خوان غويتيسولو إلتحق بصديقه جان جينيه: من عمالقة الأدب الإسباني وعاشق العرب وفلسطين!
لم يكن خوان غويتيسولو (1931 ــ 2017) الذي غادر عالمنا أول من أمس كاتباً أجنبياً يقيم في المغرب. لقد كان كاتباً مغربياً أيضاً، انشغل بهموم هذا البلد، دافع عن قضاياه وتعلّم لهجته وتماهى مع أشكال وأساليب الحياة فيه. هذا ما تقوله السنوات الطوال التي عاشها في مراكش، المدينة التي اختار منذ السبعينات الإقامة في أحيائها القديمة.
كان غويتيسولو مريضاً في الفترة الأخيرة. أصدقاؤه المقربون انتبهوا إلى ذلك، وعرفوا أنّه يسير نحو النهاية. فقد جعل الكسر الذي تعرّض له على مستوى الحوض، جسده منهكاً وثقيل الحركة. توفي صبيحة الأحد في بيته في «درب سيدي بو الفضايل» بعد 86 عاماً، قضى معظمها في المغرب، وتحديداً في المدينة الحمراء التي يعود إليه الفضل في تصنيف ساحتها الشهيرة «جامع الفنا» من لدن اليونسكو ضمن التراث العالمي الشفهي مع مطلع الألفية الجديدة.
في الفترة ذاتها، سينحاز إلى المهاجرين المغاربة الذين تعرضوا لاعتداءات ذات طابع عنصري في اسبانيا، فالهجرة بالنسبة إليه «حق مقدس» كما كان يرى جيل دولوز.
غير أنّ انشغال غويتيسولو بقضايا المغرب يعود إلى نهاية السبعينات، يوم دافع بشكل قوي عن مغربية الصحراء في وقت كانت الأوساط الرسمية في اسبانيا ضد هذه المسألة. ويمكن في هذا الصدد الوقوف عند كتابه اللافت «مشكل الصحراء» الصادر سنة 1979. كما أنّ صاحب «حدود زجاجية» كان من المدافعين عن فكرة «المغرب الكبير» الداعية إلى اتحاد البلدان العربية الخمسة في شمال إفريقيا (المغرب، الجزائر، ليبيا، موريتانيا وتونس) لتشكل قطباً اقتصادياً وسياسياً فاعلاً على المستوى العربي والقارّي بعيداً عن التشنجات السياسية.
تصادم باكراً مع نظام فرانكو الديكتاتوري الذي حوّله من مواطن إسباني إلى لاجئ غير مرغوب فيه. منذ مطلع الخمسينات، غادر بلاده باتجاه باريس، ثم اختار المغرب. قرر أن تكون مراكش مقاماً وملهمة للكتابة، هو الذي كان يردّد في حواراته: «أنا ابن ساحة جامع الفنا»، مشيراً في المقابل إلى أنه لم يعد يعتبر نفسه جزءاً من المجتمع الإسباني «لأني لا أشاركه قيمه. فنتيجة لإقامتي الدائمة في الخارج، عوّضت الأرض بالثقافة».
ظل غويتيسولو الذي وصفه كارلوس فوينتس بأنه «أحد عمالقة الأدب الإسباني» يذكّر اسبانيا بأثر الحضارة العربية والإسلامية فيها... أثر يسعى الخطاب الرسمي دائماً إلى محوه وإلى محاولة اقتطاع ثمانية قرون من الحضور العربي والإسلامي في التاريخ الاسباني.
منذ روايته الأولى «لعبة الأيدي» (1954) ــــ اللعبة التي ظل غويتيسولو يجيدها على مدار عقود ــ وهو يتشابك بالكلمات، لا بالأيدي فحسب، مع الكثير من القضايا الإنسانية التي تناولها في مؤلفاته، ودافع عنها عبر مواقفه المعروفة، سواء تلك المرتبطة بالشعب الإسباني، أو بعدد من الشعوب العربية والإسلامية. وهنا يمكن تذكر تلك الريبورتاجات الروائية والنصوص التي خصّصها لغزة والقاهرة والجزائر وفاس واسطنبول والشيشان وغيرها.
فضلاً عن ذلك، لا يمكن نسيان موقف غويتيسولو من القضية الفلسطينية، ومن الاستعمار الفرنسي للجزائر، ومن الغزو الأميركي للعراق، ومن قضية البوسنة، واستبداد بعض الأنظمة العربية. لا يمكن نسيان الكتب التي أصدرها في السبعينات وخلخلت الأوساط الثقافية والسياسية في اسبانيا، لأنها كانت محاكمة لتلك النظرة السلبية التي يملكها الاسبان إزاء المرحلة الأندلسية. كما لا يمكن نسيان جائزة القذافي العجيبة التي رفضها غويتيسولو فيما تهافت عليها المثقفون العرب.
لن يدفن جثمان غويتيسولو لا في مراكش حيث عاش، ولا في برشلونة حيث ولد، بل في مدينة العرائش شمال المغرب جنب صديقه الكبير جان جينيه. وقد تواصلنا مع أصدقائه من المثقفين المغاربة المقيمين في مراكش، أولئك الذين كانوا يترددون على منزله ويجالسونه سواء في مقهى «مطيش» أو مقهى «فرنسا» في ساحة جامع الفنا.
يقول الشاعر والإعلامي ياسين عدنان: «في كانون الأول (ديسمبر) الماضي رأيتُه آخر مرة. تعمدنا المرور على «القنارية»، أخي طه، الصديق محمد آيت لعميم وأنا، بغرض الاطمئنان عليه والسؤال عن أحواله بعد الكسر الذي تعرّض له على مستوى الحوض إثر سقوطه في مقهاه الأثير: مقهى «فرنسا» المُطل على ساحة جامع الفنا، الساحة التي أدهشته وغيّرت فهمَه للأدب. كان متعباً، لكنه مع ذلك جاملنا قليلاً. كان أيضاً يجيب على أسئلتنا باقتضاب، ثم يسرح في البعيد».
ويضيف عدنان: «قبل ذلك. وعقب فوز خوان بجائزة «سرفانتس» التقيتُ به في مقهى «فرنسا» يشرب شايه بهدوء ويرقب الساحة. هنأته بالفوز. لكنه لم يكن مهتماً جداً لذلك. كان أول سؤال بادرني به: «هل قرأت خطابي أمام الملك؟». قلت له طبعاً قرأته. «بأي لغة؟» سألني. «بالفرنسية والعربية»، أجبته. ثم بدأ يسألني عن الترجمة العربية: «هل كانت موفقة؟». هكذا هو خوان غويتيسولو. التفاصيل هي ما يهمه. وربما حرصه على أن يصل خطابه إلى العالم العربي، ثم إلى أصدقائه المراكشيين بشكل خاص. أما الأمور الأخرى، فلا يكاد يهتم بها. المجد الأدبي لا يعنيه. يعنيه الموقف. وتعنيه الكلمة. ويهمه كثيراً أن يصل صدى كلمته إلى من يحب».
الناقد والمترجم محمد آيت لعميم يقول لـ «الأخبار»: «ذات مرة وأنا أكلمه حول ابن عربي، طلب مني أن أرافقه إلى بيته في درب سيدي بو الفضايل في القنارية، وأهداني نسخة من روايته «الأربعينية». بعد ذلك، توطدت علاقتنا وكان يعطيني مقالات كتبت حوله أترجمها إلى العربية، وكان يفرح حين يرى اسمه مكتوباً بالعربية. مرة سألته وأنا أتجول معه في ساحة جامع الفنا: لماذا لا تنتقد الكتّاب العرب؟ ففاجأني بجواب ذكي قال لي: أنا كتبت «الأربعينية» واستلهمت الفتوحات المكية، وكتبت «فضائل الطائر المتوحد» واستلهمت فيها ابن الفارض. كنت بهذا الصنيع أنتقد أولئك الذين راحوا يبحثون عن الحداثة عند كتّاب الغرب».
يضيف آيت لعميم: «لقد ظل خوان وفياً لمراكش التي أعطته الكثير وبادلها المحبة نفسها، وقد طالبت في تأبينه أن يتحول بيته متحفاً ومعهداً للدراسات الأندلسية المغربية».
الناشر عبد الغفار سويرجي الذي كان يلازم خوان كثيراً، يرى أن وفاته تشكل «فقداناً لأحد الكتّاب العالميين الكبار. فالراحل هو أحد أبرز كتاب اللغة الإسبانية في العصر الحاضر، تعلم في مراكش العامية المغربية وكتب روايته الشهيرة «مقبرة» التي تستلهم لغات الشارع والحياة اليومية والخيال الشعبي لرواة الساحة». ويضيف: «إنه كاتب وشاعر وروائي إسباني طبع تاريخ الأدب الإنساني بطابع فريد. يعيش بلا أرض، وطنه الترحال. يحلم بمجتمع متعدد الأعراق، مفتوح على آخره. مجتمع مواطنوه أتراك، عرب، وهنود وأوروبيون... الكتابة عنده هي الحياة ذاتها».
عبد الرحيم الخصار
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد