دير الزور تلفظ أنفاسها
فراس القاضي: ما ستقرؤونه هو وجهة نظر ورأي شخصي ولا أدعي أبداً أنه الحقيقة، وأرجو أن تبقَ هذه السطور خارج إطار المساجلات والاصطفافات، وإن كان لا بد من التعليق فأرجو أن يكون نقاشاً راقياً نستفيد منه جميعاً.
في العام 2010، كنت في زيارة عمل بدمشق، وخلال لقائي بمدير عام إحدى الوسائل الإعلامية التي كنتُ مراسلاً لها، - وكان برفقتي حينها الصديق والزميل (عشاوي العشاوي) – وجه إلي السؤال التالي:
ما هي هوية دير الزور؟
فاجأني السؤال، وفاجأني أكثر أنني لم أجد الإجابة الحقيقية. كان باستطاعتي أن أجيب لمجرد الإجابة وأن ألف وأدور حتى لا أبدو كمن لا يعرف هوية بلده.. لكن الحقيقة كانت أنني لا أعرف.
أرّقني السؤال، لكن على نحو إيجابي، فقد دفعني للتفكير كثيراً والبحث ما تيسر لي للحصول على إجابة حقيقية وواقعية وبعيدة عن العواطف والمكابرة، وللأسف.. لم أجد أي هوية لدير الزور المدينة.
فكرت بالكثير من الأمور التي تجمعنا نحن أبناء المدينة، لكنني في كل مرة كنت أصل إلى نفس النتيجة، والتي هي أن ما يجمعنا هو شيء آخر غير الهوية، فقررت أن أسميه روح المدينة.
ما كان يمنعني من اعتبار هذه الصفات هوية هو تغيّرها فينا وتغيرنا بمجرد مغادرة دير الزور والابتعاد عن أي محيط فيه أحد أو مجموعة من أبنائها.. والهوية لا تتغير بتغير المكان ولا تنمحي، وإن حصل، فهي بالتأكيد ليست هوية.
ولعل انعدام الشعور بالانتماء الذي نلمسه من خلال الكثير من ممارسات وأفكار أبناء المدينة كان أحد أسباب ضياع الهوية، فحتى اللحظة ما زلنا نسمع مقولة أن دير الزور تتبع للعراق لا لسورية.
طبعاً أنا لست ضد هذا الطرح، بل أنا أحد الذين يؤمنون به ويصدقونه، وذلك بسبب قرب صفاتنا وأشكالنا وحتى مزاجنا من المزاج العراقي أكثر من السوري، لكن القصد أن هذا الطرح ساهم في إضعاف الشعور بالانتماء لسورية أولاً، وتالياً ودون أن نشعر لدير الزور نفسها.
ومن الممارسات التي تؤكد هذا الكلام – كي لا يكون كلامي دون شواهد – تأثرنا بالفن العراقي أكثر من السوري بكثير، وليس فقط التأثر الكبير، فربما يحاججني أحد بأنه أجمل وأرقى، بل إننا لا نعرف أي شيء عن الفن السوري ولا نريد أن نعرف.
كذلك عندما كان يلتقي المنتخبان السوري والعراقي في مباراة، فإن 13 محافظة سورية تشجع المنتخب السوري.. أي منتخب بلادها وهذا طبيعي، إلا دير الزور تشجع المنتخب العراقي!
قد يرى البعض أن التقصير الحكومي المتراكم اتجاه دير الزور أدى إلى انعدام الشعور بالانتماء، لكنني لا أرى الأمر بهذه الطريقة، لأن الاهتمام الكبير الذي أولته الدولة بدءاً من العام 2007 للمنطقة الشرقية بشكل عام ولدير الزور بشكل خاص – وهذا كلام أستطيع إثباته بالوثائق والأرقام – لم يغيّر من مشاعر أهل المدينة.
كتب مرةً الأستاذ بشير عاني مقالاً عن المفعول الإيجابي لفتح طريق تدمر - دير الزور، والذي قرّب الديريين من العاصمة دمشق أكثر، إذ لم يعودوا بحاجة إلى سفر نهار كامل عبر المحافظات للوصول إليها، وأنا أؤيده في ما ذهب إليه، لكن حتى هذا الطريق واختصار المسافة ومحاولة تقريب الدير والديريين من دمشق لم يأتي بالنتيجة المطلوبة.
زاد إيماني بهذه القناعة ما حصل خلال السنوات الأربعة الماضية، حيث أن فقدان الهوية يؤدي إلى فقدان المواقف العاقلة المبنية على أسس ثابتة ، وكلنا يعلم أن دير الزور المدينة تُركت لقمة سائغة لكل من أرادها، وبتعبير أدق: لكل من استنتج أهلُها أنه قادر على أخذها، والذي أكد هذا الكلام بالنسبة لي هو موقف غالبية المغتربين، - إن كان اغترابهم سابق الأحداث أو خلالها، وركزت على المغتربين لسبب جوهري، وهو أنه من المفروض أن يكون حنينهم للمدينة أكبر وخوفهم عليها أكبر - إذ يندر أن نجد موقفاً أو تصريحاً لهم يصب في مصلحة المدينة ولا أقول لمصلحة طرف ما.. الغالبية العظمى كانت تردد مجموعة من الجمل التي نستنتج منها أن المهم بالنسبة إليهم هو انتصار المشروع الذي يشجعونه، وأحياناً أسوأ من ذلك، أي كان ما يهمهم هو خسارة المشروع أو الطرف الذي يكرهونه مهما كانت النتائج مدمّرة ومأساوية، والدليل الأكبر هو ما يعرفه الكثير من المعارضين والموالين عن الأشخاص الذين قرروا إدخال السلاح إلى المدينة وبدء العمل المسلح فيها، وهم جميعاً من أبناء دير الزور المغتربين، باستثناء شخص واحد كان من محافظة أخرى وكان له الدور الأساسي والأكبر في ما حصل بالمدينة.
ربما حِدث عهدِ المدينة وعمرها الذي لا يتجاوز 300 سنة - حسب عدد من الباحثين - هو أحد أسباب فقدان الهوية، إلا أن الأسوأ هو عدم وجود ملامح لبدء تشكل هوية للمدينة.
ربما يستنتج البعض من هذا الكلام أن للريف الديري هوية، ولفلاحها هوية.. أبداً، راقبوا وتعرفوا على من يسكن العشوائيات في مدينة دير الزور.. إنهم أبناء الريف، ومنهم من ترك أرضاً لا تقدر بثمن لسبب أو آخر وجاء إلى المدينة وسكن في طب الجورة أو في غيره من مناطق أحزمة الفقر.
في السنوات التي سبقت الأحداث الحالية، كنت أرى تغير المدينة مستحيلاً، لأنه – وبرأيي الشخصي – لن يحصل إلا إن غادرها أهلها جميعاً وجاء إليها أشخاص جدد، وكان هذا الطرح غير واقعي على الإطلاق، ولم يخطر ببالي ولو لثانية وبأسوأ السيناريوهات أن الخروج منها سيكون قسرياً.
البعض يرى أن دير الزور المدينة تفقد حالياً شيئاً ما.. هذا ما أسميه الروح.
لدير الزور روح مقسمة على أبنائها جميعاً، لكن ليس بالتساوي، لذلك يشتدّ إحساسنا بهذه الروح كلما تجمعنا، وهذا ما تخسره حالياً، فمن مات ماتت حصته بموته، ومن هاجر أخذها معه، ومن بقي فيها ذبلت بداخله بسبب الأحداث وخاصة الحصار الذي قتل فينا كل شيء تقريباً.
في الحقيقة أخشى أن أطرح ما أريد طرحه، كي لا أبدو منفصلاً عن الواقع، أو على الأقل خالٍ من المشاعر وهذا غير صحيح، فالله، ومن يعرفني يعلمون أن هذه المدينة محفور اسمُها بقلبي فراتها بدمي، وأنني سعيت بكل قوتي في السنوات الماضية للمساعدة في تطويرها وتغيير النظرة تجاهها، ومما قمت به لهذه الغاية هو مشروعي (مكتب الشرقية للخدمات الإعلامية والإنتاج الفني) الذي لا أعرف عن مصيره شيئاً الآن. كما أنني ابن الواقع الحقيقي بحكم إقامتي في دير الزور وعدم مغادرتها إلا قليلاً، وبحكم مهنتي كصحفي والتي تفرض علي أن أتبنى وأتحدث عن الواقع لا عن الأحلام.
طرحي هو أن علينا استثمار واستغلال هذا التهجير والهروب الجماعي المستمر دون توقف.. استغلاله بالتفكير ملياً في صناعة جيل جديد – والمعني هنا نحن الذي نربّي الآن أطفالاً صغاراً ونزرع فيهم القيم التي نريدها، والتي ليست بالضرورة أن تكون صحيحة – جيل يتمسك بأرضه ويرغب بالعودة لبناء ما تخرّب.. جيل لا يرى أن الغش في الامتحان أمرٌ طبيعي وأن غير الطبيعي هو أن تعتمد على الدراسة.. جيل لا يصدّق رواية ابنه وابنته حول حدثٍ ما ويكذّب كل الذين يروون غيرها مهما كانت أعمارهم وأخلاقهم.. جيل لا يضحك من كل قلبه على مجنون يلاحقه الأطفال والكبار ويزعجونه ويؤذونه.. جيل لا يقاطع كلام المتحدث المختص ليطرح السخافات التي يؤمن بها على أنها الحقيقة الدامغة الثابتة.. جيل لا يقيس الرجولة بعدد المشاجرات.. جيل يحترم المثقفين والمتعلمين والمنتجين ويحسب لهم حساباً.. جيل يحفظ المثل التالي ويطبقه: (اللي مالو كبير يشتري كبير)، ونحن نعلم أن أحد أسوأ مصائب دير الزور هو عدم احترام الكبار ما أدى إلى غيابهم وغياب دورهم المهم بشكل كامل.. جيل يستطيع أن يقول شكراً من قلبه لعامل النظافة بدلاً من تعييره بمهنته.. جيل يرى في الفن والرياضة مستقبلاً مشرقاً وحضارة وأهمية كبرى في بناء المجتمع.. جيل يرى الطب والصيدلة مهناً إنسانية وحضارية، لا وسائل لجمع أكبر قدر ممكن من النقود والمنازل والسيارات والمزارع والعشيقات.. جيل يرى أنه من المعيب جداً أن تسافر إلى محافظة أخرى لشراء حذاء جميل أو لعلاج مرض بسيط لم يكتشفه أحد في مدينته.. جيل يحترم الآباء ويخاطبهم بأرقى لغة، ولا يراهم مجرد صرّاف تضع فيه بطاقتك فيعطيك نقوداً دون أي سؤال أو تردد.. جيل إن ذُكر أمامَه أحدٌ يتحدث عنه بما فيه دون زيادة أو نقصان أو مع زيادة بالخير، ولا يذم كل من يذكر أمامهم والاستقتال لتصغيرهم أمام الجميع.. جيل حتى وإن خاصم فإن خصومته شريفة لا تنزع عن المتخاصم معه كل الصفات التي يتمتع بها.. جيل إن خاصم لا يفجر.. جيل لا يرى في أذى الحيوانات لعبة ممتعة ومضحكة.. جيل يدرك أن الجامعة له، وأن المشاريع له، وأن المصانع له، وأن المنشآت له لا لأحد معين، فيحافظ عليها ويحميها بروحه إن اضطر الأمر.
إن استطعنا بناء جيل مماثل – وهو أمر ليس مستحيلاً أبداً – ربما يأتي يومٌ يعود فيه الأبناء إلى دير الزور ويعمرونها.. ربما يكونون دون روحٍ ديرية، لكنهم وبالتأكيد سيبنون ويصنعون هوية لهذي المدينة الظالمِ أهلها.
أكرر ما قلته بداية: هذا الكلام ليس أكثر من وجهة نظر ورأي ودعوة أقصد بها تحفيز محبي هذه المدينة لإعادة بنائها اجتماعياً وأخلاقياً ثم عمرانياً، وأرجو من أصدقائي أصحاب الاختصاص والمثقفين أن يصوّبوا أخطاء هذا الطرح وألا يبخلوا علي بمعلومة أو نقد لما طرحته.
أما الآن.. وخاصة بعد الحصار وما جرى فيه، فقد تركت ورائي مدينةَ أضناها طول الاحتضار، وأنهكها انتظارُ رصاصة الرحمة.. وبعيداً عن المواقف المختلفة والسجالات والآراء والتحليلات والاصطفافات، أقول للجميع: الدير راحت يا شباب.
فيسبوك
إضافة تعليق جديد