رحيل نادر الأتاسي: قارون السينما الخاصة
لئن كانت السينما نشاطاً اقتصادياً بالنسبة إلى المهندس ورجل الأعمال الراحل «نادر الأتاسي» (1919- 2016)، إلا أن استثمار أموال ابن مدينة حمص في مجال الإنتاج السينمائي، جاء خلافاً لحركة أموال مجايليه من البرجوازية الوطنية السورية في مرحلة ما قبل الاستقلال، حيث شهدت تلك الفترة هجرة واسعة لرؤوس أموال هذه الطبقة من البلاد مع مجيء حزب البعث إلى السلطة عام 1963؛ كون البرجوازية التي ترعرعت وتربت ما قبل هذا التاريخ، كانت قد جمعت معظم ثرواتها من سرقة أثمان محاصيل القمح والقطن السوريين؛ لتتطور من حالتها الإقطاعية الزراعية، إلى طبقة ريعية جديدة أثرت على حساب آلاف الفلاحين وصغار الكسبة الذين نهبت قوة إنتاجهم، متحالفة مع سلطات الانتداب والانقلابات العسكرية المتوالية خمسينيات القرن الفائت.
هكذا استطاع نادر الأتاسي عام 1964 وبعد مشورة وتشجيع من صديقه المنتج الراحل تحسين قوادري، والذي كان قد خبر حركة السوق وصالات العرض المصرية، أن يتقحم عِباب إنتاج فيلم «عقد اللولو» لمخرجه يوسف معلوف، من بطولة كل من «دريد ونهاد»، ليمضي أشهر المقاولين السوريين في «تجارته الجديدة»، موظّفاً أموال معامل السكر وشركات أنابيب النفط والنسيج والزجاج في خدمة الفن السابع، فعلى خلاف معظم المنتجين السوريين لم يكن رأس مال الأتاسي جباناً، ولم يقتصر نشاط شركاته العملاقة على كل من سورية ولبنان والعراق وعلى تعهدات البناء وحسب، بل جعل من حضوره في سينما القطاع الخاص علامةً فارقة، لا سيما بعد امتلاكه بين عامي 1958 و1961 لنصف صالات العرض السينمائية في سوريا، مستثمراً إياها في كل من حمص واللاذقية (الزهراء) وحلب (الشرق وفؤاد) ودمشق (سينما سيتي، سينما دمشق سابقاً) وهي الصالة التي أعاد تجديدها عام 2009 وتجهيزها بأحدث تقنيات العرض الثلاثي الأبعاد، مفتتحاً إياها بفيلم «سيلينا» عن مسرحية «هالة والملك»، والتي كان قد اشترى حقوقها من الراحل منصور الرحباني، لينتجها بتوقيع حاتم علي، المخرج التلفزيوني الذي خيّب ظن المنتج الحمصي في شريط استعراضي باهت لم يرقَ إلى مصاف الأفلام الأيقونية التي أنتجها للأخوين رحباني والسيدة فيروز، منتصراً بذلك للفيلم الغنائي في كل من: «بياع الخواتم» (1964) ليوسف شاهين و «سفر برلك» (1967) و «بنت الحارس» (1968) لهنري بركات.
الفيلم السياسي
تجربته مع الرحابنة أطلقته بقوة في عالم الإنتاج السينمائي العربي، لكنه وفي مطلع الثمانينيات، ومع شبه انهيار لتجربة سينما القطاع الخاص في سورية، بعد صدور قرار من الدولة بحصر استيراد الأفلام بمؤسسة السينما، وبزوغ التلفزيون كمنافس لصالات العرض؛ ظل صاحب «حياتي ثلاثية الأبعاد ـ سيرة ذاتية» وفياً لغرامه بالشاشة الكبيرة، لتكون خياراته الإنتاجية دائماً بعيدة كل البعد عن منطق شباك التذاكر الذي كان سائداً لدى أترابه من منتجي القطاع الخاص من أمثال عبد الرزاق الغانم ومحمد الزوزو؛ ومن ثم ليعود ويلتقي مرةً أخرى بدريد لحام الذي كان قد أنجز وقتها مع محمد الماغوط سيناريو جديداً حمل عنوان «الحدود» (1984) الفيلم الذي سيصيب نجاحاً غير مسبوق على الصعيدين الفني والتجاري، مما شجعه بعد ذلك لإنتاج فيلمي «التقرير» (1986) و «الكفرون» (1990، ملتفتاً هذه المرة للفيلم السياسي الناقد، ومعيداً بذلك مجد أفلام القطاع الخاص التي لم يدخل قارون الإنتاج السينمائي في حيلها الرخيصة أو بازارات موزعيها ومسوقي فرجتها التسلوية، فالسينما كانت بالنسبة لهذا الرجل وعبر أكثر من نصف قرن من معايشته لظروفها الصعبة وتقلبات أحوالها؛ عبارة عن نوع من الترفيه الراقي البعيد عن الابتذال، وبحثاً عن تحقيق ما يسمى بمعادلة (النقاد والجمهور) دون الدخول في رهانات صالات العرض الصغيرة وسماسرة أشرطتها الخلاعية.
سينما عالمية
طبعاً لم يقتصر نشاط الأتاسي على إنتاجات السينما العربية، بل تعداها إلى سينما العالم، ممولاً للفيلم الأميركي (Beastmaster- 1982) ومشاركاً بإنتاج الفيلم الفرنسي (Un Dimanche De Flics- 1983) والفيلم الكندي (Sauve-Toi, Lola- 1986) ليسهم بعدها في إنتاج أعمال تلفزيونية عالمية، ليتوجها عام 2007 بإنتاج مسلسل تلفزيوني عن جبران خليل جبران بعنوان «الملاك الثائر» عن سيناريو لنهاد سيريس وإخراج محمد فردوس أتاسي، متمماً بذلك دورة الإنتاج الخاصة به، ومحيلاً بذلك سيرة حياته التي توقفت بكَرة أفلامها أول أمس ببيروت عن سبعةٍ وتسعين عاماً، إلى أرشيف سينمائي لم يتح له الموت رؤية نهايته، فالخاتمة الطيبة كانت ولا تزال في ذلك الإرث السينمائي الكبير الذي تركه وراءه دون أن يكون في بلاده «سينماتك» (مكتبة سينمائية) قادرة على حفظ أشرطته من المحو الدموي الراهن.
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد