رقابة عشوائيةعلى معرض دمشق للكتاب تتجاهل الاحتفال بالعاصمةالثقافية
قبل عامين، وفي صيف مماثل، وفي إحدى دورات معرض الكتاب الدولي في دمشق، كان صوت الشاعر الراحل محمود درويش يصدح عالياً، ليروي ظمأ زوار المعرض إلى بهاء الكلمة وسحرها. وهو جلس في تلك الدورة «الاستثنائية» يبتسم للزوار ويوقع ديوانه الجديد، آنذاك، «كزهر اللوز أو ابعد». ولكن في الدورة الرابعة والعشرين هذه، جاء الخبر، الذي قُرئ في مكبرات الصوت، صاعقاً. جاء الخبر من وراء المحيط معلناً رحيل «أسطورة الشعر»، فتوافد الزوار، غير مصدقين، الى جناح دار رياض الريس، الناشر الأخير للشاعر، لكن دموع صاحب الدار، الذي يحرص على حضور معرض الكتاب الدمشقي، أكد الخبر الحزين.
وإذا كان موت أحد الكتاب، من زاوية ما، يحرض القراء على اقتناء مؤلفاته كما هي الحال، مثلاً، مع المفكر المصري عبدالوهاب المسيري الذي رحل قبل نحو شهر، فتوافد الزوار الى جناح دار «الشروق» المصرية لاقتناء مؤلفاته، لا سيما موسوعته الشهيرة «اليهود واليهودية والصهيونية»، فإن الأمر هذا لم يحصل مع درويش، ذلك أن مؤلفات هذا الشاعر الكبير رائجة منذ عقود، وكل جديد له كان بمثابة هدية ثمينة لقارئ حصيف، ولم يكن ليحتاج إلى مثل هذه «الدعاية القاتلة»، حتى تجد كلماته الفاتنة سبيلاً إلى قلب القارئ.
معرض الكتاب الدمشقي هو تقليد صيفي؛ سنوي بلغ عمره نحو ربع قرن. لكن ومنذ سنوات، لم يطرأ أي جديد على أنشطته، بل ان المساحة المخصصة لعرض الكتب هي ذاتها، أي الباحة الخارجية لمكتبة الأسد التي تعرض في هذه الدورة نحو 35 ألف عنوان أنتجتها 400 دار نشر عربية وأجنبية مشاركة في هذه الدورة التي بدت الحركة فيها بطيئة قياساً إلى الدورات الماضية. وبرر الناشرون الأمر بـ «غلاء الأسعار عالمياً»، ما أثقل الأعباء على الأسر. الجديد، ربما، يكمن في أن إدارة المعرض مددت عدد أيام المعرض ليصبح خمسة عشر يوماً، بدلاً من عشرة، وذلك لتزامن المعرض مع فعالية دمشق عاصمة للثقافة العربية. وما عدا زيادة عدد الأيام، فإن معرض الكتاب لم يستثمر هذه المناسبة لإعطاء خصوصية لهذه الدورة. يقول رضا عوض - «دار رؤية» المصرية: «كان ينبغي الاهتمام بهذه الدورة المتزامنة مع احتفالية دمشق عاصمة للثقافة، عبر إقامة أنشطة ثقافية مهمة، واستضافة كتاب مرموقين». ويذهب سعيد البرغوثي صاحب دار «كنعان» ابعد من ذلك، فيقترح: «كان يجب أن تكون المشاركة مجانية في هذه الدورة»، وهو يقصد الإعفاء من أجرة الجناح التي تبلغ نحو ألف دولار (يختلف هذا السعر تبعاً لسعة الجناح)، كما يترتب على كل ناشر سوري حصل على وكالة إحدى دور النشر العربية أن يدفع، فضلاً عن إيجار الجناح، نحو مئة دولار كثمن لتلك الوكالة. ويضيف البرغوثي: «لو أُعفي المشاركون من هذه التكاليف لانعكس ذلك على سعر الكتاب، ولبعناه بحسوم مغرية». ويوضح البرغوثي: «نسوق هذا الكلام على أمل أن تنتبه إدارات معارض الكتاب إلى أن الكتاب غذاء روحي يقتضي تعميمه، وإزالة كل العقبات التي تحول دون ذلك التعميم، فالمؤلف مغبون، والمترجم والناشر كذلك، لكن المغبون الأكبر هو القارئ». ويضيف: «بعض دور النشر غير صادقة في شكواها، فهي تحقق أرباحاً عالية، وتظل تشكو»، كما هي الحال، مثلاً، مع دار «ورد» المتخصصة في نشر الروايات المترجمة، وكذلك دار «الفكر» التي احتلت مكاناً واسعاً في المعرض إلى درجة تساءل معها الزوار عن سر العلاقة بين صاحب هذه الدار محمد عدنان سالم، وإدارة المعرض حتى تحظى بهذا الامتياز.
وبمعزل عن تلك الشكوى المزمنة، نلحظ أن ثمة دور نشر جديدة تخرج إلى النور، مثل «دار ممدوح عدوان» التي تشارك في المعرض للمرة الأولى بعد أن أصدرت نحو 40 عنواناً، وهذه العناوين هي، في غالبيتها، إعادة طباعة لأعمال الشاعر والمسرحي الراحل الذي تحمل الدار اسمه. تقول إلهام عبداللطيف زوجة الراحل، وصاحبة الدار مبررة إقدامها على مغامرة النشر: «أردت توجيه تحية الى شخص عمل أكثر من أربعة عقود في المجال الثقافي (تقصد عدوان)، وترك 85 كتاباً، وأشعر بالحرج حين أُسْأَل عن احد كتبه، فلا يكون متوافراً». وتشير عبداللطيف الى ان الدار «تدعم النصوص الإبداعية للكتاب الشباب، بصورة خاصة، وهي تسعى إلى احترام القارئ عبر الاهتمام بمضمون الكتاب، وشكله». ولا تعترف عبداللطيف بأي عائق يعترض سبيل الكتاب سوى العائق المتمثل في «غياب الدعاية والإعلان». فغلاء أسعار الكتب، والرقابة، وطغيان ثقافة الصورة وغيرها لا تشكل معضلة رئيسة للكتاب، بل المعضلة تكمن - كما تعتقد - في أن «الكتاب، كأي سلعة أخرى، يحتاج إلى الدعاية والى الترويج له في مختلف الأشكال».
قد تكون عبداللطيف محقة في أن الكتاب تنقصه الدعاية، لكن نفي العوائق الأخرى ليس دقيقاً تماماً، فما زالت الرقابة في العالم العربي نشيطة، على رغم أن ممارسة الرقابة في ظل ثورة الاتصالات أصبحت - كما يرى البرغوثي - «نوعاً من الغباء. فمن السذاجة، بعد الآن، الاعتقاد بأننا نستطيع الحؤول دون القارئ والمعلومة». وفي الحديث عن رقابة معرض الكتاب الدمشقي نجد ان هذه الرقابة تمارس في شكل فوضوي، وبلا أي معايير. فقد نعثر على كتاب منع في دورات سابقة، وقد نبحث، بلا جدوى، عن كتاب وجدناه في الدورات الماضية. هذه المزاجية، بالضبط، هي التي دفعت إدارة المعرض إلى مصادرة عناوين عدة بعد عرضها أكثر من أسبوع. يقول ناظم حمدان (دار الحوار): «فوجئت بأن إدارة المعرض، صادرت من الجناح، وأثناء فترة الاستراحة، سبعة عناوين من الكتب التي اعرضها، وهي كتب تتعلق بالثقافة الجنسية، بينها «الموسوعة الجنسية» في ثلاثة أجزاء، وكتاب «الضعف الجنسي»، و «الرغبة الجنسية عند المرأة»، والمفارقة أننا حصلنا على السماح بعرضها قبيل بدء المعرض، بل ان هذه الكتب نفسها عرضت في الدورة الماضية». وأعرب حمدان عن اعتقاده بأن «جهة دينية، هي التي أوعزت إلى الإدارة بمصادرة هذه الكتب، وهذا مؤشر خطير». ويؤكد احمد نادر (دار الإسراء الأردنية) أن الإدارة «سحبت بعض العناوين من كتبه»، واصفاً هذا التصرف بـ «الغريب والمؤسف». وبينما ذكر ناشرون أن جهة في وزارة الأوقاف هي التي أمرت بالمصادرة، فإن إدارة المعرض تهربت من إعطاء تفسير واضح، وهي تكرر، دائماً، ان الكتب الممنوعة هي تلك التي «تتحدث عن الشعوذة والدجل، وتسيء إلى قيم مجتمعاتنا وتقاليدها، ولا ترتقي إلى المستوى المعرفي المطلوب».
