رجاء مخلوف: يمكن إبطال أي شيء بتحويله إلى موضة
لا تُخفي رجاء مخلوف شغفها الدائم بمهنتها كمصممة للأزياء، فقد خبرت ابنة اللاذقية عن قرب كيمياء الثوب وقماشته ولونه وملمسه، وتناسقه جسدياً ونفسياً على أجسام عشرات الشخصيات التي صاغت لها هذه المرأة أزياءها. فبعد تخرّجها من قسم اللغة الفرنسية في «جامعة دمشق»، تفرّغت مخلوف لدراسة تصميم الأزياء في معهد «إيسمود» بإشراف من مصمّمة الأزياء الفرنسية كارولين زيبليني؛ فنقلت الأخيرة خبراتها لطالبتها التي أصبحت اليوم من ألمع مصممات الأزياء في العالم العربي. كانت البدايات مع تصميمها أزياء فيلم «الترحال» لمخرجه ريمون بطرس الذي اختارها أيضاً لتصميم أزياء فيلمه الثاني «الطحالب». وفي كلا الفيلمين نبشت مخلوف عن الزيّ الشعبي لمدينة حماة، مطوّعةً خبراتها في ما بعد في تصميم أزياء فيلم «اللجاة» لمخرجه الراحل رياض شيّا، منقبةً في أزياء بيئة جبل العرب وفق تناغم عالي المستوى مع حجارة البازلت. تحمل مخلوف في جعبتها ما يصل إلى أكثر من عشرة آلاف زيّ في الدراما التلفزيونية السورية، صمّمتها لأعمال تاريخية وبدوية واجتمـاعية منهـــا «ابن الشهبندر» و«الطواريد» و«الملك فاروق»، تعاملت فيها مع شتى أنوع الأقمشة من جلد وساتان ومخمل ودانتيل، وتدخلت أحياناً في تصنيعها وصباغتها بنفسها لشخصيات ملوك وفرسان وقادة وجنود وخدم وجَوارٍ.
هكذا نجحت المصمّمة السورية في منح حضور الزيِّ على الشاشة مفردات حاسمة في طبيعة الهويَّة البصرية للمسلسلات التي عملت لها، مستقيةً من شجرة الخرنوب في بلدتها القتيليبية لونها «المعصفر» مشتقةً من الأخضر والبرتقالي المصفرّ شخصية لتصاميمها، فكان تحقيقها لأزياء مسلسلَي «الزير سالم» و «الملك فاروق» مع حاتم علي و «الثريا» مع هيثم حقي، و «هوى بحري» و «نزرا قباني» مع باسل الخطيب، و «دليلة والزيبق» مع سمير حسين، إضافةً إلى عملها مع الليث حجو في «فنجان الدم» ومؤخراً في «الندم» الذي تعتبره إضافةً لافتة إلى مسيرتها في عالم تصميم الأزياء الدرامية. «في هذا العمل عكفتُ على تصميم أزياء لزمنين الأول كان العام 2003، والثاني كان العام 2016، هذا العمل المعاصر خلق نوعاً من التحدّي لديّ، لاسيما أن دراسة وتمحيص الأزياء التي كان يرتديها السوريون في العقد الأخير، كانت تتبع لمزاج وكلاء شركات الألبسة في بلادنا، لكنها اليوم جميعها أقفلت. مهما يكن فتلك الشركات كانت تنتج ألبسة خاصة بالسوق السورية، لكون مجتمعاتنا هي بالأصل مجتمعات محافظة».
هكذا عرفت مخلوف أن الشغل على أزياء «الندم» سيكون له بحثه الخاص، فمن المعروف أن الأعمال المعاصرة عادةً تختار لها شركات الإنتاج مشرفاً أو مشرفة ملابس تطلب من الممثلين جلب أزيائهم معهم، لكن في «الندم» اختلف الأمر. «في سوريا كانت الفرصة متاحة أمام الجميع لاختيار ملابسهم، لكن اليوم وبعد أكثر من خمس سنوات من الحرب، أصبح المواطن السوري يعمل على تدوير ثيابه القديمة، وأنا واحدة من هؤلاء، فذهنية التفكير بالأزياء اختلفت تماماً، لأننا في وضع مجهول المستقبل. وهذا لم يكن خارج حساباتي وأنا أضع أزياء المسلسل».
حاولت مخلوف أن تُظهر عبر الزيِّ أن الأزمة التي بدأت العام 2011 كان لها جذور. «نوّعت بين ثلاثية الأبيض والأسود والرمادي، فشخصية أبو عبدو الغول (سلوم حداد)، خصصتها بألوان قاتمة إلى حدٍ ما، واستعنت على ذلك بتصميم (كرش) للشخصية تبرز فيزيولوجياً سلوك وتصرفات الـ «كاركتر» المرسوم لها، أما بالنسبة لشخصية عبدو الغول (باسم ياخور) حاولتُ أن أُبرزَ فجاجةً في اللون، سواء في القمصان الغامقة وربطات العنق المدببة التي يستخدمها، أما بالنسبة لشخصية ندى (رنا كرم) فركّزتُ على اللونين الرمادي والأسود، لكونها شخصية تعرّضت للكثير من المطبّات القاسية في حياتها، ففقدت الشخص الذي أحبّته، كما أنها فقدت أباها وأخاها».
بدا الحجاب كأكثر علامة بصرية في تصميم أزياء شخصية «ندى». وعن أبعاده الدينيّة تقول مخلوف: «الحجاب الذي صمّمته لشخصية (ندى) كان أقرب إلى ما يُسمّى بـالحجاب «العلماني» المقترن بالجينز والبلوزات الملوّنة، ما فعلته هو تحويله إلى موضة. وأي شيء يمكنك أن تُبطله بتحويله صرعة، فالموضة تَبطُل، والزيِّ دائماً يتبدل بسرعة في العالم كله، هذا ما وقع فيه بعض الشباب العربي، حين بالغوا في ارتداء الكوفية الفلسطينية كرمز للنضال والأفكار اليسارية، تجار الألبسة انتبهوا إلى ذلك، فبادر جزء كبير منهم ببيعها للشباب كشالاتٍ فحوّلوها من رمز فلسطيني للكفاح المسلح إلى شالٍ ملوّن، أي إلى موضة، هذا ما تعمل إسرائيل عليه، وما نقع فيه كشعوب بدون أن نعرف خطورة وحساسية الزيّ ورسائله البصرية».
يحدث ذلك بسبب التقدّم التكنولوجي والعولمي الهائل بحسب مخلوف، «لكنني أعترف أننا في سوريا خارج هذا المتغير، فالزيِّ لدينا لطالما كان تابعاً للحالة الاقتصادية والثقافية والدينية، وأحياناً للوضع السياسي. في «الندم» - ومع أنني ضد أن أحمّل الزيِّ أكثر مما يحتمل - رأيتُ من الضرورة فعل ذلك؛ لكون النص كان من العيار الثقيل، لقد شدّني سؤال بطل العمل عروة (محمود نصر): ما الذي زرعناه حتى نحصد كل هذا الخراب؟». تشير مخلوف إلى أن هذا الكلام انعكس على تصميمها للأزياء: «لا أستطيع القول إن الزيِّ كان في 2003 زاهياً ومزركشاً بالورود، وصار في أيام الحرب قاتماً وأسودَ. إطلاقاً ليس كذلك، وهذا تبسيط لا أميل إليه كمصمّمة أزياء».
لكن الحجاب اليوم يبدو علامةً أكثر انتشاراً في العالم العربي، ويعكس ميلاً متزايداً للتدين والابتعاد عن حق المرأة وحريتها؛ ويُعتبر غطاء الرأس أحد أكثر رموزه تعسفاً إزاء النساء في بلداننا. تبتسم مخلوف وتتحدّث شارحةً: «الحجاب الشامي عموماً حجاب طبيعي، وهو يبدو كالشال أو الكسكيت، أو سواها من الإكسسوارات التي ترافق لباس المرأة، فالحجاب لدينا متنوّع وفيه ألوان كثيرة. انظر إلى الشارع السوري وسترى كيف أن المرأة محجّبة حقاً، لكنها في الوقت ذاته ترتدي لباساً أنيقاً. أعتقد أن حجاب النساء والفتيات السوريات سيكون آخر حجاب، ويمكن أن يخلعنه بعد ذلك». توضح مخلوف أنها ضمنيًا ليست مع الحجاب، وهي مع حرية المرأة بأن تلبس ما تريد «إنما ليس ذلك الحجاب الذي تريد المؤسسة الدينية أن تجعله خماراً أو بُرقعاً أو ملاءةً سوداء كما يفعل المتزمتون في بعض البيئات الأكثر ميلاً إلى التطرف».
تشير المصمّمة السوريّة إلى أنّ 75 في المئة من أسواق «الجسر الأبيض» و «الحمراء» في دمشق مخصّص لبيع أغطية الرأس. «لا مانع أن تضع الفتاة حجاباً، لكن لتضعه بطريقة أنيقة، لماذا الاستعراض، لماذا المبالغة في الفكرة الدينية للحجاب؟». مضيفة: «انظر إلى المانيكانات الموجودة في واجهات متاجر ومحال الألبسة في تلك الأسواق فستراها مقطوعة الرأس، أو محذوفة الأجسام. هذا نوع من طمس الرأس وتحييده، وجعل المرأة رمزاً للتفريخ والمتعة، تماماً كتلك المحال التي تبيع بدلات الرقص الشرقي وإلى جانبها بدلات الصلاة في سوق الحميدية!». تتساءل مخلوف: «ما المطلوب من كل هذا التنميط؟ المرأة السورية في الأصل محافظة ومحتشمة، لكن ما يُعمل عليه اليوم هو توحيد اللباس، وشطب كل الألوان والملامس التي تمتع بها الزيُّ السوري العامر بالإشارات والرسوم، هذه الرموز كلها تستطيع أن تراها في الأزياء الشعبية السورية من أقصى الجزيرة السورية إلى حوران، والتي حاولت داعش ومثيلاته أن تلغيها». تذكّر مخلوف أن أول ما فعلته النساء عند خروجهنّ من مناطق سيطرة «داعش» كان خلع الملاءات السوداء المقيتة.
سامر محمد إسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد