"ربيع عربي" بلا أزهار (1)
الجمل- حسين عسكري- ترجمة: د.مالك سلمان: المؤسسات الجيدة والحكومات المنتخبة المسؤولة تشكل أساس النمو والتطور الاقتصادي المستدام. ولكن بالإضافة إلى المؤسسات الجيدة فإن الدول بحاجة إلى سياسات داعمة ومستقرة وإلى جرعة جيدة من السلام والاستقرار. سوف أركز هنا على المؤسسات, والإصلاح السياسي, والدور الأجنبي.
في فورة "الربيع العربي", بدأ المراقبون في التنبؤ بازدهار الاقتصادات العربية بعد تباطؤ مؤقت نتيجة التظاهرات والنقص والاختناقات والاضطرابات الناتجة عن ذلك كله. تم تصوير إسقاط حسني مبارك في مصر ومعمر القذافي في ليبيا على أنه سيقود إلى التغيير الديمقراطي مع الأخذ بعين الاعتبار أن الإسلاميين يشكلون العقبة الوحيدة في طريق الوصول إلى "النيرفانا".
تم افتراض أن التحرك باتجاه الحكم الديمقراطي سوف يفسح المجال أمام مؤسسات أفضل, ويحرض على الثقة في العمل, ويضع حداً للسياسات الفاسدة السابقة, ويشرع الأبواب أمام استثمارات محلية وأجنبية أضخم. كما تم الافتراض أن النمو الاقتصادي والعائدات الاقتصادية العادلة سوف تلي بعد ذلك كتحصيل حاصل.
على النقيض من إخوانهم في المجتمعات الديمقراطية, فإن الحكام في الخليج الفارسي, العرب منهم والإيرانيون, هم حكام مستبدون. إذ ليس لديهم أي اهتمام في بناء وتطوير المؤسسات الجيدة (الدساتير الشعبية, وسلطة القانون, والقوانين الشفافة, إلى آخره). والسبب في غاية البساطة.
إن دستوراً يتبناه الشعب سوف يستدعي, على الأرجح, وجود حكومة منتخبة ومسؤولة, ويخلق نظاماً قضائياً مستقلاً, ويؤكد على الحقوق المتساوية لكل جيل من المواطنين في النفط. ولذلك فإن دستوراً شعبياً ومؤسسات جيدة ستعمل على تقويض الحكم الفاسد وإزاحة الحكام من مناصبهم, في نهاية المطاف.
فعلى سبيل المثال, تم تبَني الدساتير القائمة في إيران في أوقات يغلب عليها الاضطراب والتغيير, ولن يقبل الحكام بنقاشات مفتوحة وتعديلات منتظمة. فلهؤلاء الحكام هدف بسيط: تكويم الثروات والحفاظ على السلالة الحاكمة (سواء كانت عائلية أم كهنوتية) بأية طريقة ممكنة (مثل أجهزة الاستخبارات والأجهزة العسكرية المدَللة, والإنفاق العسكري الضخم لضمان الدعم الأجنبي والسيطرة على المواطنين, وكادر من المقربين الفاسدين, والحكم التمييزي لتقسيم المواطنين, والدعم الأجنبي). والنتيجة هي أن هذه البلدان تهيء مناخات معادية للاستثمار والعمل, وتخلق قطاعاً خاصاً متخلفاً, وتحقق تقدماً اجتماعياً واقتصادياً بسيطاً.
تعمل النُخب الأجنبية والشركات الأجنبية متعددة الجنسيات (الشركات النفطية, وشركات الخدمات النفطية, ومصنعو الأسلحة, والشركات الهندسية, والمؤسسات المالية الضخمة, إلخ) على دعم هؤلاء الحكام لتحقيق المكاسب. فبالنسبة إلى الحكومات القوية في الشرق والغرب, وعلى النقيض من التمثيلات الغيرية التي تستعرضها, المهم في الأمر هو المكاسب الاقتصادية المباشرة ومكاسب الأقوياء في بلدانها.
تتدخل الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين في هذه الدول وتستمر في دعم الحكام المستبدين المفضلين لديها قبل ‘الربيع العربي’ وبعده: فالولايات المتحدة تدعم آل سعود وآل خليفة وآل ثاني وآل صباح وآل نهيان؛ أما الأوروبيون فينهجون نهج الولايات المتحدة إلى حد ما؛ بينما تدعم روسيا الفقهاء في إيران وأياً من الحكام العرب الراغبين في التودد إليهم عندما يستاؤون من الولايات المتحدة؛ أما الصين فتدعم أي مستبد كان, حتى أولئك المفضلين لدى الولايات المتحدة, إلى أن يصبح ذلك الدعم قضية خاسرة.
يعمل المواطنون الذين تحولوا إلى مجموعات ضغط (مثل المسؤولين الحكوميين الكبار السابقين والحاليين, والشركات, والجامعات, وحتى المنظمات الخيرية – أي كافة المستفيدين من دكتاتوريي الشرق الأوسط وأعوانهم) على الضغط على هذه الحكومات القوية لدعم المستبدين في الشرق الأوسط.
يحصل المستبدون الذين تتم الإطاحة بهم على ممر آمن إلى حياة من الرفاهية حيث يستمتعون بثرواتهم المنهوبة؛ بينما يتم اعتقال المستبدين غير المرغوب فيهم وتتم محاكمتهم والحكم عليهم في "محكمة الجنايات الدولية"؛ ويعيش المعتدون في الدول القوية حيث عاشوا باستمرار بلا أي قلق أو خوف.
العدالة الدولية المتساوية والدائمة شيء غبر موجود. ولايتم حَث المستبدين على احترام الحقوق الإنسانية والاقتصادية والسياسية لمواطنيهم. إذ لا يهمهم شيء سوى حماية مصالحهم الضيقة ومصالح داعميهم المحليين والأجانب. ومرة ثانية, يتطلب التقدم الاقتصادي الحقيقي الإصلاحَ السياسي (الدستور الشعبي والمؤسسات الجيدة) ووضع حَد للتدخل الأجنبي.
أين هي المؤسسات الدولية؟ تضع "الأمم المتحدة" قناعَ حارس السلام العالمي لكنها, في حقيقة الأمر, تدعم مصالح الأقوياء والأثرياء على حساب الضعفاء والفقراء. يبيع الأقوياء الأسلحة الفتاكة ويقومون بغزو البلدان دون رقيب أو حسيب. أما "صندوق النقد الدولي", حارس نظام الدفع العالمي وراعي السياسات الاقتصادية والمالية الجيدة, فنجده شبه صامت حيال حاجة السعودية ودول "مجلس التعاون الخليجي" الأخرى إلى الإصلاح السياسي وطريقة إدارتها لعائداتها النفطية, بما أنها من الممولين الكبار ل "صندوق النقد الدولي". وبالنسبة إلى "البنك العالمي", هذه المؤسسة التي تمتلك كافة الأجوبة على التطور الاقتصادي والنمو, فلا يأتي على ذكر التبذير الرسمي لعائدات هذه البلدان. أما سجل "محكمة الجنايات الدولية" فيكاد يكون غائباً بما أنها عالجت بعض القضايا المتعلقة بحكام أفارقة مستبدين.
في وضع كهذا, لا يقدم إسقاط دكتاتور الكثيرَ من ناحية الترويج للتغيير السياسي والاقتصادي الرئيسي. ومرة أخرى, بعد إسقاط حاكم مستبد يظهر دكتاتور آخر ليأخذ مكانه. ويكون دافعه بسيطاً: سِرعلى خطى الحاكم المخلوع , لكن تعَلَم من أخطائه, وتمسَك بالسلطة. انهب البلاد واجمَع ثروة ضخمة.
انظروا إلى إيران. يقوم الفقهاء ومؤيدوهم بسرقة شعبهم ويكدسون الأموال. لم تدعمهم الولايات المتحدة لكنهم كانوا, حتى وقت متأخر, يتمتعون بالدعم الأوروبي, كما يتمتعون بدعم الصينيين والروس.
أو انظروا إلى العراق. نعم, هناك حرية أكبر بعد تغيير النظام, لكن الاقتصاد العراقي ليس متيناً. فهناك مجموعة جديدة تنهب البلاد, دون أي حافز لبناء مؤسسات جيدة – فالسائد هو الفساد و سوء الإدارة الاقتصادية مع تواطؤ و دعم أجنبيين.
يبدو أن مصر تسير في الطريق نفسه. إنها القصة القديمة نفسها بشكل آخر. هل يقود تغيير الأنظمة في دول "مجلس التعاون الخليجي" – البحرين والكويت وعمان وقطر والسعودية – إلى نتائجَ أفضل؟ لا. سوف تتكرر القصة نفسها في كافة أرجاء المنطقة.
المطلوب عدد من المبادرات المتزامنة, بالإضافة إلى تغيير النظام. في المقام الأول, يجب تذكير وإحراج جميع حكام الشرق الأوسط بأن النفط والغاز ليسا ملكهم لكي يبددوهما, لكنهما إرث لكافة الأجيال, لجميع المواطنين الحاليين والمستقبليين. يجب ألا يستطيع الحكام السيطرة على العائدات النفطية. ويجب ألا يكون هناك أي استثناء لهذه الحقيقة البسيطة.
نعم, لدى حكام أبو ظبي وقطر موارد أكبر تمكنهم من إرضاء رعاياهم. ولكن إلى متى؟ وماذا عن الأجيال اللاحقة؟ إن قبول هذه الحقيقة وتطبيقها لن يتكفل فقط بإزالة المعوق الأكبر أمام برامج اقتصادية وسياسية أفضل في الشرق الأوسط, بل سيعمل أيضاً على التخفيف من الاستياء والنزاع في المنطقة.
يجب على جميع المؤسسات الدولية أن تدعم هذه الحقيقة. يجب عدم السماح ل "صندوق النقد الدولي" الاختباء خلف وصايته الاقتصادية من خلال التعامل مع هذه المسألة بصفتها قضية سياسية. حيث إنها, في حقيقة الأمر, القضية الاقتصادية المركزية في هذه البلدان. فأي مسألة اقتصادية يمكن أن تكون أكثر أهمية من إدارة الموارد النفطية في هذه البلدان؟ ويجب أن يبدأ ذلك بحل المشكلة الاقتصادية المركزية: من هو صاحب هذا النفط؟
يجب ألا تستخدَمَ عائدات النفط لشراء المواطنين, وتمويل الاستهلاك, وشراء الأسلحة, وقمع المواطنين, وخلق النزاعات المسلحة, وملء الحسابات المصرفية للحكام وأعوانهم. يجب استخدامها بطريقة يفيد منها جميع المواطنين وكافة الأجيال بشكل متساوٍ.
الطريقة التي نقترحها لتحقيق هذا الهدف في غاية البساطة: (1) خلال مدة 10 سنوات, مثلاً, يجب انتزاع العائدات النفطية من يد الحكومات (وبشكل مباشر من أيدي الحكام)؛ (2) يجب وضع العائدات النفطية في صندوق ومن ثم استثمارها في مشاريع متنوعة؛ (3) يجب تزويد كل مواطن بشيك سنوي ذي قدرة شرائية متساوية؛ (4) يجب أن يكون حجم هذا الشيك (الذي يؤمن قدرة شرائية متساوية) واحداً بالنسبة إلى جميع أجيال المواطنين الحاليين والمستقبليين (هذا الحساب قياسي ويجب تحديثه بشكل دائم)؛ (5)يجب على الحكومة البدء بعملية تمويل نفقاتها من جمع الضرائب, حيث يتم تمويل جميع النفقات من الضرائب المجموعة خلال السنوات العشر.
لتشجيع عملية النهضة الاقتصادية في المنطقة, يمكن للقوى الأجنبية أن تلعب دوراً داعماً بطرق عديدة. من خلال عملية منع الحكام الأجانب من سرقة بلدانهم و تبَني سياسات مؤذية لتطوير العمل والنمو: (ِأ) يمكنهم تطوير قوانين تحد من الضغط باسم الحكام والحكومات الأجنبية وتعَري عمليات الضغط هذه؛ (ب) يمكنهم تبًني قوانين تكشف عن ثروات الحكام والمسؤولين الأجانب بطريقة مشابهة لما يحصل في حالة المسؤولين الأمريكيين المرشحين للرئاسة؛ (ت) بمقدورهم التعهد بمصادرة جميع الثروات التي جمعها الحكام وأعوانهم بشكل غير شرعي وإعادتها إلى بلد المنشأ.
تبَنى المجتمع الدولي بروتوكولات من شأنها الحد من غسيل الأموال, لكنه لم يفعل شيئاً للحد من عمليات النهب المستمرة في هذه البلدان التي تشكل مركزاً رئيساً لجميع عمليات غسل الأموال. ومن شأن هذا كله أن يرسل إشارة هامة للمستبدين. إذ لن يكون بمقدورهم الحصول على دعم القوى الغربية, ومواطنيهم الأقوياء, والشركات, والمحاكم الدولية, لنهب ثروات بلدانهم.
يجب أن تكون الرسالة واضحة. لن يكون هناك أي تغيير اقتصادي أو سياسي فعلي إذا لم يتم تبَني وتطبيق عدد من السياسات المترابطة بشكل متزامن. حيث إن تغيير الأنظمة والأمل في أن ذلك سوف يقود مع الوقت إلى الإصلاح السياسي والنهضة الاقتصادية لا يتعَدَى كونه أضغاث أحلام. (يتبع)
التعليقات
?
إضافة تعليق جديد