جنيف اليمني: الطموح الأقصى.. «هدنة رمضانية»
لو كان لدى بحيرة «ليمان»، في قلب مدينة جنيف السويسرية، ناطق رسمي، لا بدَّ أنَّه كان سيقول إنَّها باتت تعاني من «بارَنويا» الصراعات من كثرة ما حدّق فيها المتحاربون. ضفافها التي يطل عليها قصر الأمم المتحدة، شهدت يوم أمس استضافة صراع جديد يتوسَّل التسوية. استعار الحرب اليمنية قادة أطرافها، بعد ضغوط ليست قليلة، خصوصاً على وفد الرياض، إلى القدوم رغم أنَّ وسطاء قالوا إنهم لا يعلقون آمالاً كبيرة بإنجاز تسوية. تحقيق هدنة إنسانية، وقف نار مؤقت، يمكن تسميته «هدنة رمضان»، سيكون أكثر ما تطمح إليه الأمم المتحدة التي باتت تقود الوساطة الرسمية الآن بين وساطات أخرى.
يقول أحد المشاركين في الوساطة إن قلة التفاؤل بالنتائج يمكن قراءتها من العناوين المنذرة: إشاعة أنَّ حضور الطرفين ليس مؤكداً، وبالتالي إمكانية إلغاء المؤتمر، والخلافات حيث وُجد تفصيل يمكن الاشتباك حوله. لكن الأطراف على الأقل حضرت، برغم كل الشائعات حول التشكيك بإمكانية قدوم وفد «أنصار الله» وحلفائهم من صنعاء.
وفد الرياض جاء قبل يومين مع ذخيرة «المكسب السياسي»، فهو يمثل الفريق الداعم للرئيس اليمني، المقيم في السعودية، عبد ربه منصور هادي والحكومة المستقيلة بوصفها «السلطة الشرعية». لكن مكاسب الميدان هي التي جلبت وفد ممثلي جماعة «أنصار الله» والرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح. يمكن الاستدلال بمن رفض المفاوضات، ووضع عليها شروطاً مسبقة، لتقدير إلى أيّ كفة يرجح الميزان بين هذه المكاسب وتلك.
لم يأتِ حلفاء الرياض إلا بعد ضغوط مارستها الأمم المتحدة، عبر الوسيط الدولي اسماعيل ولد الشيخ أحمد، كما لم يعد خافياً ضغوط واشنطن لعقد المفاوضات بعدما فرضت على الرياض سابقاً هدنة إنسانية كانت مدتها خمسة أيام. صار واضحاً للجميع أنَّ تأمين أكبر صفو ممكن لمفاوضات النووي الإيراني هو كل ما تفكر فيه الولايات المتحدة الآن. كل شيء آخر، على الأقل الآن، يقع في خانة «التفاصيل» ما دام الإنجاز الأهم لإدارة الرئيس باراك أوباما بات ممكناً.
في مجمل الصورة، لم يتغيَّر شيء منذ رفض هادي حضور مؤتمر جنيف، ما أدى إلى تأجيله ليبدأ رسمياً اليوم. حينما سألنا المتحدث باسم الأمم المتحدة أحمد فوزي عمّا غيَّر موقف وفد الرياض، لم يخف أنَّ المبعوث الدولي أوصل رسالة مفادها أنَّ عقد المؤتمر هو رغبة دولية لا بدّ من الاستجابة لها. اعتبر معلقاً على ذلك: إنَّه من «المنطقي» القول إنَّ جهود الوسيط الأممي هي التي أقنعت وفد الرياض بالقدوم، مزكياً ذلك بالتأكيد أن «المشاورات كانت مستمرة بين المبعوث الدولي والأطراف اليمنيين».
لذلك لم يكن غريباً محاولة وفد الرياض، بقيادة وزير الخارجية بالوكالة رياض ياسين، جعل أرضية المباحثات تقوم على ما يعتبرها «المكاسب السياسية». محاولة لجعل لوحة النتائج تعدّ النقاط السياسية قفزاً عمَّا يحصل في الميدان العسكري للمواجهة المستمرة. أصرّوا على القول إنَّ ما جاؤوا من أجله ليس مفاوضات، بل فقط «مشاورات» هدفها تطبيق قرارات الأمم المتحدة التي تعطيهم الغلبة السياسية. يقصدون طبعاً قرار مجلس الأمن الرقم 2216 الذي يطالب بإعادة السلطة إلى الحكومة الشرعية، مع انسحاب «اللجان الشعبية» التابعة لـ «أنصار الله» وقوات الجيش اليمني الحليفة لها من المدن التي تسيطر عليها. هذه المحاججة لم يتوقف وفد الرياض عن إعلانها طوال يوم أمس، مستثمراً وجوده مسبقاً بحملة عبر وسائل الإعلام التي كانت أمام خيار يتيم: الإصغاء إلى طرف واحد بسبب تأخُّر وصول وفد صنعاء.
