سوريا: هل اقترب يوم القيامة؟
منذُ مئاتِ القرون والبشر ينتظرونَ نهايةَ الكون أو ما يُسمى في المفهوم الديني قيامَ الساعة، لكنَّ النفس البشرية اعتادت أن تربط كل انتكاساتها بقيامتِها الخاصة، فهناك من يرى ذلك مثلاً بفقدانِ عزيزٍ، بل إن قيام الساعة بات أشبهَ بالمصطلح الذي نوظفهُ بما يتوافق مع حالتنا ليتحول هذا المصطلح إلى قيام الساعة العاطفي، أو قيام الساعة الرياضي، وفي هذا العالم المجنون الذي تتشابك مساراته في اتجاهاتهِ الأربعة يصبح السؤال المنطقي: ماذا عن يوم القيامة السياسي؟
واقعياً فإن السياسة في لغةِ المصالح تبدو هي المحرك الأساسي ليوم القيامة السياسي، لأن ما يجري من جنونٍ في هذا العالم يجعلنا ببساطة نتحول لإسقاط كل هذا الدمار على الفشل السياسي الذي ظاهرهُ حروب وباطنهُ تآمر، لكن مابين ظاهرهُ وباطنه هناك أبرياء، وإذا كانت المراجع تحدثت عن «العلامات الصغرى» لاقتراب يوم الساعة فإنها في النهاية لا تبدو تختلف عن القيامة السياسية، على الأقل في علاماتٍ ثلاث، فما هي؟
أولاً: في الرواية الدينية فإن من علاماتِ اقترابِ يوم القيامة هو تشبهُ النساءِ بالرجال، وتشبه الرجال بالنساء: ربما لم تُذكر هذه العلامة من فراغ لأنها تركت لنا إعمال العقل واستنباط العِبر وليس الاستسلام فقط لكل ما هو منقول، بل إن هذه الفرضية يمكننا البناء عليها لنتساءل، ماذا يحدث عندما يتقمص الصهيوني جسدَ الوهابي، ويعتلي الوهابي منبرَ الصهيوني؟
هكذا خرج علينا الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي أفيخاي أدرعي ليقدَّم لنا بمناسبةِ الجمعة الأخيرة من رمضان خطبةً عصماء بلسانٍ وهابيٍّ محنك ذكَّرنا فيها بضرورةِ التسامح إلا مع من يخالفنا مذهبياً، وضرورةَ الجنوح إلى السلم عدا مع من يخالفنا مذهبياً، والأهم ضرورة أن ننزع الحقد في قلوبنا تجاهَ كيانه المسخ دون أن نسامح من يخالفنا مذهبياً، أما رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو فلم يكن حالهُ أفضل، فبالكاد كان ينقصهُ دشداشةً سعودية، وميكرفون مذهَّب ليصبح داعيةً في التحذير من الخطر الإيراني و«تشييع المنطقة».
نتنياهو عادَ من جولته الأوروبية الأخيرة إلى عواصم القرار الأوروبي الثلاث باريس ولندن وبرلين بخفَي حنين، فهو أخفق بالحشد الذي كان يطمح إليه ضد إيران، وفشل كذلك في الحصول على ضماناتٍ أوروبية بتجميد العمل بالاتفاق النووي مع إيران، بل إن المصادر الدبلوماسية في العاصمة الفرنسية باريس أكدت أن نتنياهو حاول أن يعودَ بانتصارٍ ما على الأقل، وهو اعتراف أوروبي بسيادةِ الإسرائيليين على الجولان السوري المحتل، لكن الرد الفرنسي كان أن لا علاقةَ لباريس بمواقف واشنطن والموقف من الجولان تماماً كما الموقف من القدس، هذه الخيبات التي مُني بها نتنياهو جعلته أشبهَ بالتاجر الذي أصابهُ الإفلاس، إذ إنه لم يكتفِ فقط برفضِ لقاء مسؤولة الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيدريكا موغيريني كعقابٍ للأوروبيين على تجاهل مطالبه ما دفع الأخيرة لإلغاء زيارتها إلى فلسطين المحتلة، لكنه شرعَ يبحث في دفاترهِ القديمة عساه يجد ما يمكن أن يؤمِّن له سنداً في الانتكاسات المتتالية، فلم يجد إلا العودة للتحريض المذهبي، هذا السلاح الذي أثبت إخفاقه لأنه ببساطة قادر أن يحرك المشاعر عند ضعافِ النفوس المحاصرين بفتاوى السلطان، لكنه بذاتِ الوقت لا يمكن أن يكون سبباً للحروب بعدَ اليوم، وعندما يضطر عدوك لإعادة إنتاج أسلحتهُ الفاشلة فاعلم أن حالَ ما يفكر به اليوم هو أقل من احتضار وأبعد من عدم التوازن، إنها ببساطة لوثة من الجنون، دون أن ننسى أن الكثير من الجنون قاتل.
ثانياً: في الروايةِ الدينية فإن من علاماتِ قيام الساعة إمارةُ السفهاء وتكلمهم بشؤون العامة، القضية ليست فقط باعتلاء الدجالين ودعاة القتل والفتنة منابرَ الجوامع، هؤلاء جزءٌ من حالةِ السفاهة التي نواجهها، فما الفرق بين سفاهةِ فتوى «قتل الثلثين ليحيا الثلث» والتي قد نحتاج لزمنٍ طويل لنعرف هل هي منقولٌ يجب الأخذ بهِ وإن تعارض مع العقل، وبين كلام المجرم جورج بوش عندما ادعى أن الحرب على العراق بأمرٍ إلهي وأن ما يجري يشبه الحروب الصليبية! كلاهما يدعوان للقتل والإجرام باسم الله لكن في السياسة فإن السفاهة لا تقف عند هذا الحد، فمن سفاهةِ التصريحات التي اعتاد عليها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلى سفاهةِ المواقف التي باتت علامةً فارقةً في سياسة دولِ الاتحاد الأوروبي، كلاهما اجتمع على السفاهة والتجارة بمصير الأبرياء وفرَّقتهما المصالح لتنفجر مثلاً قمة الدول الصناعية السبع وتنتهي بحردِ ترامب وعدم التوافق حتى على بيانٍ ختاميٍّ مشترك، تُرى كم عدد الذين تفاءلوا يوماً بانشقاق كهذا؟
إن ارتفاع حدةِ السجالات بين الولايات المتحدة وحلفائها الذي بدا واضحاً في هذهِ القمة لم يكن فقط بالصورة التي بدت عليها تهديدات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للأميركيين، ولا بضياِع ترامب في تصريحاتهِ التي يريد فيها عودة روسيا لدول المجموعة، لكنه بذات الوقت لا يريد التعاون معها، وإصراره ألا يعتذر عن رفع الضرائب على المستوردات الأوروبية، لكن دلالات الانقسام كانت في مكانٍ آخر تماماً، وبمعنى آخر إذا أردنا أن نعرف ماذا حصل في قمة السفهاء، علينا أن نعرف ماذا حصل في قمة الرئيسين الصيني شي جينبيغ والروسي فلاديمير بوتين والتي سيتبعها قمة منظمة شنغهاي للتعاون والتي ستحضرها إيران بصفة مراقب، تحديداً أن هذه القمة تبدو فعلياً تكريساً للمحاور لكن الحكمة تقول إن ليس كل من بنى منظمة أو محوراً سيكون لاعباً في السياسة الدولية، فهناك محاور وقمم لا وجود لها إلا كمسميات، فالرئيس الليبي الراحل معمر القذافي قدّم الكثير للنهوض بالاتحاد الإفريقي لدرجةِ أن تم تلقيبه بملك ملوك إفريقيا، لكن هذا اللقب وهذا الاتحاد لم يكن بإمكانه أن يجد حلاً لخلافٍ بين قبيلتين، أما ما يجري بين الأوروبيين والأميركيين فهو لا يحول التحالف بينهما إلى تحالفٍ على شاكلةِ الاتحاد الإفريقي فحسب هو بالكاد بات كمجلسِ الدراسات الإستراتيجية لدول التعاون الخليجي، وبمعنى آخر يبدو أن الروس والصينيين يسيرون بهدوءٍ اقتصادياً نحو غربلةِ كل التحالفات المضادة، ولكن ما هو بادٍ أكثر أن كلتا الدولتين ستستفيد من ترهلِ الطرف الآخر أكثر من استفادتهما من فرطِ قوتهما الاقتصادية والعسكرية، والقاعدة بسيطة: من يملك الاقتصاد فسيرِث العالم.
ثالثاً: فإن من علامات اقتراب الساعة تصديقَ الكاذب، وتكذيب الصّادق وانتشار الكذب. في السياسة قد لا نبدو بأي حالٍ من الأحوال بحاجةٍ لبذل مجهودات للإشارة إلى الصادق، لأن الالتزام بالنهج المحدد أياً كان وعدم الاعتداء على الآخرين من أهم سمات هذا الصدق، لكننا بكل تأكيد بحاجة أن نقول للكاذب إنك كاذب تحديداً أن الدبلوماسية تعطي السياسي الكثيرَ من التعابير التي تغلف كذبهُ برداءِ الصدق، والكثير من النظريات التي تسمي تلونهُ السياسي البراغماتية، هذا الحال ينطبق على سلطان الإرهابيين رجب طيب أردوغان كرئيسِ دولة وبذات الوقت ينطبق على أصحاب الطموحات الانفصالية في الشمال السوري كتنظيمات مسلحة، فالانفصاليون الأكراد الذين رفضوا تسليمَ عفرين للجيش العربي السوري ما يؤمن منع دخول «عدوهم» التركي إليها وتهجيرهم منها بدوا وكأنهم متحالفون مع السلطان العثماني من تحت الطاولة ليقودوا مصير الشمال السوري نحو الهاوية ويعيدوا الكرَّة ثانية في منبج، بل اللافت أن من يدّعي الحرص على «مستقبل الأكراد» كان يسلم منبج السورية للتركي في الوقت الذي تشن فيه قوات النظام التركي هجوماً على أبناء جلدتهم في جبال قنديل شمال العراق، ليخرج بعضهم مردداً أنهم لم يكونوا يوماً انفصاليين بل قد يتعاونون مع دمشق وروسيا، لكن بعد ماذا؟ بعد أن باعهم الأميركي في سوق النخاسة التركي؟ أم بعد أن قرر الأميركي تسليم قيادات داعش المستسلمة قيادةَ ميليشيا «قوات سورية الديمقراطية – قسد» لنزع الصفة الكردية عنها! أما التركي فلسنا بحاجةٍ للاستفاضة في سردِ أكاذيبهِ تحديداً بعد الانعطافة الأردوغانية نحو الأميركيين في منبج وما تلاها من تصريحاتٍ لوزير الدفاع الأميركي باستحالة الانسحاب من سورية في الوقت الراهن، فماذا ينتظرنا؟
ببساطة من كل ما تقدم لا يبدو لنا أن الرواية الدينية الوضعِية تختلف في أبعادها عن الحالة السياسية تحديداً إذا ما امتلكنا القوة على الاعتراف بأن معظم تلك الروايات البشرية كانت بالنهاية نتيجة لأهداف سياسية، وإذا كان المفهوم الديني ليوم القيامة هو يوم الثواب والعقاب فإن يوم القيامة السياسي لا يختلف كثيراً مع فرق بسيط بأن لا حياة تلي يوم القيامة، أما في يوم القيامة السياسي فإن الحياة ستبدأ معه وإذا كان يوم القيامة الديني ليس معلوم التاريخ فإن تاريخ يوم القيامة السياسي واضح: اضبطوا ساعاتكم على الصمود السوري لا أكثر.
فراس عزيز ديب - الوطن
إضافة تعليق جديد