جاسوس خدع الموساد 20 عاماً بتقارير مفبركة عن سوريا
تناول تقرير نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت"، وقام بإعداده كل من غدعون مارون وعوديد شالوم، قصة أحد كبار العملاء في الموساد، يهودا غيل، والذي تمكن من خداع الموساد طيلة 20 عاماً بتقارير مفبركة عن اتصالاته بأحد كبار الجنرالات في سورية.
وبحسب مارون وشالوم، فقد كادت التقارير، التي يعدها الجاسوس بخط يده، أن تؤدي إلى حرب بين إسرائيل وسورية في خريف عام 1996، علاوة على أنها وضعت علامة سؤال كبيرة حول "موثوقية الموساد" لاعتماده على تقارير غيل بكل ما يتعلق بالشأن السوري لمدة تزيد عن 20 عاماً. وقد تم اعتقاله بعد أن بدأ للموساد يشك بأن الجنرال السوري (مصدر معلومات غيل المزعوم) هو الذي ينتزع المعلومات من غيل وليس العكس..
ورغم أن غيل، بحسب الموساد، كان له دور كبير في جمع المعلومات حول الفرن الذري في العراق قبل قصفه في العام 1981، كما كان له دور في استجلاب "الفلاشا- يهود أثيوبيا"، إلا أنه فشل في تجنيد المصدر السوري المذكور، فاضطر إلى فبركة التقارير، الأمر الذي تسبب بأضرار خطيرة لا يمكن تقدير حجمها..
وفيما يلي أهم ما جاء في التقرير وفقما أوردته الصحيفة.
يهودا غيل، ضابط جمع معلومات ذو أقدمية، ومن أفضل من استخدمتهم الإستخبارات الإسرائيلية في تاريخها. أطلق سراحه من السجن قبل 6 سنوات، وهو جاسوس متقاعد منذ ذلك الحين، ويعتبر نفسه ضحية. وفي المقابل، فإن الغضب والحقد عليه لا يزال يضطرم في المؤسسة التي عمل فيها سنوات طويلة، الموساد. وحتى في جنازة المدعو "أ"، قبل سنتين، وعندما تحدث "الأصدقاء" من الموساد عن الميت فوق القبر المفتوح، أحس الجاسوس السابق، يهودا غيل، بالكراهية تخترق جسده كالسكين.
المدعو "أ" رجل الموساد القديم، ضابط جمع معلومات وإرشاد، وصديق غيل. جلس معه سوية في "الكلية"، مركز الإرشاد التابع للموساد. "أ" كان المثقف الجدي، في حين كان غيل الجامع الاستعراضي، والذي استخف بالمتدربين حديثي العهد، وتلذذ بالإحساس بموجات الإعجاب التي كانت تنبعث من ضباط جمع المعلومات المستقبليين.
في شهر آب/أغسطس، قبل سنتين، تلقى غيل اتصالاً هاتفياً من صديق قديم له يخبره أن المدعو "أ" قد توفي. كان ذلك بعد 4 سنوات من خروجه من السجن، بعد أن ضبط وهو يفبرك تقارير أحد المصادر، في قضية هزت منظمة التجسس الإسرائيلية. وهناك من يقول بأنها أكبر من أي قضية أخرى سبقتها، ووضعت علامة سؤال كبيرة حول "موثوقية الموساد". وتحول التقدير الكبير الذي كان يحظى به طيلة السنوات التي عمل فيها في المؤسسة، إلى غضب عارم في تلك الليلة السوداوية التي اعتقل فيها في تشرين ثاني/نوفمبر 1997..
يرتفع علم إسرائيلي كبير على مدخل عائلة غيل في "غديرا"، وذلك كإشارة إلى رغبته في الإنتماء إلى المجموعة التي كان يريد أن ينتمي إليها، ورغبته في أن يكون "مقبولاً" و"محط التقدير"، وإرضاءاً لغريزة حب العظمة التي أسقطته في النهاية. ومنذ أن قدم إلى البلاد من مدينة سرت في وسط ليبيا، حيث كان إسم عائلته "جناح" وهو يحاول الإندماج في "الإسرائيلية الجديدة" وانتشال نفسه من ماضيه، زاعماً أن جذوره إيطالية، ووالده خدم في البحرية الإيطالية..
برز دوماً بجديته، كشاب يتشدد مع نفسه ومع الآخرين، ويتحدث الإيطالية والعربية بمستوى لغة الأم، ويبقي خلفه ذيولاً من القصص جعلت معارفه في حيرة من أمره، وحتى عندما تحول إلى ضابط جمع معلومات أسطوري، ورجل جاسوسية إسرائيلي رابط الجأش، ومجند العملاء الأول للموساد والمهمات الخاصة.
ولدى الإطلاع على قصة العميل غيل، الذي أدين بتهمة الإبلاغ بمعلومات كاذبة على لسان مصدر كبير في سورية، وهي معلومات كادت تؤدي إلى نشوب حرب، يتبين أنه شخصية يكرهها كثيرون، محتقر من قبل عدد كبير من زملائه في الماضي، ولكن في "غديرا"، مكان سكناه، لا يزال يتم التعامل مع هذا المتقاعد بهيبة من كان عميلاً سرياً لا يزال يلف نشاطه الماضي هالة من السرية والتعظيم.
كان غيل الجاسوس الكلاسيكي، وتحدث كثيرون من كبار المسؤولين، كم كان عظيماً، وبنفس الروح يتطاير الشرر غضباً منه. وهناك من ينسب له التوتر مع سورية في خريف 1996، والذي كاد يؤدي إلى حرب. كما أن هناك من يرى في هذا الإدعاء محاولة من الجهاز لتضخيم الأضرار التي تسبب بها. وحتى اليوم، وبعد مرور 10 سنوات على اعتقاله، فإن مجرد ذكر اسمه أمام عناصر الأجهزة الأمنية، لا يبقي أحداً لامبالياً، فقد تمكن من إثارة إعجابهم جميعاً، ثم خيب أملهم.
يقول معدا التقرير:" سافرنا كثيراً في الأسبوعين الأخيرين، وقابلنا كثيرين من أصدقائه وزملائه في السابق. وبالضبط مثلما حصل في خريف 1996، يحصل الآن إزاء سورية. فعندها لم يعرف الإسرائيليون إلى أين ستتجه سورية، فقط تقارير غيل، نقلاً عن لسان "مصدره" الذي قام بتشغيله، كانت مؤشراً لما كان يحصل في دمشق، وهي التقارير التي تبين لاحقاً أنها من محض خياله".
منذ سنوات السبعينيات وحتى بداية التسعينيات كان إسم يهودا غيل رمزاً في الموساد. كان رمزاً للنجاح، ورمزاً للمهنية في مهنة لا يوجد أقدم منها سوى الدعارة. كان ضابط التجنيد (للموساد) الذي لا يشق له غبار. وقالوا عنه في الموساد أنه كان "قادراً على تجنيد الذباب أيضاً".
وساعده في ذلك مظهره الخارجي الذي يشير إلى العم الطيب والودود، بصحة جيدة، مع شارب صغير، ولا يلفت النظر إليه في الشارع أو في القطار أو في المقهى. وينضاف إلى ذلك كله طلاقته في اللغتين الإيطالية والعربية، وتمكنه من اللغة الإسبانية والإنجليزية، فضلاً عن قدرته على بناء علاقات وإنشاء حوار، واتقان "اللعبة".
لم يكن هناك "لاعب" يتقن اللعبة أفضل منه في الموساد في الأيام التي أشرق فيها نجمه. ويقول عنه أحد الذين تدربوا على يديه، وأصبح فيما بعد أحد كبار قادة الموساد:" لقد قرأ كثيراً وعندما تقمص دور شخصية، كان يتقن ذلك لدرجة أنها أصبحت مصدر إزعاج في عمله. فعلى سبيل المثال، عندما يتقمص دور محاضر في البيولوجيا في جامعة أوروبية، فقد كان يتعمق في الموضوع ويقرأ الكثير عنه، لدرجة أنه بات يؤمن بالدور. وكانت قدرته على إثارة الإعجاب فناً".
وفي إطار عمله كمرشد في المركز لتقييم قدرات المتدربين في الشارع، كان يشير غيل إلى رجل جالس في أحد المقاهي، ويطلب منهم مصادقته والحصول على رقم بطاقة اعتماده خلال نصف ساعة. وبينما كان يفشل الجميع، كان باستطاعته تنفيذ ذلك خلال مدة زمنية وصل أقصاها إلى 15 دقيقة!
ويقول عنه عضو الكنيست إيهود ياتوم، رئيس الموساد سابقاً، أن محاضرات الإرشاد التي كان يقدمها كانت مطلوبة في الموساد، وهو بدوره كان "استعراضياً وملموساً ومحط الإعجاب، لقد كان اسمه اسطورياً".
كانت حملات تجنيد جنرالات من دول عربية "مواداً" بيد الفنان غيل. فقد كان جاسوساً من الصنف القديم الذي أخذ بالإنقراض في عالم الإستخبارات العصري.
لقد انضم إلى الموساد في بداية سنوات السبعينيات، وتجلت مواهبه بشكل سريع. وبعد أن أنهى دورة التدريب انضم إلى العمليات. وكان له دور في جمع المعلومات عن الفرن الذري العراقي الذي تم قصفه في العام 1981، وحملة جلب ما يسمى "يهود أثيوبيا" في منتصف سنوات الثمانينيات.
إلا أن عنوان عمله في "المكتب" (كان عملاء الموساد القدامي يطلقون هذا الإسم على الموساد) كان تجنيد مصدر سوري، والذي كان أحد كبار الضباط في الجيش والمقرب إلى المستويات القيادية العليا في دمشق. وقد بدأت لقاءاته مع المسؤول السوري في منتصف سنوات السبعينيات. وفي العام 1978 كتب تقريراً قال فيه أنه تمكن من جعل المسؤول السوري مصدراً للمعلومات. ومنذ ذلك الحين وحتى اعتقاله، في العام 1997، كانت تقارير غيل بعد لقاءاته مع المسؤول السوري المدماك المركزي في تقديرات شعبة الإستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي بشأن نوايا السوريين تجاه إسرائيل.
ويقول ضابط استخبارات سابق، والذي كان على صلة بالتقارير التي كان تصل من غيل نقلاً عن المصدر السوري، أن التقارير كانت مثيرة وغنية بالتفاصيل. ويضيف:" كنا نعتبر المصدر السوري قيمة استيراتيجية. فالمواد التي كانت تصل تشير إلى أنه على صلة بما يدور في سورية. وكانت المواد التي تصل تبدو موثوقة وتتماشى مع الصورة الإستخبارية العامة".
واتضح قبل 9 سنوات أن كل ما جاء في تقارير غيل كان من محض خياله، وأن كل شيء نبع من إحباطه ورغبته بأن يواصل لعب دور "الأفضل من الجميع"، ورغبته الجامحة في الوقوف جانباً ليراقب قادة الموساد وهم يبتلعون لعابهم من الذهول لدى قراءة تقاريره.
وفي المحكمة ادعت النيابة العامة أن غيل كان قد أدرك أن دوره على وشك الإنتهاء، ولما لم يزوده المصدر السوري المذكور بالمعلومات، قرر أن "يخترع" هذه المعلومات. وفي هذا السياق يعتقد كبار المسؤولين السابقين في الموساد أن غيل لم يجند المصدر السوري المذكور. وفي أعقاب المحاكمة، أصدر الموساد وثيقة رسمية طلب فيها من جميع العاملين في المكتب قطع علاقاتهم مع غيل.
وعندما كان على وشك الخروج إلى التقاعد، طلب منه الموساد تأهيل شخص آخر ليحل مكانه في لقاءاته مع المصدر السوري، إلا أنه رفض ذلك بشدة. ورفض أيضاً اقتراحاً بضم شخص آخر إليه. وعلل ذلك بأن المصدر لن يتحدث إلى أحد سواه. وواصل غيل علاقاته مع المصدر حتى بعد أن خرج إلى التقاعد في العام 1989.
وبينما كانت الإستخبارات العسكرية تتلقى تقارير غيل، بدأ الموساد بالتشكك، وفي مرحلة معينة طلب رئيس الموساد في حينه، شبتاي شافيط، قطع العلاقات مع غيل، إلا أن إصرار الإستخبارات العسكرية (أمان) جعلت شافيط يتراجع عن قراره. وعندما طلب منه تسجيل إحدى محادثاته مع المصدر السوري، عاد ومعه شريط لم يصدر منه سوى ضجيج الشوارع وتمتمات بكلمات غير مفهومة، وادعى غيل عندها أن آلة التسجيل معطوبة. ورغم الشكوك فقد واصل غيل عمله كالمعتاد. وفي هذه الأثناء تبلورت لدى الموساد فكرة أن المصدر السوري المذكور هو من يستخدم غيل وليس العكس. وفي اتصال مع المصدر، أجراه عناصر الموساد بطريقتهم، أثناء إحدى جولاته في أوروبا، توصلوا إلى نتيجة أذهلتهم، وهي أن الرجل لم يكن قط مصدراً..
وبحسب الموساد، فإن المصدر هو من يقوم، وهو مدرك لذلك، بتسليم معلومات أمنية عن دولته مقابل مبلغ مالي أو ما يعادله. وبحسب كبار المسؤولين السابقين في الموساد فإن المصدر لم تنطبق عليه هذه المواصفات أبداً. ربما اعتاد غيل مقابلته، ولكنه لم ينجح في "تجاوز الخطوط" معه وتحويله إلى مصدر يزوده بالمعلومات.
وفي أعقاب هذا الكشفـ، الذي وصف بهزة أرضية في الموساد، تقرر القيام بحملة لفحص مدى صدقية غيل. ولم يكن يعلم بذلك سوى 4 أشخاص، هم رئيس الموساد، ورئيس شعبة "تسومت" (الوحدة التي كان يعمل فيها غيل)، وإثنان آخران تم اختيارهما للعمل الميداني.
وفي سفرته الأخيرة إلى أوروبا للإجتماع بالمصدر، في إحدى العواصم الأوروبية، كان غيل تحت المراقبة منذ اللحظة التي غادر فيها البلاد. ولاحقه عناصر من الموساد حتى اجتماعه بالمصدر في أحد المقاهي. وبحسبهم، فإن اللقاء دام أربعين دقيقة، ولم يتفوه الجنرال (المصدر) بأية كلمة تقريباً، بل كان يهز برأسه، وبين الفينة والأخرى ينطق بكلمة، في حين لم يتوقف غيل عن الحديث للحظة. وبالطبع لم يشك غيل بأن هناك من يراقبه على الطاولة المجاورة.
وعن هذا اللقاء، قدم غيل تقريراً يشير إلى أنه قد التقاه 3 مرات، في لقاءات دامت 7 ساعات. وعن تفاصيل اللقاءات عبأ غيل عشرات الصفحات بخط يده! وقام جهاز الأمن العام (الشاباك) باعتقاله لحظة هبوطه من الطائرة في البلاد، وسط ذهول عناصر الموساد.
وبعد أن أدخل ِإلى غرفة التحقيق، قال رئيس شعبة "تسومت" إيلان مزراحي، للمحقق المدعو "الشريف":" لن تستطيع كسره، فأنا أعرفه جيداً". بعد ساعتين خرج "الشريف" من غرفة التحقيق باعتراف كامل من غيل، الذي جلس منهاراً بعد أن اعترف بأنه فبرك جميع التقارير التي قدمها للموساد.
وكانت الحقائق مذهلة.. غيل لم يجند الجنرال السوري أبداً.. ولم يتلق منه أية معلومة بتاتاً، وإنما قام بفبركة التقارير لمدة 20 عاماً..
هاشم حمدان
المصدر: عرب 48
إضافة تعليق جديد