قد لا يصمد هذا التبرير أمام جولة سريعة في أروقة المعرض حيث يكون في مقدور الزائر أن يعثر على مئات العناوين التي تتحدث عن ثقافة سطحية؛ استهلاكية، وعن الغيبيات والخرافات، في الوقت الذي يؤكد جبران أبو جودة (دار الساقي) ان «مؤلفات حازم صاغية محظورة في معرض الكتاب الدمشقي، مثل «وداع العروبة»، و «مأزق الفرد العربي»، و «العرب بين الحجر والذرة» وسواها». ويعدد أبو جودة عناوين أخرى لكتب منعتها الرقابة مثل كتاب «السلطان الخطير» لجيلبير أشقر، و «القاعدة وأخواتها» لكميل الطويل، كما أن كتاب جورج طرابيشي «هرطقات» منع في الأيام الأولى للمعرض ثم سمح بعرضه. ويعلق أبو جودة بنبرة ساخرة: «هل تريد المزيد من العناوين، أم هذه تكفي؟». ويقول نوفل صالح الذي يدير «دار الفرقد»، ويعرض، بالوكالة، كتب «دار الجمل»: «عناوين كثيرة منعت لدار الجمل، والأفضل ألا أذكر أسماءها»!
وبقدر يقظة الحس الرقابي في معرض الكتاب الدمشقي، الذي انتعشت فيه حفلات التوقيع، فإن ما يلفت هو التقاعس عن القيام بأي استطلاعات أو إحصاءات تدلل على عدد الزوار، وتستطلع مزاج القارئ، وتظهر عناوين الكتب الأكثر مبيعاً. ولدى سؤال الناشر عن الكتب الأكثر مبيعاً سيلتفت نحو الوراء وسيعدد لك، في شكل سريع وعابر وعشوائي، تلك الكتب التي تقع أمام بصره. بل ان زميلاً صحافياً تندَّر قائلاً ان «الناشر، في رده على هذا السؤال، يذكر أسماء الكتب الكاسدة لديه في محاولة منه للترويج لها». وفق هذا الإجراء، غير الدقيق، نجد ان الكتب الأكثر مبيعاً في «المركز الثقافي العربي» هي رواية هاروكي موراكامي «كافكا على الشاطئ»، وروايات عبدالرحمن منيف، ومحمد شكري، و «السنّة والإصلاح» لعبدالله العروي، و «اغتيال العقل» لبرهان غليون، و «العلامة: تحليل المفهوم وتاريخه» لأمبرتو إيكو.
أما في دار «رياض الريس»، فإن كتب محمود درويش هي التي تحتل الصدارة، وخصوصاً كتابه الأخير «أثر الفراشة». وفي «المؤسسة العربية» ستكون كتب سليم بركات هي الأكثر مبيعاً. أما الروايات الجديدة الرائجة لدى دار «الآداب» مثل «رائحة القرفة» لسمر يزبك، و «كرسي» لديمة ونوس، و «زهور وسارة وناريمان» لخليل صويلح، و «روائح ماري كلير» للحبيب السالمي، فضلاً عن رواية «عاهرة ونصف مجنون» لحنا مينه الذي اعتاد أن يخص الدار، سنوياً، برواية جديدة لا تترك أي اثر يذكّرنا بصاحب «الشراع والعاصفة». في دار «الشروق» المصرية، التي أثارت جدلاً عندما نشرت مدونات الانترنت في كتب، ثمة إقبال شديد، كما يؤكد مندوب الدار، على كتاب «تاكسي» لخالد الخميسي، وعلى روايات نجيب محفوظ، وخيري شلبي، ورواية «واحة الغروب» لبهاء طاهر التي نالت البوكر العربية، و «عزازيل» ليوسف زيدان. أما في جناح الهيئة العامة السورية للكتاب، فإن الكتب التراثية هي الرائجة، وكذلك كتاب «الحب في الفلسفة اليونانية والمسيحية»، وهو الكتاب الأول المطبوع للمفكر السوري الراحل انطون مقدسي. وفي دار «الفارابي» فإن كتب هايدغر ونيتشه واسبينوزا هي التي تحظى بالشراء، وكذلك روايات أمين معلوف، وكتاب يمنى العيد «في القول الشعري». وفي دار «المدى» يتربع محمد الماغوط على القمة، إضافة إلى آداب أميركا اللاتينية التي يترجمها صالح علماني مثل روايات ماركيز وايزابيل الليندي وماريو فارغاس يوسا... وعلى رغم أن هذه العناوين، وغيرها الكثير، تبشر بأن ثمة ميلاً نحو الثقافة الجادة، غير أن الناشر المصري رضا عوض يرى الأمر من زاوية مختلفة تماماً، إذ يقول إن الكتب الأكثر مبيعاً هي «تلك التي لا تؤسس لفكر، ولا تسهم في بناء مثقف نوعي»، مستنتجاً ان ثمة «تراجعاً ثقافياً عاماً في العالم العربي».
إبراهيم حاج عبدي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد