جبلة عروس البحر مدينة تلخص تاريخ سوريا
لكل مدينة في سورية حكاية تتشابه بالخطوط العريضة وتختلف ببعض التفاصيل التي تميز كل منطقة من مناطق وطننا الذي شهد نشأة الحضارة وبداية التاريخ فمن الجنوب إلى الشمال شرقاً أم غرباً جبلاً وسهلاً وساحلاً تستوقفك كل بلدة ومدينة لتروي ما مرت به من مراحل وما شهدته من أحداث أسهمت في كتابة تاريخ المنطقة والعالم.
رحلتنا اليوم ستأخذنا إلى مدينة جبلة التابعة لمحافظة اللاذقية حيث البحر والجبال والغابات والسهول الغنية بالأوابد الأثرية والبناء المعماري الذي يجسد جميع المراحل التاريخية والحضارات التي مرت على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وخاصة في هذه المدينة التي سميت باسم جبالا وهو اقدم اسم عرفت به حتى الآن حسب ما ورد في نصوص رأس شمرا وأوغاريت إلى ان سماها الفينيقيون باسم غابالا الذي حافظت عليه في الفترة اليونانية.
ويشير مدير آثار اللاذقية الدكتور جمال حيدر إلى أن بداية النشاط الاثري كان في سهل جبلة على يد الباحث الفرنسي ارنست رونان عام 1860 م أثناء زيارته للساحل الفينيقي وكان هدفه الكشف عن الاثار الفينيقية التي ذكرتها المصادر الكلاسيكية وكشفت اهميتها القطع واللقى الاثرية التي حملها الرحالة والمستشرقون معهم عند تجوالهم في المشرق خلال القرن السابع عشر وخلال النصف الاول من القرن الثامن عشر وقد شاهد ارنست رونان مدافن الجبيبات المكشوفة على شاطئ البحر ومسرح جبلة الكبير.
وتضم جبلة بين جنباتها أهم سهول الساحل السوري التي تمتد على طول 40 كيلومترا وتتميز بعمقها وقلة تعاريجها وتعد مركز النشاط البشري حيث تبلغ نسبة الأراضي المزروعة فيها نحو 30 بالمئة من مساحتها نصفها مروي بمياه الانهار والينابيع المتوفرة بكثرة كالسن والرميلة والصنوبر والبرغل.
ويوضح حيدر انه بعد هذه الفترة جاء إلى جبلة الباحث اميل فوريد عام 1934 وقام بسبر في تل سوكاس كان هدفه الكشف عن المدينة قبل العصر اليوناني وقد اعتبرها موجودة في تل التويني وفي عام 1952 بدأت اعمال بعثة وطنية برئاسة الباحث نسيب صليبي بالكشف عن معالم مسرح جبلة حيث تم الكشف عن المدرجات وبعض الاروقة وفي عام 1958 م قدمت إلى جبلة بعثة اثرية دانماركية برئاسة الباحث جان بول ريس بهدف العمل في تل سوكاس كما قامت البعثة بمسح اثري لسهل جبلة واسفرت عن كشف 24 موقعا وتلا اثريا واستمر العمل في تل سوكاس حتى عام 1963.
في عام 1982 م قام الفريق العامل في رأس ابن هاني بحسب حيدر بالكشف عن مدافن تعود للفترة الرومانية في موقع الجبيبات برئاسة الباحث صليبي والباحث جاك لاغارس وبعد هذا التاريخ بدأت المديرية العامة للاثار والمتاحف الاهتمام أكثر بسهل جبلة ومواقعها الاثرية التي لايزال العمل مستمرا فيها حتى الآن وأهمها تل سيانو والتويني وايريس.
وعن الفترات والمراحل التي مرت على المدينة يشير مدير آثار جبلة المهندس ابراهيم خيربيك إلى ان المدينة مرت بمراحل عديدة حيث كانت المدينة خلال المرحلة الكنعانية تابعة لمملكة أوغاريت وذلك في الألف الثاني قبل الميلاد وكانت في هذه الفترة مرفأ لمملكة سيانو وقد تعرضت كغيرها من مدن الساحل إلى غزو شعوب البحر في القرن الثاني عشر قبل الميلاد كما تعرضت للغزو الاشوري في القرن التاسع قبل الميلاد.
أما في مطلع القرن الثامن قبل الميلاد فقد ضمت جبلة لمملكة أرواد وفي القرن السابع قبل الميلاد خضعت لحكم البابليين ثم احتلها الفرس في القرن السادس قبل الميلاد اما في المرحلة اليونانية فقد خضعت لحكم الاسكندر المقدوني عام 333 قبل الميلاد وفي نهاية القرن الرابع قبل الميلاد اصبحت تحت حكم السلوقيين.
ويوضح خيربيك ان الفترة الرومانية كانت في عام 64 قبل الميلاد حيث خضعت سورية للسيطرة الرومانية وفي هذه الفترة ازدهرت مدينة جبلة واحتلت مكانة مرموقة بين المدن الرومانية ، اما في الفترة البيزنطية عام 395 ميلادية أصبحت تحت الحكم البيزنطي وفي هذه الفترة تطورت المدينة وأصبحت مزدهرة وعندما بلغت اوج ازدهارها ضربها زلزال سنة 476 ميلادية ، وفي منتصف القرن السادس الميلادي قام الملك يوستينيانوس بإعادة بناء المدينة من جديد.
أما في الفترة الاسلامية فقد قام المسلمون سنة 638 م بفتح جبلة بقيادة عبادة بن الصامت الذي فتحها عنوة ثم دمرت وهجرها أهلها وحول مسرحها إلى قلعة وأعاد معاوية بن ابي سفيان بناءها وشيد فيها حصنا جديدا خارج حصنها الروماني القديم ، وفي عام 777 م توفي ابراهيم بن الادهم المتصوف في جبلة ودفن فيها وبني له جامع سمي فيما بعد باسمه.
وفي عام 859 م تعرضت جبلة لزلزال عنيف وبقيت بيد المسلمين إلى أن احتلها يوحنا دمشتق الرومي عام 969 م وظلت تحت سيطرته إلى سنة 1080 م حيث نجح ابو محمد عبد الله بن منصور ابن الحسين التنوخي قاضي جبلة باستعادتها وبقيت بيد المسلمين إلى سنة 1098.
ويبين مدير آثار جبلة ان الفرنجة قاموا بين عامي 1098 و 1099 باحتلال المدينة بقيادة ريمون دي سان جيل حيث تبعت جبلة لامارة انطاكية الفرنجية وفي هذه الفترة قام الفرنجة بتنظيم وترميم مرفئها ودعيت زيبل وفي عام 1188 م حررها صلاح الدين الايوبي ثم عاود الفرنجة احتلالها فوهبها ريمون امير انطاكية عام 1207 م لمجموعة من الفرنج الاوسبتالية وفي عام 1289 م حررها السلطان منصور قلاوون.
اما في الفترة المملوكية فقد اصبحت جبلة تابعة لنيابة طرابلس وشهدت كباقي المدن فترة من الازدهار حيث تنوعت الفنون فبنيت فيها الحمامات والمساجد والمساكن والأسواق حتى الفترة العثمانية في عام 1516 م حيث استولوا عليها بعد معركة مرج دابق وجعلوها تابعة لولاية طرابلس ، وفي عام 1796 م تعرضت جبلة لزلزال الحق بها اضرارا كبيرة ، وفي عام 1821 م فصلت منطقة طرابلس التي كانت تتبع لها جبلة عن امارة عكا واصبحت مستقلة ولها وال في طرابلس.
وفي عام 1822 م تعرضت جبلة لزلزال اوقع فيها أضرارا كبيرة وفي عام 1832 وقعت تحت سلطة ابراهيم باشا حتى عام 1865 ووقعت تحت الانتداب الفرنسي في عام 1918 حتى 6 نيسان عام 1946 حيث غادر اخر الجنود الفرنسيين تحت ضربات مقاومة أبنائها.
وبين خيربيك ان عشر مراحل تاريخية مرت على جبلة وهي لاتزال مدينة نابضة بالحياة وقد احتفظت من ماضيها القديم بأوابد تاريخية هامة كشاهد على تلك المراحل الزمنية التي عاشتها.
سانا
إضافة تعليق جديد