روايات ألان روب ـ غرييه السينمائية..صنـاعـــة الـوهـــم

22-07-2011

روايات ألان روب ـ غرييه السينمائية..صنـاعـــة الـوهـــم

هل يمكن أن نكتب الصورة؟ هذا ما حاول الكاتب الفرنسي ألان روب-غرييه أن يفعله من خلال أدبه. بالفعل، عبّر هذا الكاتب بفضل رواياته السينمائية عن العبور من ثقافة الكلمة الى ثقافة الصورة. فهو بذلك يواكب التغيرات التي جرت في عصره. ويقول ألان روب-غرييه أنه يلاحظ أن الشغف بالسينما ينمو من جيل الى آخر ويحل مكان الشغف بالأدب. فبالنسبة له، إن السينما مجال جديد، ويبدو أن الشباب متلهفون لاكتشافها. وقد أخرج الان روب-غرييه العديد من الأفلام على غرار «السنة الماضية في ماريانباد» (1961)، «الخالدة» (1963)، «الرجل الذي يكذب» (1968)، «الفردوس وبعد» (1971)، «أخذت ن زهر النرد...» (1971)، «اللعبة مع النار» (1974)، «الأسيرة الجميلة» (1983)، «ضجيج يثير الجنون» (1995)، «إنها غراديفا التي تناديك» (2007). وفي ليلة 17 الى 18 شباط من سنة 2008، توفي ألان روب-غرييه إثر نوبة قلبية. إذاً، هو ظل يخرج الأفلام حتى آخر سنوات حياته.
شكّل أدب هذا الكاتب مرآةً لعصر باتت الصورة فيه هي التي تتكلم، فجعل ألان روب-غرييه من كلمته جسر عبور الى الصورة. إنها كلمة تصبو الى أن تكون مرئية. فانطلاقاً من القرن العشرين، بات الإنسان يعيش حقبة غزو الصورة لحياته اليومية. فالصور متواجدة في كل مكان؛ الأفلام، الإعلانات، الصحف، المجلات، التلفزيون، الإنترنت. حلت الصورة محل الكلمة، إذ أنها تصل الى أكبر عدد من الناس بشكل أسهل وأسرع. كما أن الصورة لغة عالمية، الجميع يفهمها. فمن خلال عبوره من التواصل عبر الكلمة الى التواصل عبر الصورة، عبّر ألان روب-غرييه عن ديناميكية هامة على مستوى المخيلة الجماعية. ولكل من الكلمة والصورة خصوصيتها. إذ أن الصورة ترتكز على التفاعل على مستوى الحواس إجمالاً، إنما الكلمة فتفتح أبواب الفكر بشكل خاص.
وإذا كان ألان روب-غرييه قد نجح في عالم السينما فهو قد أنتج كذلك العديد من الروايات على غرار «الغيرة» La Jalousie (1957)، «في المتاهة» Dans le labyrinthe (1959)، «دار المواعيد» La Maison de rendez-vous (1965)، «مشروع لثورة في نيو-يورك» Projet pour une révolution à New-York (1970) و «ذكريات من المثلث الذهبي»Souvenirs du Triangle d’Or (1978). إذاً، بالاضافة الى إنتاجه المتدفق في عالم السينما، لمع ألان روب-غرييه في الكتابة الأدبية، فكان رائداً في مجال «الرواية الجديدة». وقد شكلت روايته Les Gommes (1953) نموذج الرواية الحديثة بامتياز، وحازت على جائزة فينيون عام 1953. كما حازت روايته Le Voyeur «المتلصص» (1955) على جائزة النقاد. هكذا، كرّس روب-غرييه نفسه منظّر «الرواية الجديدة» من خلال عمله «من أجل رواية جديدة» Pour Un Nouveau Roman (1963). ويشير هذا التيار الأدبي الى مجموعة من الأدباء الذين رفضوا الرواية التقليدية بجميع أشكالها؛ تسلسل أحداث الحبكة الروائية والعمق النفسي للشخصيات. يسعى هذا التيار الأدبي لإيجاد أشكال جديدة على مستوى الأدب الروائي من خلال الرفض؛ رفض الشخصية، رفض القصة، وكل عناصر الرواية التقليدية. يبحث هذا التيار الأدبي عن أشكال روائية حديثة تتماشى مع أجواء زمن الكاتب. فبالنسبة لألان روب-غرييه، فقدت الحبكة القصصية أهميتها في «الرواية الجديدة». نذكر في هذا السياق رواية ألان روب-غرييه «الغيرة» La Jalousie «حيث لا يحصل شيء، أو تقريباً لا شيء». ويعترف روب-غرييه بأهمية تأثير السوريالية على «الرواية الجديدة». يبرز على هذا المستوى تفاعلاً عميقاً بين العلاقات الخفية التي تربط مختلف نواحي الحياة اليومية بالفن. فبالنسبة لهذا الأديب، على الرواية أن تتطور لتنخرط في العصر. وما هي أهم عناصر هذا العصر؟ الصورة. لذلك، يحمل أدب ألان روب-غرييه في طياته بداية ولادة الصورة انطلاقاً من الكلمة. فقد شكلت كتابته تلك الفسحة حيث تتحول الكلمة الى صورة. إنها فسحة غير محددة، يُكتب فيها المرئي والمسموع، فسحة الحرف الذي يكتسب لون، حركة ونغمة. جمالية خاصة نابعة من أجواء القرن العشرين.
السينما والرواية
وهكذا، تأرجح ألان روب-غرييه بين عالم الرواية وعالم السينما. ويبدو أن شاعرية السينما وقدرتها على عرض اللاوعي الانساني هما اللتان جذبتا الأدباء إليها إجمالاً. تطرح روايات ألان روب-غرييه السينمائية، مثل «الخالدة» L’Immortelle و«السنة الأخيرة في مارياندباد» L’Année dernière à Marienbad تساؤلات عديدة حول إمكانية المزج بين الأدب والسينما؟ فبالنسبة للعديد من النقاد، تنبع بعض التقنيات السينمائية من عالم الرواية. اما البعض الآخر فيعتبر محاولة روب-غرييه في خلق فيلم من خلال اللغة الروائية شبه مستحيلة. إنما الرواية، كما يحلم بها روب-غرييه، هي وصف وتفسير للفيلم. فيرى بعض النقاد أن وصف روب-غرييه للصورة يكاد يلامس كماليتها، ممّا يسمح باستبدال فصول روائية عديدة بصور. وتقول كوليت أودري أن أسلوب روب-غرييه هو سينمائي وغير سينمائي في آن. إذ أن الكاتب يستخدم التقنيات السينمائية ليخبر قصة غير سينمائية. وبالفعل، بالنسبة لها، لكل نوعٍ من الفنون خصوصيته، ولا يمكن المزج بين السينما والكتابة الأدبية. في هذا السياق، لا يمكننا أن ننكر أن التفاعل بين السينما والأدب واضح على مستوى التأثيرات والتقنيات. فحين يعتمد الكاتب العين السينمائية، هو لم يعد يرى أحداث الرواية بشكل كلي كما في روايات بالزاك، إنما هو يراها بعين الكاميرا التي لا تلتقط بعدستها سوى فسحة محدودة. للكاميرا فسحتها المحدودة، لذلك غالباً ما يذكر روب-غرييه الأغراض التي نعجز أن نراها في هذا المشهد أو ذاك. أما في المشهد الروائي الكلاسيكي، فيمكن للكاتب أن يصف ما يجري في مدينة أخرى، ثم يعود الى مشهده ليتناول الحركة التي تجري فيه.
كتب ألان روب-غرييه سيناريو L’Année dernière à Marienbad «السنة الماضية في ماريانباد» الذي أخرجه ألان رونيه عام 1961، وقد زيّن هذه الرواية السينمائية بـ48 صورة. تتمحور قصة هذا الفيلم السينمائي حول محاولة إقناعٍ بالوهم. إذ، يخلق بطل الرواية حقيقة من رؤيته ومن كلمته. إنه خياله الذي يتحكم بالواقع، وليس العكس. تجري أحداث هذه الرواية السينمائية في فندق فخم كبير. يعبر رجل مجهول من صالةٍ الى أخرى، ينظر في وجوه ناس لا يعرفهم. يلفت وجه إحدى النساء نظره، فيتكلم معها. يقدم لها الماضي، المستقبل والحرية، ويقول لها أنهما التقيا منذ سنة، أنهما وقعا في الغرام، وأنه عاد الآن في هذا الموعد ليأخذها معه. هل هو غاوٍ؟ مجنون؟ أو هو عاجز عن التمييز بين وجهها ووجه شخصٍ آخر؟ في بادئ الأمر، يظن القارئ أن هذا الرجل يمزح. ولكنه يبدو أنه مصر، فتخاف منه تلك المرأة. ولكن ما يلبث الوضع أن يتغير. فتنخرط تلك المرأة تدريجياً في الوهم الذي اختلقه هذا الرجل المجهول. هي لم تعد تريد أن تتركه، إذ أنها تقتنع أنه قد يكون زوجها. بالفعل، يبدو لها أن هذه القصة التي يرويها لها هذا المجهول حقيقةً، وليست خيالاً. فيتمازج الماضي بالحاضر، بينما بات التوتر الذي طغى على نفس تلك المرأة يولد إستيهام اغتصاب، قتل وانتحار. وأخيراً، تسمح له في أن يجرفها في منطقه، وتلعب دور المرأة التي ينتظرها ليأخذها معه الى الحرية، أو ربما الى الموت. وهكذا، إن حبكة هذه الرواية السينمائية مبنية أصلاً على الوهم. وبالفعل، لا تنطلق القصة من الواقع، إنما من خيال هذا الرجل الذي جعل من حبيبته شخصية في قصة نبعت من خياله. يعبّر هذا العمل الأدبي عن الوهم السينمائي الذي ينطلق من الخيال ليحوّل الواقع ويبدله بالطريقة التي يشاء.
الوهم
نلاحظ أن هذا الرجل يلعب دور المخرج الذي يفرض على تلك المرأة لعب الدور الذي يشاء، وهي تقاوم، إذ أنها تريد أن تكون هي نفسها، وتأبى أن تولد من خيال ذلك المجهول على غرار الشخصيات السينمائية التي تخلق من خيال المخرج: «صوت إكس: أول مرة رأيتك فيها، كان ذلك في حدائق فرديريكسباد... (...) صوت إكس: كنت وحيدة، بعيدة عن الآخرين، واقفة قرب درابزين من الحجارة وضعت عليها يدك، وكان ساعدك شبه ممدود. استدرت، قليلاً نحو الجانب، باتجاه الممر الرئيسي الكبير، ولم تريني قادماً. وحده صوت خطواتي على الحصى جذب انتباهك فأدرتي وجهك». على الرغم من كل هذه المحاولات، تعجز هذه المرأة عن أن تتذكر لقاءهما في الماضي، فتجيبه: «لا أظن أنك تتكلم عني. يبدو أنك أخطأت». على الرغم من تلك الإجابة، يتابع الرجل محاولته في إقناعها بأنها هي تلك المرأة التي تسكن ذكرياته وخياله: «صوت إكس: كنت وحيدة، على الحياد. كنت واقفة، بطريقة غير مباشرة، قرب درابزين من الحجارة، وضعت عليها يدك، وكان ساعدك شبه ممدود...». يسكت. لم تكن أ تقف كما يشير النص (...) فصححت وقفتها: ابتعدت قليلاً من الدرابزين، استدارت قليلاً جانباً، ومدت ساعدها لتضع يدها على الحجارة (بينما كانت تمد ساعديها على طول جسدها) وتنظر الى الممر الرئيسي». في هذا المقتطف، يبدو أن هذا الرجل نجح في لعب دور المخرج، فجعل تلك المرأة تلعب دور حبيبته. إذ أن حركاتها وكلماتها تنبعان من خياله، وليس العكس. وهو لا يبدو أنه يولي للواقع أهمية فعلية، إذ أنه يجيبها حين تسأله عن اسمه: «ليس لذلك أهمية». لذلك، هي تحاول أن تبعده عنها، فتقول له: «أنت كالظل ـ وتنتظر مني أن أقترب ـ دعني وشأني... دعني وشأني... دعني وشأني!». هكذا، هي تقاوم ذلك الوهم الذي بدأ يجتاحها ليجعلها جزءا من عالم الصورة السينمائية.
بالفعل، لا يكف الرجل عن محاولة إدراج هذه المرأة في وهم الصورة، وذلك من خلال تناول الثياب التي تشكل جزءا هاماً من عالم السينما: «إكس: كنتِ جالسة على حافة السرير، وترتدين قميص الحمام، أو لباس البيت... الأبيض. كنت أذكر أنك كنتِ تلبسين الأبيض بشكل كامل، كما كنت تنتعلين الخفين البيضاوين، وهذا السوار. أ: كلا...كلا! أنت تؤلف... أنا أكيدة أنك تؤلف... لم يكن لدي قط قميص حمام. أنت تدرك تماماً أنك تتكلم عن شخص آخر...». كما يتطرق هذا الرجل الى المكان الذي يشكل كذلك أهم عناصر الوهم السينمائي: «حديقة... قد تكون أية حديقة... كان علي أن أريك ديكور الدنتيل الأبيض، حولك، بحر الدنتيل حيث كان جسدك... إنما كل الأجساد تتشابه، وكل ثياب الدنتيل النسائية، كل الفنادق، كل التماثيل، كل الحدائق... (توقف) ولكن هذه الحديقة، بالنسبة لي، لا تشبه أية حديقة أخرى... كل يوم، كنت أراك فيها». ويبدو أن كل هذا الخيال يرتبط بشاعرية خاصة يتمازج فيها المكان بجسد المرأة. إذ أن المرأة صورة فنية، وهي أجمل ما أبرزته السينما. بالفعل، تشكل الصورة بشكل عام فسحة جسد المرأة بامتياز.
بالاضافة الى ذلك، نتطرق الى رواية «الخالدة» L’immortelle حيث لعب المرئي والمسموع دوراً هاماً، إذ أننا نشهد على عبارات مثل: «طغت زقزقات وغناء العصافير على أجواء الممرات الصاخبة كما في التصاميم السابقة»، «تتحرك الكاميرا منذ بداية التصميم: تتأرجح من الشمال الى اليمين، عارضةً الحائط وفتحاته المتتالية التي نشاهد من خلالها، وراء الشبك، أشجار المقبرة والأضرحة»، «يتتابع المشهد، نراه عن كثب، من داخل المقبرة»، «تنظر ن باستمرار نحو الورشة (التي لا نراها هنا)»، «ومن ثم، وبشكل فجائي، يصبح كل شيء أسود، بينما نسمع صدمة حادث السيارة الأخيرة»، «نرى، من خلفها، مساجد إسطنبول الكبيرة، التي تتقارب ببطء، قبباً ومآذن، تبرز بوضوح في عتمة سماء ما زالت نيّرةً». «نرى»، «نسمع»، ذلك الفعلان اللذان يتكرران باستمرار في هذه الرواية السينمائية ليشددا على العلاقة بالصورة من خلال التفاعل على المستويين السمعي والبصري. يحاول أن يجعل ألان روب-غرييه من كلمته نقطة انطلاق الخيال نحو مجالات الصورة. إنها العلاقة السمعية-البصرية بالكلمة التي تفتح أبواب الخيال. إذ أن هذه الكلمات المكتوبة تصف مشاهد قد تظهر بأشكال مختلفة في مخيلة كلّ منا. تضم هذه الرواية السينمائية L’Immortelle 355 وصلة، وفي كل منها يصف الروائي مشهداً سينمائياً، فتبرز وكأنها سلسلة من الصور. إنما، تلك الوصلات ليست صوراً، إنما هي نصوص تصف صوراً بشكل تفصيلي لدرجة أن القارئ يشعر أنه يكاد يرى هذه الصورة. بالإضافة الى ذلك، يحتوي الكتاب على 40 صورة، وكأن الكاتب يريد أن يظهر لنا أن الكلمات تحولت بالفعل الى صور. ها هي الإمرأة المستلقية على الأريكة، يبرز صدرها المثير، ما تعجز أن تعبّر عنه أية كلمات. لا يمكننا أن ننكر في هذا السياق دور الصورة الهام على مستوى الإثارة الجنسية. فالصورة هي الجسد بامتياز، تُظهره بتفاصيله، تجمّله، فيبدو أحياناً أكثر جاذبيةً من الواقع. نعرض في هذا السياق صورةً تتمدد فيها ل، وهي ترتدي الجوارب السوداء ومشدّا من الدنتيل. هي جامدة، فخذاها مفتوحان، وتنظر بثبات الى الكاميرا. تم تصويرها من فوق ليظهر جسدها بشكل كامل. في هذه الصورة، تقترب الكاميرا كثيراً من جسم المرأة لتظهر تفاصيله وجماليته الحقيقية.
وهكذا، يبرز بشكل جلي الفرق بين الجملة الروائية والصورة. فهل تستطيع الكلمة أن تنقل لنا شكل وجمالية جسد المرأة كما تفعل الصورة؟ بالاضافة الى ذلك، في الجملة، لا نعرف ما هو الغرض الذي يتم وصفه إلا حين نقرأ آخر كلمة من الجملة. أما صورة الفيلم فهي تُظهر الغرض بشكل كامل فوراً. لا تفتح الصورة أبواب الخيال، بل تفرض نفسها كما هي. أما الكلمات في السينما الروائية فتفتح كل الإمكانيات على مستوى الخيال. وعلى القارئ أن ينهي قراءة الوصلة حتى يعرف كل شيء عن هذه الصورة ويكوّن فكرة متكاملة عنها، ممّا يسمح للقارئ في أن يرى من خلال القراءة. وهكذا، تجيب الرواية-السينمائية على الأسئلة التالية: من أين نرى هذا الغرض؟ من أية زاوية يتم تصويره؟ من أية مسافة؟ وبأية إضاءة؟ «نرى من جديد وجه ن، جامد ومتوتر باستمرار، إنما على تصميم أوسع أيضاً: لا نرى سوى العينين، الأنف والفم. تغيّرت الإضاءة: باتت أكثر غرابةً، أقل واقعيةً من جهة مصادر النور». وهكذا، يدخلنا الكاتب في تفاصيل العالم السينمائي من خلال وصف الإضاءة وغيرها من العناصر التي تضفي على الصورة شاعريةً خاصة.
في عالم روب-غرييه الأدبي، تبدو شخصيات الروايات السينمائية وكأنها تتساءل حول مدى حقيقة الصورة. في رواية «الخالدة»، تبدو تلك الشخصيات وكأنها تعي بشكل من الأشكال أنها تعيش في عالم من صنع الخيال، ولكنها ما تلبث أن تغوص في هذا الوهم لتصبح جزءا منه. في هذا السياق، «تقول ل: أنتم ترون جيداً أن كل شيء مزيّف... بيزنطيا!... حتى أنهم ما زالوا يبنون!»، «ن: كيف يمكن أن يكون لذلك تأثير، بما أنها منازل مزيفة»، «ل: أنا بانتظارك يا سيدي... ماذا تريدنا أن نفعل هنا؟ أنت تعرف جيداً أن هذه المدينة ليست حقيقية... إنه ديكور أوبريت لقصة حب». في هذه المشاهد التي تتأرجح بين الواقع والخيال، تظهر الشخصيات ببعدها السطحي. وبالفعل، لا نعرف عن تلك الشخصيات سوى ما ترتديه، وما تقوله. إذ أن في الأفلام، أول ما يبرز من الشخصية السينمائية هو شكلها، على عكس الشخصية الروائية التي يتم وصف عمقها النفسي بامتياز: «وجه الرجل الثالث، نراه مواجهةً؛ هو شاب، ثيابه على الموضة الأوروبية ويضع نظارات شمسية كبيرة»، «ناس يعبرون في كل الاتجاهات، بأعداد كثيرة نوعاً ما، رجال ونساء عاديين بثيابٍ على الموضة الأوروبية»، «يرتديان ملابسهما كما في المشهد رقم 45: ن بالسترة الفاتحة، قميص رياضي وبنطالون ذات ألوان قاتمة، ل بفستان ناعم من القطن». إذاً، في هذه الرواية، يبرز كلّ من الشخصيات ببعده السينمائي.