هكذا روج الوفد لصيغة أنَّ ما يجري هي «مشاورات» بين فريقين ليسا في الكفة نفسها: «الشرعية ضدَّ الانقلابيين». لذلك أصدرت أطراف الوفد بياناً اعتبرت فيه أنَّ «اللقاء التشاوري في جنيف بين طرفين هما السلطة اليمنية وطرف الانقلابيين».
لكن كان واضحاً للوسيط الدولي أن صيغة كهذه ستنسف المؤتمر بالكامل. لذلك، بادر من جنيف إلى إصدار بيان يحسم فيه الأخذ والرد. أكَّد أنَّ أساس المفاوضات هو تمثيل سياسي متعدد الأطراف، كما طالب وفد صنعاء، وفق ما جرى عليه مؤتمر الحوار اليمني قبل اندلاع الصراع وتحوله إلى السلاح. اعتبر ولد الشيخ أحمد أنَّ مؤتمر جنيف سيكون «بين المكوّنات السياسية اليمنية، وهي المؤتمر الشعبي العام وحلفاؤه، أنصار الله وحلفاؤهم، المشترك وشركاؤه، والحراك الجنوبي السلمي»، مراعياً مطالب وفد الرياض بالقول إنَّ اللقاء يمثل «المشاورات الشاملة الأولية». في الوقت ذاته، ابتعد المبعوث الدولي عن الإيحاء بأيّ شروط مسبقة، لأن تطبيق قرارات الأمم المتحدة بات مضماراً رحباً للمناورة بين الطرفين. لذا اعتبر أنَّ الهدف من مسار جنيف هو «إيجاد سبل لإحياء العملية السياسية والتوصل إلى حلّ ينقذ اليمن وشعبه من الأزمة الحالية الخطيرة».
الأمم المتحدة حاولت وضع ثقلها خلف المؤتمر. أمينها العام بان كي مون حضر إلى جنيف، ليلتقي أمس الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي عبد اللطيف الزياني. كان لقاءً رمزياً استمر قرابة نصف ساعة، تلاه لقاء مشابه عقده المبعوث الأممي مع ممثِّلي «المجموعة الداعمة» لمسار جنيف، ما باتت تُعرف بمجموعة «الـ 16»، وتضم علاوة على الدول، كلاً من ممثلي مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي.
في مؤشر إلى عدم حماسة الخليج للمؤتمر، أكد مصدر مشاركة بعض ممثلي دوله بتمثيل دون مستوى سفير، كما أنَّ دولاً امتنعت عن إرسال أي ممثل عنها. في السياق ذاته، التقى المبعوث الأممي وفد الرياض في فندقه، محاولاً امتصاص غضبه على تغليب صيغة التمثيل المتعدد على صيغة «الشرعية والانقلابية».
المباحثات ستنطلق في صالات منفصلة، وسيتكرَّر سيناريو جنيف السوري. بعد افتتاح المؤتمر من قبل بان كي مون، سينتقل الوسيط الأممي بين صالتي الوفدين، ناقلاً وجهات نظر كل منهما. سيحاول الوسيط الانتقال بالطرفين إلى صالة واحدة، برغم توعّد وفد الرياض بأنَّه يرفض بالمطلق هذا الخيار. مع ذلك، أكد المتحدث باسم الأمم المتحدة أنَّ صيغة الصالتين «ليست نهائية»، موضحاً أنَّ الوضع «قد يتغير، وهذا ما نأمله».
مصدر حضر لقاءات أمس أكَّد أنَّه سيكون نجاحاً لمبادرة الأمم المتحدة لو خرج جنيف بالتوصل إلى «هدنة كيفما كان أمدها وشكلها»، تمهيداً لدخول اليمنيين شهر رمضان.
فيما تقول الأمم المتحدة إنَّ أمد المؤتمر مفتوح، واختتامه يوم الأربعاء ليس أكيداً، لجهة اختصاره أو تمديده بحسب النتائج، أكَّد أحد الوسطاء الدوليين أنَّ صيغة الاختصار غير واردة. المصدر قال إنَّه يضمن على الأقل أحد الأطراف، موضحاً أنَّ «الحوثيين ما داموا قد أتوا فهم باقون، هذا ما أكدوه لنا مسبقاً».
مجمل أجواء التردد هذه أكَّدها أيضاً سفير تركيا لدى اليمن فضلي تشورمان، الذي يعمل الآن من الرياض. قال بعد اجتماعهم بالمبعوث الأممي إنَّ «هناك حاجة إلى الإرادة من قبل جميع الأطراف، ربَّما هذا هو العنصر المفقود حالياً»، لافتاً إلى أنَّ الحصص في السلطة هي محور الخلاف لأن «80 في المئة من العملية الانتقالية تم إنجازه، ويمكن إكماله في بضعة أشهر إذا توفرت إرادة الشراكة في البلد وليس الاستحواذ عليه».
هناك خبراء في الشأن اليمني يقولون إنَّ انعقاد المؤتمر بحدّ ذاته يعد إنجازاً، نظراً إلى التعقيدات التي وصلها هذا الصراع. وجهة نظر يتبناها جون جينكينز، مدير «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية»، وسفير بريطانيا لدى الرياض التي قضى فيها ثلاثة أعوام اختتمها أواخر كانون الثاني الماضي. يقول معلقاً إنَّ «المشجع هو انعقاد المؤتمر، والجميع يشارك، فهذا يبدو لي شيئاً جديداً لأنَّهم لم يجلسوا معاً منذ وقت طويل»، قبل أن يضيف أنَّ «الشيطان يكمن في التفاصيل، فالأمر يعتمد على كل الأطراف، لأنَّه ليس هناك طرفان، هناك عدة أطراف تتقاتل في اليمن، والجميع يجب أن يحصلوا على شيء من المؤتمر كي ينجح».
لكن خبراء آخرين يشيرون خصوصاً إلى تعثّر السعودية وحلفائها. هذه الخلاصة نقلتها مراجعة للمشهد العام، كتبها قبل أيام آدم بارون. الخبير المختص في الشأن اليمني، في الخلية البحثية المعروف في لندن «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، اعتبر أنَّه برغم مضي أكثر من شهرين على بدء الحرب الجوية، لكن تحالف الحوثيين - صالح «استمر في تحقيق مكاسب صافية برغم بعض التراجع في مناطق جنوب البلاد». الوجه الآخر لضعف حلف الرياض برأيه، هو أنَّه غير متماسك، لأنه يضم «بأحسن الأحوال متناقضين تجاه هادي»، وذلك برغم تقديمهم كداعمين لـ «شرعيته».
يقول بارون شارحاً وجه الضعف الآخر: «هناك مؤشِّرات قليلة لوجود أيّ تنسيق له معنى بين مختلف الأطراف المعادية للحوثيين»، برغم «صلاتهم العامة تحت راية التحالف الذي تقوده السعودية». مكملاً هذه الصورة المشككة، يتحدث الخبير في الشأن اليمني عن عنصرين آخرين هما: حساسية الميدانيين من وجود حكومة منفى مترفة في الرياض، وتمدّد «القاعدة» عبر تسويات مع القبائل وحتى «دمجها».
كل هذا يجعل انعقاد المؤتمر مجرد خطوة صغيرة في مسار لا يمكن توقّع نهايته أو تحوّلاته. أحد من التقوا المبعوث الأممي أمس قال إنَّه برغم اختلاف الظروف، لكن اليمن يتبع خطى صراع سوريا لأنَّ ما يحدث يمكن تسميته «جنيف واحداً» يمنياً. أوضح مجمل الصورة بالقول إنَّ «الجميع يحتاج إلى مخرج لأنَّ الوضع على الأرض معقد جداً، إذا استمر الوضع هكذا فالإقليم سيدفع ثمناً باهظا لفترة طويلة».
ميدانياً، تمكّن الجيش اليمني مسنوداً بـ «اللجان الشعبية» التابعة لـ «انصار الله» من السيطرة، يوم أمس، على عاصمة محافظة الجوف على الحدود مع السعودية، وهو ما يعد انتصاراً مهماً للجماعة في ظل انعقاد مباحثات جنيف واستمرار الحرب على اليمن.
وفرض الجيش و «اللجان» سيطرتهم على مدينة الحزم وسط قتال عنيف مع الميليشيات الموالية لعبد ربه منصور هادي.
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد