دمشق في عشية ما قبل القمة العربية
لم يكن مفاجئا لأغلبية السوريين أن يكون ما كان من مقاطعة رسمية لبنانية لقمة دمشق. هو مسار يشي بالذي حصل وعمره القريب ثلاث سنوات، أما عمره البعيد، فإنه من عمر الكيان اللبناني قبل أقل من قرن من الزمن.
حاولت دمشق التفريق بين خصومتها «السورية» مع الجار اللبناني، أو بالأحرى مع فريق سياسي لبناني، وبين رحابتها «العربية» المفترضة كبلد مستضيف للقمة. هي النصيحة نفسها التي أسدتها القيادة السورية في شتاء العام 2002 للقيادة اللبنانية الحليفة لها في بيروت. قال مسؤول سوري كبير وقتها للبنانيين «لا تترددوا بدعوة الزعيم الليبي معمر القذافي الى القمة. لبنان شيء بحساباته الداخلية والاقليمية وأن يكون رئيسا للعرب شيء آخر». وبالفعل، استجابت السلطة في لبنان لنصائح دمشق وتوجه وفد لبناني برئاسة عبد الرحيم مراد الى طرابلس الغرب ووجه الدعوة الى القذافي، لينجز لبنان «واجبه» تاركا لغيره أن يقرر أمره تلبية لدعوته أو تجاهلها.
ما يسري على لبنان، كان يفترض أن يسري على سوريا. خلال الاجتماعات الوزارية العربية في القاهرة، سحبت فكرة تسليم دعوة لبنان الى المندوب اللبناني في الجامعة العربية. قال وقتها احد المسؤولين العرب ناصحا «بوجوب التعامل مع لبنان كدولة مستقلة... هناك حكومة شرعية على رأسها فؤاد السنيورة يعترف بها كل العالم ويجب أن تسلم الدعوة اليها».
يعتقد المسؤولون السوريون في دمشق أن طريقة تسليم الدعوة الرسمية من رئيس الحكومة السورية الى نظيره اللبناني في الجمهورية اللبنانية «السيد فؤاد السنيورة»، قد استوفت كل الشروط السياسية ويقول أحدهم «خصوماتنا وصداقاتنا شيء، وأن نتصرف كبلد مضيف للقمة شيء آخر. هذه دمشق، وهي أقدم مدينة عربية مسكونة ولأهلها تاريخهم في الترحيب بالضيوف».
ربما تكون الصورة في لبنان مختلفة، استنادا الى شكل توجيه الدعوة، بمعزل عن الظروف السياسية الخارجية أولا، التي أنضجت قرار المقاطعة. يقول مثقف سوري «تصوروا مثلا أن يفاجئ الرئيس السوري بشار الأسد المقاطعين قبل الحاضرين، بأن يعلن في خطابه بافتتاح أعمال القمة (اليوم) أن سوريا تدعو لانتخاب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيسا للجمهورية فورا ومن دون أية شروط، هل سيكون موقفه كافيا لتجنب الضغوط العربية وهل ما يتبناه بالضرورة سيكون ملزما لحلفاء سوريا في لبنان. هل يقبل الجنرال ميشال عون بإملاءات سوريا ومن قال إن الرئيس نبيه بري أو السيد حسن نصر الله هم «شرابة خرج»؟ .. إلا أنه من المتوقع أن يؤكد الأسد في خطابه تأييد سوريا للمبادرة العربية، وأن يشدد على دعم المقاومة، وأن يتجنب الدخول في الخلافات العربية.
لم يتغير المشهد الحدودي بين البلدين طيلة ثلاث سنوات أعقبت الانسحاب العسكري السوري من لبنان. اختفت الأسواق اللبنانية التي كانت تمتد ما بعد المصنع. لا عجقة في «المواقف» التي تنقل الركاب بين البلدين. وعندما تتقدم لتصريف دولاراتك بالعملة السورية، يبشّرك الصرّاف اللبناني من آل المصري في شتورة بأن العملة السورية ما زالت ترتفع. يستمع السائق لبعض النقاش النقدي، فيبدأ برواية سيرة حياته طيلة ثلاث وثلاثين سنة على خط الحدود بين بيروت ودمشق. «الثلاث سنوات الأخيرة هي من اصعب السنوات. في ايام الحرب اللبنانية لم تكن هناك مشكلة. الآن نسمع مثلا خطابات الرئيس أمين الجميل ضد سوريا، وسرعان ما نستذكر تاريخه والأرقام القياسية للقمم التي عقدها مع الرئيس الراحل حافظ الأسد» يقول محمد فاكهاني وهو «شوفير» لبناني من منطقة الطريق الجديدة وزوجته تحمل الجنسية السورية.
«لا أدري الى أين يريد البعض في لبنان الوصول من هذه الحرب المفتوحة ضد سوريا» يقول أحمد ابن منطقة راشيا، وهو موظف في جهاز رسمي لبناني. كان أحمد قد وضع ختم المغادرة لتوه في نقطة الأمن العام في المصنع. في هذا المكان بالذات، يتبدى أيضا حجم جبل التباعد بين البلدين. موظف وحيد يتولى الختم لكل المغادرين اللبنانيين ولا يتجاوز عددهم اصابع اليد الواحدة. اختفى مشهد الطوابير الذي كان مألوفا بصورة يومية قبل ثلاث سنوات. تغيّرت المعالم والمشاهد. اختفى رجال الأمن السوريون في المقلب اللبناني، كما اختفت «الصور السورية» التقليدية.
بدا الجو هادئا وقاتما وحزينا عند الحدود. لا عجقة ولا وجوه سعيدة. طابور الشاحنات يمتد طويلا في الاتجاه اللبناني وليس العكس!
هنا نقطة الجمارك والأمن السورية. دخلنا الى السوق الحرة. لم نكن نعرفها من قبل. التعامل فيها فقط بالعملة الصعبة. الصعبة على السوريين أو الفئة الأعم منهم، باستثناء من يريد التوفير في شراء «كروز» من الدخان سيجده أقل سعرا منه في الأراضي السورية. في السوق الحرة، يفوق عدد الموظفين السوريين الرواد الحدوديين على الرغم من اغراء الأسعار لهواة العطور والسيكار والمشروبات والثياب والألعاب وغيرها..
يقول السائق ان التشديد الأمني الحدودي في الجانب السوري مرتبط فقط بالقمة. «قبلها كانت الأمور أسهل بقليل». لا شيء يعطي اشارة الى أنك تتجه نحو «القمة» الا ما تجده في دمشق من اجراءات ستبقى سارية المفعول حتى صباح الاثنين المقبل.
في بعض الطرقات الرئيسية التي ستسلكها مواكب القادة المشاركين في القمة وخاصة من المطار الى قصر المؤتمرات، تجد العلم اللبناني يحتل حيزه المألوف بين أقرانه العربية في الوسطيات المضاءة والمنسقة حديثا يميزها من حولها الاسفلت «الطازج». العلم نفسه يرتفع على الساريات العملاقة في المركز الاعلامي وفي فندق ايبلا ومعظم الفنادق المتصلة بأعمال القمة.
في القاعة المخصصة لاجتماع المندوبين كما وزراء الخارجية، بقى المقعد اللبناني فارغا تدل عليه وتميّزه، كلمتا «الجمهورية اللبنانية» والعلم اللبناني الذي أحاطته العدسات الفوتوغرافية بعنايتها، طالما أن البث الفضائي ظلّ محصورا بالفضائية السورية.
في المناقشات التي جرت في اجتماعات المندوبين ووزراء الخارجية، مرّ المشاركون مرور الكرام على الملف اللبناني. يقول أحد أعضاء الوفود العربية «لا شيء لدينا نضيفه الى ما سبق وقلناه في اجتماعات القاهرة الوزارية»، وعندما سئل أحد وزراء الخارجية الخليجيين عن تفسيره للمبادرة العربية بشقها الحكومي أجاب «يمكن للأكثرية أن تحصل على ما بين عشرة الى خمسة عشر مقعدا وزاريا. أكثر من ذلك يكون بمقدورها الاستئثار». وماذا عن المعارضة، «يمكنها أن تحصل على حصة تتراوح بين وزير وعشرة وزراء بما يفقدها القدرة على التعطيل». ولكن الهامش يا معالي الوزير من أجل التفاوض كبير جدا؟ سرعان ما يجيب «هذه مأساة المبادرة العربية»!
«في الافتتاح، حتما سيكون هناك كلام سوري جديد في الملف اللبناني» يتوقع اعلامي سوري. لن يتردد اي مسؤول سوري في القول أمام ضيوفه اللبنانيين إن لبنان خسر بقراره مقاطعة القمة. هذا هو لسان حال أغلبية من التقيناهم أيضا من المواطنين السوريين. تقول فتاة سورية كانت تتناول قهوتها الصباحية في مقهى الروضة في الصالحية «لو أرسلوا مندوبا كما فعلت السعودية ومصر أفضل من المقاطعة».
يتحول الموقف من مقاطعة القمة الى كوكتيل من الشحنات القومية التي تنتفي معها كل الجزئيات المرة والصعبة داخليا. فالشارع السوري يئن تحت وطأة أزمة اقتصادية ومعيشية ابرز عناوينها ارتفاع اسعار المحروقات (هناك حديث عن مشروع لرفع سعر البنزين الى 1200 ليرة سورية للتنكة الواحدة، بينما هو حاليا 800 ليرة سورية). هناك أزمة رغيف خاصة مع تراجع موسم القمح لهذه السنة لاعتبارات أبرزها موجة الحر والجفاف....
كل هذه الصعوبات، وغيرها الكثير، يحتفظ بها المواطن السوري في «عوالمه» التي لا يشكل فيها الحديث عن المواجع مبررا للخوف. هنا في الشارع وأمام العدسات، ترتفع النبرة القومية. ترتفع نبرة الانحياز الى القمة أيضا. ترتفع نبرة الانتقاد لقرار اللبنانيين المقاطعة. يخالف السائد موقف بعض المثقفين المعارضين للنظام. يقول أحدهم «المشكلة أن هناك من يريد جعل لبنان شبيها بكل الأنظمة التي تحيط به من المحيط الى الخليج. نحن نريد لبنان بؤرة حقيقية للديموقراطية والليبرالية السياسية والاقتصادية ومختبرا للثقافات، ولذلك آن الأوان للتعامل مع لبنان بوصفه دولة سيدة حرة ومستقلة».
في أوساط بعض المثقفين، تتبدى جرأة عالية في النقد. خاصة عندما يلامس النقاش الموضوع اللبناني. أحدهم يقول «هل يعقل أن تكون هناك جمهورية بلا رئيس»؟ ثان يخالفه قائلا «بالنسبة اليّ يبقى المقياس، ليس ما يريده النظام هنا في سوريا، بل موقف المقاومة اللبنانية، فإذا كانت ترى مصلحة في الانتخاب سنكون معها وإذا كان الانتخاب وحده يشكل خطرا على منظومة مصالحها، فنحن نؤيد موقفها».
لن تجد شعبية في الشارع السوري لأي من رموز الأكثرية. اذا كانت موجودة في بعض الأوساط، فلن يجاهر بها أصحابها. بعض المثقفين المحسوبين على المعارضة دافعوا فقط عن موقف فؤاد السنيورة. وماذا عن موقفكم من وليد جنبلاط؟ يجيب أحدهم ضاحكا «صرت أجد تصريحاته كأنها عبارة عن رسم كاريكاتوري فقط لا غير»! أما السؤال عن سمير جعجع، فحدث ولا حرج عما يستدرجه من كلمات في أحد مقاهي باب شرقي...
ثمة تقدير عال في الشارع السوري لدور «حزب الله» وأمينه العام في المقاومة. لكن التسلل من هذا العنوان باتجاه الموضوع الايراني السوري، يشي بحساسيات، تقول إحداهن، بعد أن تتأكد من أن جهازها الخلوي مركون في محفظتها وليس أمامها، انها تلامس «الخطوط الحمر»، ولذلك تفضل عدم تناولها لا في السر ولا في العلن!
نظرة الاعجاب بالمقاومة تنسحب على ميشال عون الذي يصفه أحد الاعلاميين السوريين في قصر المؤتمرات بأنه «وطني لبناني كبير ولنا الشرف بمخاصمته وبصداقته». لم يصل الأمر بالسوريين الى حد تعليق صور «الجنرال» على سياراتهم كما هي الحال مع صور الأمين العام لـ«حزب الله». هم مثلا يحترمون الجرأة السياسية التي جعلت محطة «اورانج تي في» تلبي الدعوة الرسمية للتغطية بفريق يقوده مدير الأخبار والبرامج السياسية في المحطة الزميل جان عزيز.
عزيز، الذي يصنّف سياسيا في خانة «الاستقلالية» التي أوصلته الى «التيار الحر»، يزور دمشق للمرة الأولى منذ كان طفلا في السابعة من عمره، وهو بدا يتصرف منذ ما قبل دخوله الى الأراضي السورية، تصرف الواطئ عالما غريبا في الأمن والسياسة، لكن سرعان ما بددت الحفاوة من زملاء سوريين ولبنانيين هذه «النقزة» وبدت أريحيته واضحة في الاطلالات الاعلامية له عبر الاعلام السوري واللبناني والعربي من دمشق.
وعلى عكس صورة فراغ المقعد اللبناني في القمة بمراحلها التحضيرية والأساسية، فإن الاعلام اللبناني تمثل برقم يعتبر قياسيا، لا بل هو الثاني بعد الاعلام السوري. ووفق الأسماء المدونة في سجل وزارة الاعلام، فإن أكثر من 160 صحافيا لبنانيا يشاركون في تغطية أعمال القمة من اتجاهات ومؤسسات عدة، ولكن مع تسجيل غياب كامل لصحافيي الأكثرية أو صحافة الأكثرية، مكتوبة ومرئية ومسموعة (بما في ذلك اذاعة وتلفزيون لبنان)، باستثناء فضائية «ال بي سي» التي تمثلت بمراسلها في دمشق ولو أن المعنيين السوريين ألمحوا الى أنهم وجهوا دعوات رسمية الى ادارة المحطة والقييمين على اخبارها «ولكن يبدو أن أحدا لم يجرؤ على تلبيتها»!
في باحة قصر المؤتمرات، حشد من الفضائيات اللبنانية: «المنار»، «نيو تي في»، «أن بي ان».. وأيضا فضائيتا «العالم» الايرانية بفريقها اللبناني و«برس تي في» الايرانية بفريقها اللبناني أيضا. العنوان اللبناني يثير جدلا في الشارع السوري على طريقة البيضة قبل أم الدجاجة. «لو تم انتخاب رئيس للبنان، هل كان سيحضر السعوديون والمصريون والأردنيون أم أن الضغط الأميركي كان سيحول دون حضورهم» يسأل أحد القيمين على المركز الاعلامي.
القمة عقدت وانتهت قبل أن تفتتح اليوم. هذا قرار سوري لم يكن قابلا للنقاش. ما بعد القمة سيكون مختلفا، خاصة في الحديث عن أدوار «من حاولوا نسفها بالملموس» كما ينقل مجددا عن وزير الخارجية السوري وليد المعلم.
القمة انتهت وما كرسته في الموضوع اللبناني هو استمرار الاشكالية نفسها: تنفيذ المبادرة اللبنانية بانتخاب الرئيس اولا، يمكن أن يشكل مدخلا لانفراج العلاقات العربية العربية أم أن انفراج العلاقات سيقود حتما الى تسوية ما للأزمة اللبنانية؟
عشية افتتاح القمة، بدأ الطقس يبرد في دمشق، والأرصاد تتوقع مطرا في الساعات المقبلة، لكن من يتابع المناخات السياسية يتوقع سخونة بعد القمة لن تتجاوز معدلاتها حدود «الستاتيكو» القائل بأن زمن الانفجارات لم يأت بعد ولا زمن التسويات... لذلك سيكون الانتظار طويلا ومملا وربما مكلفا جدا.
حسين أيوب
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد