شرقي الفرات
عبر مخاوف وزیر الخارجیة الروسي سیرغي لافروف بشأن شرقي الفرات عن مساحة اشتباك إقلیمي یحاول الجمیع تجاھلھا، فمنذ أن بدأت الولایات المتحدة بدعم «قوات سوریة الدیمقراطیة – قسد» تحول شرقي الفرات باتجاه احتمالات جدیدة، ولم تعد مسألة الإرھاب وداعش عاملاً وحیداً بل انتقل مستقبل المنطقة كله.
باتت مسألة القوة الكردیة المتزایدة منذ معركة عین العرب (كوباني) حلاً ردیفاً لواشنطن لتغییر العلاقات السیاسیة، وھي لم تثر حفیظة الأتراك فقط عبر دعم القوات الكردیة في سوریة، بل نقلت المعركة على الإرھاب إلى صراع إقلیمي یضمن لھا على الأقل القدرة على التلاعب بالتوازنات، فالتخوف الروسي الیوم لا یعني فقط «إنشاء كیان» حسب تعبیر لافروف، بل إزاحة الصراع نحو حالة جدیدة، وإدخال سوریة والمنطقة بنموذج جدید یشبه التوازن
في العراق؛ لكنه أخطر بكثیر نتیجة الوجود العسكري الدولي على الأرض السوریة.
عملیاً فإن الجزیرة السوریة لیست خزاناً زراعیاً واقتصادیاً لسوریة فقط، بل ھي جغرافیا لتوازن صعب أوجده المنتصرون بعد الحرب العالمیة الأولى، والأھم أن المنطقة التي ُرسمت للحفاظ على الدول الجدیدة التي ظھرت نتیجة انھیار الإمبراطوریة العثمانیة، ولم یكن عبثاً إلغاء معاھدة سیفر التي تعطي الأكراد الحق بإنشاء دولة لمصلحة معاھدة سان ریمون، ففي المعاھدة الأخیرة ضمنت الدول المنتدبة استقرار الدول الجدیدة، فقضیة الأكراد كانت تعني كیاناً بریاً واسعاً یخلق توتراً مع الكتل الكبرى في الشرق الأوسط: تركیا وإیران.
السؤال الأساسي الذي یظھر مع الدعم الأمیركي لقوات «قسد» ھل ترید واشنطن بالفعل اللعب بجغرافیة الدول القائمة؟ وھنا لا یمكن وضع أي جواب منطقي وواضح، ولا حتى الركون إلى الاحتمالات نتیجة تداعیات الحرب، فالولایات المتحدة نادراً ما تحاول التحكم بتدحرج الأزمات، أو تطویق بؤر التوتر، فما یعنیھا ھو إفقاد منافسیھا الإقلیمیین والدولیین القدرة على المبادرة، وفي ظل صراعاتھا الاقتصادیة الحالیة مع الصین؛ فإنھا مھتمة بإغلاق
المنطقة الآسیویة بالكامل وخصوصاً مع التفكیر الصیني بإعادة مجد التجارة البریة.
إن أي كیان في شرق الفرات، ورغم امتلاكه لبعض مصادر النفط سیبقى نموذجاً لحالة التعایش مع «عدم التوازن»، فھو سیشكل جبھة مشتركة مع تركیا وإیران أیضاً التي تخشى المسألة الكردیة في شمالھا الغربي، ورغم ھشاشة أي كیان جدید لكنه سیخلق مسألتین أساسیتین:
– الأولى فتح إمكانیة صعود قوى صغیرة لیس في شرق الفرات فقط، بل على امتداد شرق المتوسط أیضاً، فعندما بدأ الحدیث عن إقلیم كردستان العراق ظھرت كل المسائل العرقیة وعلى الأخص مشكلة «التركمان» في كركوك وغیرھا. بالتأكید فإن الأكراد یشكلون كتلة سكانیة أكبر من باقي الإثنیات، لكن كتلة ممتدة ومتدحرجة على طول مساحة الشرق الأوسط، لا یمكن الحدیث عنھا بشكل عابر لأنھا تعني في النھایة أكثر من تغییر الخرائط، فالمشھد الاقتصادي – السیاسي سیتحول بشكل حاد نتیجة الصراع الإقلیمي الذي ستخلفھ ھذه المسألة.
– الثانیة سیوجد التفكیك واقعاً غیر مسبوق على الأخص لآسیا الوسطى المرتبطة جغرافیاًمع مناطق التوتر، فأي كیان كردي مھما صغر سیعني في النھایة إفقاد الدول القائمة إمكانیة البقاء لأنه سیمتص عامل القوة منھا جغرافیاً واقتصادیاً
عندما تم تقسیم المنطقة بعد الحرب العالمیة الأولى فإن الدول التي ظھرت كانت ضمن الحد الأدنى الجغرافي لبقائھا، ورغم أن ھذا الأمر كان مفصلاً على قیاس المصلحة البریطانیة – الفرنسیة، لكنه أصبح واقعاً بعد نحو القرن من انھیار الإمبراطوریة العثمانیة، وانھیار ھذه الدول لا یعني بالضرورة قدرة أي «دولة كردیة» على الظھور، فالاحتمال الأكثر ترجیحاً ھو ظھور صراع على امتداد المساحة المحتملة للدولة الكردیة، فالتناقضات التي ستنفجر لیست محكومة بقوة العصبیة الكردیة، بل أیضاً بعوامل تفصیلیة كثیرة، والتجارب التي خاضتھا دول المنطقة تشیر إلى أن العوامل القومیة غالباً ما تنھار لمصلحة تجاذبات أخرى.
المخاوف الروسیة من شرقي الفرات لیست جدیدة لكن استحقاقھا على ما یبدو بات قریباً، وحدیث لافروف یؤكد أن ھذه المسألة باتت على أعتاب مرحلة مختلفة أو ربما نقطة صراع ساخنة في حال انتھى الوضع العسكري في إدلب.
الوطن
إضافة تعليق جديد