بالاضافة الى ذلك، للصورة السينمائية تفاعلها الخاص مع العنف والموت، إذ أنها تجعل منه استعراضاً، إنما هو استعراض لصورة تكتسب طابعاً أبدياً بما أنها لا تموت. الصورة السينمائية لا تموت. إنما هي خالدة، كما يوحي عنوان إحدى روايات ألان روب-غرييه السينمائية. فهل كفت مارلين مونرو عن الابتسام بشكل مثير على الشاشة؟ وهل يكف كلينت إستوود عن لعب دور البطل؟ هما دائماً في هذه الحالة حتى بعد موتهما الحقيقي. فالصورة السينمائية تحافظ على وجودهما في المخيلة والذاكرة. وبالفعل، في رواية «الخالدة» السينمائية، تعود ل التي توفيت في حادث سير لتظهر في آخر مقتطفات الرواية: «هنا، يبرز تصميم كثير العتمة، شفقي، إنما واضح وشديد التناقد: ل، بمتناول النظر، وهي تنظر مواجهةً نحو الكاميرا، في مقدمة باخرة النقل المشترك من البوسفور. هي ترتدي ثوباً أسود، متأنقة، تتكئ على درابزين من حديد. نشاهد، خلفها، مساجد إسطنبول الكبيرة التي تتقارب ببطء، قبباً ومآذن، وتبرز بوضوح في سواد سماء ما زالت نيّرةً. تتواصل أصوات صفارات الإنذار، بكثافة، وترافقها ضربات المطرقات الموزونة. باتت المرأة تضحك، وكانت ضحكتها صامتة، يتمازج معها شيء من الاستهتار والخفة. ولكن ما لبثت معالم وجهها أن استعادت جديتها. جمد وجهها. نسمع حينها أغنية سوداوية من الوصلة رقم 321 تعيد نفسها، لتحل تدريجياً محل صوت المطرقات وصفارات الإنذار، بينما بدأت المقدمة النهائية للفيلم تُعرض على طباعة الصورة الفوقية». وهكذا، انتهى الفيلم، ماتت آخر صورة منه بعد أن ظهرت للمرة الأخيرة تلك المرأة التي ماتت، أو ربما لم تمت فعلاً. إنما الصورة لا تموت، لا تشيخ ولا تموت. هي خالدة، لا يؤثر عليها مرور الوقت.


في الأفلام كما في الروايات، نجد أهمية الصورة، الزمن الحاضر السردي، بنية دائرية للعمل الفني أوالأدبي.
نلاحظ إعادة بروز نفس الأغراض، نفس الأمكنة، نفس الوجوه في الروايات والأفلام. في L’Immortelle، إنه ضجيج السفن، بعض العجزة، ممرات، أنقاض، مساجد والبوسفور.
يجب أن نميز بين الموضوع الأدبي والموضوع السينمائي الذي نتواصل معه على المستويين السمعي والبصري.
من سنة 1972 حتى 1997، علم ألان روب-غرييه في الولايات المتحدة الأميركية في جامعة نيو-يورك وفي جامعة سان-لويس في واشنطن. كما أنه أدار مركز العلوم الاجتماعية والأدب في جامعة بروكسيل من سنة 1980 حتى 1988.

منيرة أبي زيد

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...