بالروح بالدم نفديك يا شهيد" ، وبعد ذلك رميه في الشارع كما لو أنه " سحارة بطاطا" والهرب بعيدا لإرسال الشريط إلى إحدى القنوات الفضائية على أنه شريط لجنازة "شهيد قتلته السلطة"! وقد روى العديد من الأسر السورية لوسائل الإعلام على مدار الأشهر الماضية كيف حصلت معهم " مقالب" من هذا النوع جعلتهم يضحكون رغم مصابهم الفاجع! وفي مرات عديدة لجأ "الثوار" حتى إلى نبش قبور حديثة وسرقة الجثث وتصويرها للغاية نفسها! كما وعمدوا في مرات عديدة إلى تشييع جنازات وهمية فارغة لمجرد التصوير والدعاية الإعلامية!
مع ذلك يبقى الشكل الأكثر والأوسع انتشارا لسرقة الجثث هو الشكل "المعنوي". فمنذ بداية الانتفاضة يقوم "الثوار" بالسطو على قوائم أسماء شهداء الجيش التي تنشرها وسائل الإعلام الرسمية ، وقوائم الضحايا من المدنيين الموالين لها، ثم توزيعها على وسائل الإعلام على أنها لـ"شهداء قتلتهم السلطة"! ولا يمر يوم تقريبا إلا ونسمع في وسائل الإعلام عن سقوط 20 أو ثلاثين أو أربعين شهيدا من الثوار والمتظاهرين الذين " قتلتهم" السلطة ، لنكتشف بعد التدقيق أن قسما كبيرا من هؤلاء ليسوا في الواقع سوى شهداء الجيش والأجهزة الأمنية . حيث يعمد " الثوار" إلى جمع أعداد هؤلاء وضمهم إلى شهداء قتلتهم السلطة فعلا ، ثم تحويلها إلى " رقم إجمالي" عن حصيلة الضحايا في اليوم الفلاني. والمذهل في الأمر أن من يقوم بهذه الممارسات الدنيئة والخسيسة ليس البسطاء من الناس ، بل الهيئات السياسية و"الحقوقية" التي تدعي النطق باسم "الثورة" ، وفي طليعتها "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، الماكينة الأكبر لصناعة الأكاذيب والتزوير والنصب والاحتيال منذ بداية الانتفاضة. وكانت موظفة فلسطينية في " مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة" بجنيف أكدت لنا الشهر الماضي أن " التقنيين" في " المجلس" المذكور اكتشفوا أن المئات من أسماء الشهداء التي تسلموها من منظمات حقوقية سورية و / أو سياسيين معارضين "لا يزال أصحابها على قيد الحياة ، و / أو هي لشهداء من الجيش والأجهزة الأمنية السورية جرت سرقتها من وسائل الإعلام الرسمية السورية"!
مناسبة ما قلناه إعلاه هو ما جرى يوم أمس على هذا الصعيد . فبعد إقدام " ثوار" مناصرين لـ"المجلس الوطني السوري" الذي يترأسه المفكر " برهان قرضاوي" على ارتكاب مجزرة بحق عائلة المواطن محمد تركي المحمد في حي"النازحين" بمدينة حمص لأسباب مذهبية، أقدموا على تصوير أنفسهم مع جثث الضحايا واتهام السلطة بأنها هي التي اقترفت المجزرة. وهم عمدوا إلى هذا الادعاء مستفيدين من حقيقة أن إعلام السلطة ، الرسمي وشبه الرسمي ، فضلا عن إعلام المعارضة الوطنية الديمقراطية ، يتحاشى كله ـ من باب الخجل ـ الإشارة إلى الهوية الطائفية أو المذهبية للضحايا. ولذلك ظن القتلة أن بإمكانهم ذبح عائلة من إحدى الأقليات المذهبية الإسلامية والادعاء بأن أحدا لن يكتشف الأمر لمجرد أن أحدا لن يكشف الانتماء المذهبي للضحايا أو يتحدث عنه !؟
ومع ذلك كله لا تزال هناك إحدى عاهرات الإعلام الخليجي، ممن كنّ حتى وقت قريب من "محميات ومدللات ومحظيات" إعلام السلطة تنشر المعلقات عن " الثورة السورية" التي "علمتنا الأخلاق"!
أما نحن فليس لنا إلا أن نتشبث بأخلاق أناتولي لوناتشارسكي في وجه أخلاق " ثورة نبّاشي القبور وسارقي الجثث"!
التعليقات
ثورة أم انتفاضة أم فورة
إضافة تعليق جديد